الجن.. في القرآن الكريم

الجن.. في القرآن الكريم

محمد حلمي الشافعي

كاتب

الجن.. بين الحقيقة والخرافة (8)

سورة الرحمن

وإذا وصلت بنا التلاوة إلى سورة الرحمن، وجدنا سورة قرآنية توجه حديثها كله إلى فريقين من المخاطبين. فبعد ذكر بعض النعم الربانية من خلق الإنسان، وتعليم القرآن والبيان، وذكر الشمس والقمر والنجم والشجر ورفع السماء ووضع الميزان، ثم جعل الأرض للأنام، وذكر ما فيها من نخل وفاكهة وحب وريحان، تقول:

فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (الرحمن: 14-17)

وبعد ذكر عدد آخر من النعم والآيات والحقائق المشهودة المعروفة لأهل الأرض.. وبعد كل آية تسأل الفريقين الذين يستمعان وينتفعان ويشهدان كل تلكم النعم.. سؤال تقرير وتوجيه ولفت انتباه: فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ ثم تتبع ذلك بتحد وتحذير، أو هو شحذ للهمم ولفت نظر لآفاق جديدة في الكون، فتقول:

سَنَفرُغُ لكم أيها الثقلان* فبأي آلاء ربكما تكذبان* يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (الرحمن: 32-34)

وتشير الآيات بعد ذلك إلى عقاب المجرمين فتقول:

فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (الرحمن: 40-42)

وتتحدث عن النعيم لمن خاف مقام ربه فتقول:

فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (الرحمن: 71-75)

ولقد سبق أن تناولنا المراد من خلق الإنسان من صلصال والمراد من خلق الجان من نار.. ولا بأس من أن نوجز هنا فنقول: حين يُذكر أن مخلوقا ما قد خلق من شيء معين.. يراد به أن المخلوق يحمل في طبائعه بعض خصائص هذا الشيء الذي خلق منه. فالإنسان يحمل من الطين ليونته وبرودته وقابليته للتشكل والانقياد، وهذه طبائع عامة البشر. أما الجان فهم ذوو حمية وأنفة واندفاع ورغبة في القيادة والزعامة ولهم تميز عن غيرهم في نزعاتهم ومسلكهم، وهذه طبائع السادة والقادة. ولو أن المراد كان غير ذلك.. فما دخل الجن أو الجان بكل تلك الماديات مثل الأشجار والفواكه، والسفن والبحار، والنجم والشجر، والميزان والنحاس، والفرش والحرير والنساء الجميلات؟ إن كل تلك الأمور تتعلق بالبشر وحدهم ولا دخل للجن بها إلا إذا كانوا بشرا مثلهم.. مع تباين في المقام أو الدور الاجتماعي وما إلى ذلك.

الواقع إن سورة الرحمن لهي من أعظم البراهين على أن القرآن عندما يتحدث عن الجن والإنس فإنما يتحدث عن وجهين لعملة واحدة. هي عملة البشر، أو فرعين لشجرة واحدة.. هي شجرة بني آدم.

ونلفت النظر هنا إلى أن (الثقلين) في السورة التي تحدث البشر في زمن التنزيل تكلمهم اليوم أيضا. فالثقلان هما قادة الكفار وعامتهم، أو هم الروم والفرس بعد ذلك.. وهم اليوم كُتلة الشرق المادية الملحدة وكتلة الغرب المادية الصليبية. كما أن (الإنس والجان) في الحديث عن حور الجنة من النساء المؤمنات- فيراد بهما البشر عامة.. والأفكار النفسية الباطنية، بمعنى أن تلكم الحور لم يمسس ظهرهن البشر.. ولم يداخل نفوسهن أفكار أو ميول خفية مما قد ينال من صلاحهن وعفافهن.

ولا يفوتنا ملاحظة أن سورة (الرحمن) بدأت بذكر صفة الرحمانية التي تُذَكرنا برحمة الله التي تفيض على كل عباده من غير استحقاق من جانبهم، ولقد كان تعليم القرآن هو من أجل فيوضات هذا الاسم الجليل. ثم ذكرت بعد ذلك إشارة جلية إلى أن الإنسان هو محل النعمة القرآنية، وأن الهدف الأسمى للقرآن هو أن يصل بالبشر إلى مرتبة الإنسانية الكاملة، التي تعرف ربها وخالقها وآلائه عليها.. ومن ثم تعبده العبادة التي تحقق الغرض من خلق الإنسان.

