في رحاب القرآن

في رحاب القرآن

التحرير

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (127)

شرح الكلمات:

الثمرات – تُستخدم هذه الكلمة عموما للنتائج.كذلك تعني الفواكه الطازجة.

أضطره – اضطرَّه إليه: أحوجه وألجأه إليه (الأقرب)، فمعنى الآية: سوف أحيطه وأدفعه إلى جهنم.

التفسير:

عندما قال الله إننا سوف نجعل بيت الله مرجعا للخلائق ومدعاةً للسلام العالمي.. اتجه إبراهيم فورا إلى ربه داعيا (رب اجعل هذا بلدا آمنا).. يا رب لقد قلت إن الطائفين والعاكفين والركع السجود سوف يأتون إلى هذا المكان، وسيكون عامرا بهم.. لذلك أبتهل إليك أن تجعل منه بلدا آمنا.. أي ليكثر أهله فيصبح بلدا يتوفر فيه الأمن والأمان، ولا يكون بؤرة للفساد والحروب.

عندما دعا إبراهيم بهذا لم تكن مكة بلدا، وإنما كانت هناك بعض الأكواخ، وكانت واديا غير ذي زرع ولا ماء.. فدعا إبراهيم أن اجعل هذه الأرض الجرداء بلدا. ويظن مَن ليس لديهم إلمام باللغة العربية أن إبراهيم دعا أن يجعل الله هذا البلد آمنا.. مع أن إبراهيم لم يقل هذا، وإلا لقال (اجعل هذا البلد آمنا)، ولكنه قال (اجعل هذا بلدا آمنا). فدعاء إبراهيم لم يكن لمدينة يريد لها النماء والازدهار.. وإنما دعا لأرض قفرٍ كي تكون بلدًا آمنا. فهناك احتمال أن يحدث الفساد والفتنة في المدن، لأنه عندما يجتمع الناس ويعيشون معا تقع الشجارات والحروب وأنواع الفساد. ثم هناك غزاة يهاجمون المدن لفتحها والاستيلاء عليها