حين يُذكر أن مخلوقا ما قد خلق من شيء معين.. يراد به أن المخلوق يحمل في طبائعه بعض خصائص هذا الشيء الذي خلق منه. فالإنسان يحمل من الطين ليونته وبرودته وقابليته للتشكل والانقياد، وهذه طبائع عامة البشر. أما الجان فهم ذوو حمية وأنفة واندفاع ورغبة في القيادة والزعامة ولهم تميز عن غيرهم في نزعاتهم ومسلكهم، وهذه طبائع السادة والقادة.

سورة الجن

وفي سورة (الجن) نجد أن الحديث يتناول جماعة من العقلاء، سمعوا بعض آيات من القرآن الحكيم.. ربما من شفتي الرسول وربما من بعض صحابته الكرام.

ولم يكن المصطفى على علم بهذه الواقعة وما يترتب عليها من آثار حميدة في مستقبل انتشار الإسلام. ولقد أوحى الله إليه خبرهم مبشرا له بإيمانهم وإسلامهم وعملهم على نشر الدعوة بين قومهم. وهؤلاء النفر غير الذين حَكَت عنهم سورة (الأحقاف) آنفا. ذلك لأن أولئك كانوا يعرفون كتاب موسى أي التوراة ولم يذكروا شيئا عن عيسى وإنجيله. واليهود هم الذين لا يعترفون بالمسيح بن مريم وكتابه. ولو أنهم كانوا من النصارى لأشاروا إلى ذلك. أما النفر هنا فهم من النصارى لأنهم ذكروا معتقدا من المعتقدات الأساسية عند المسيحيين.. وهو البنوة لله تعالى. ويبدو أن بعضهم كان من رجال الكهنوت.. وهؤلاء هم أدرى الناس بما هم فيه من الضلال والتضليل وممارسات الدجل والشعوذة والتقول على الله والرجم بالغيب. ولقد عرف هؤلاء من آيات القرآن أن سوق الباطل والجرأة على السماء قد كسد، وأن محمدا وصحبه.. وفي أيديهم ذلك الكتاب السماوي ينير لهم طريقهم ويهديهم سواء السبيل.. سوف يصدون كل عدوان عقائدي على وحدانية الله تعالى، ولن يبقى الميدان بعد خاليا أمام الدجل والباطل.

إن إيمان هذا النفر الكريم من النصارى يبث بلا ريب في نفس النبي وصحابته الأبرار روح الأمل بما يقوي فيهم العزائم ويطمئنهم على مستقبل دينهم الحنيف.. الذي يبذلون كل غال رخيصا من أجل إذاعته في العالمين. ولا بد أن هؤلاء النفر قد أثمرت دعوتهم نورا في قلوب أقوامهم، فما أن وصلت طلائع المسلمين إلى بلادهم في الشام ومصر والعراق حتى بادروا يستقبلون الإسلام بالقبول والرضا والترحاب.. ولعل هذا النبأ العظيم كان وراء العناية النبوية ولفتته الكريمة.. إذ حث صحابته كي يستوصوا بالنصارى خيرا.

ونلاحظ في حديث الجن عن الإعجاز في الأرض والهرب والحطب والماء الغدق.. أنهم رجال من البشر، كل ما في الأمر أنهم لما سمعوا القرآن لم يتنبه لهم أحد.. كما أنهم كتموا أمرهم عن أهل مكة. وأراد القرآن أن يجعلهم بشارة مخبوءة للمسلمين.

كلما جاء ذكر الطائفتين معا قُدِّم الجن على الإنس دلالة على تمَيزهم من ناحية القوة والسلطان والمهارة وكافة الأمور الدنيوية. أما إذا كان المجال روحانيا كان التقدم للإنس

سورة الناس

وفي الختام عند آخر سور القرآن.. سورة (الناس).. نستعيذ بالله برب النور الكاشف للمؤامرات والشرور.. أي مؤامرات أعداء الإسلام والمسلمين.. ومن شرور المتآمرين مدبري الشرور. ثم نستعيذ بالله برب الناس جميعا، ومالك أمرهم وزمامهم.. الجدير وحده بالتأليه والتوقير والمحبة والطاعة.. لكي يقي قارىء القرآن والعامل به والداعي إليه من شرور قد تتسرب إلى النفوس بتحريض فئة مضللة من الناس. والاستعاذة هنا ذات وجهين:

أولهما: أن الوسواس الخناس هو ذلك الذي يسعى للتسلل إلى النفوس جميعا.. سواء منها نفوس العامة أو الخاصة.. فقوله مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ يريد به أن موسوس الشر يسعى للتأثير في  الخاصة المتميزين من الشر كما على تضليل عامة الناس.

وثانيهما: أن وسواس الشر نفسه صنفان: الفاسدون من الحكام والقادة الذين يوعزون بالشر إلى الناس، وصنف من أشرار العامة والرعية. ويمكن أن يكون المعنى أيضا أن الوسواس يكون من العوامل الشريرة الخفية الباطنة (الجِنَّة)، أو من فعل البشر عموما (الناس). الآية تستدر الحماية الربانية الملكية الإلهية ضد كل تلك المؤثرات، ومَن سَلِم منها فقد فاز بالمنهج القرآني الذي أتم قراءته بالمعوذتين.

هذا هو كل ما جاء في القرآن الكريم بشأن الجن والجان والجنة. ويلاحظ أن الاستعمال القرآني يتسم بأسلوب معين، نجمله فيما يلي:

  • وصف (الجن) مُعرَّفًا للدلالة على الكبار الذين يلفتون الأنظار، بينما يتضاءل ويختفي غيرهم في وجودهم.. أي أنهم ساترون. وأيضا للدلالة على الخاصة والكبار لأنهم ينأون عن العامة ولا يختلطون بهم ولا يظهرون لهم عادة – أي أنهم مستترون. والكلمة تستعمل في مقابل (الإنس) وهم الأشخاص العاديون من العامة والرعية ورجل الشارع. ولا يميز الاستعمال القرآني بين الفريقين في الخلق أو الدين أو الهداية.. إلخ والفرق بينهما هو في المركز القيادي والمنزلة الاجتماعية للجن وتميزهم عن الإنس في ذلك الدور.
  • وصف (الجان) مُعرّفا للدلالة على البشر في بداية تطورهم قبل تسويتهم وتحضُّرهم، عندما كانوا يعيشون حياة الوحش النافر في الكهوف والمغارات مختفين من فرائسهم ومستترين من أعدائهم. والكلمة مستخدمة في مقابل (الإنسان) وهو البشر بعد تسويته وتحضره وتمدنه. وفي هذا الاستعمال يشير القرآن إلى خلق (الجان) من نار وخلق (الإنسان) من طين.
  • كلمة (جان) منكرة للدلالة على المؤثرات الخفية الباطنة، في مقابل كلمة (إنس) منكرة للدلالة على التأثير البشري المكشوف.
  • وصف (الجِنّة) معرفا للدلالة على صنف معين من الكائنات الخفية أو المتوهمة. الخفية كالملائكة.. والمتوهمة كالأرباب الباطلة والآلهة التي تقوم عبادتها على الوهم الكاذب. ومن أمثلة هذه الأرباب فسدة الكهنة وشرار السدنة والفراعنة والهامانات ورجال الكهنوت المرتزقة من كافة الديانات. وتستعمل الكلمة في مقابل (الناس) وهم أفراد المجتمع العاديون الذين غالبا ما يكونون ضحية ممارسات (الجِنّة). ويلاحظ في الآيات التي تتناول هذه الفئة الفاسدة المفسدة أنها تنذرهم بالعقاب الإلهي وتشير إلى فسادهم.
  • كلما جاء ذكر الطائفتين معا قُدِّم الجن على الإنس دلالة على تمَيزهم من ناحية القوة والسلطان والمهارة وكافة الأمور الدنيوية. أما إذا كان المجال روحانيا كان التقدم للإنس.
Share via
تابعونا على الفايس بوك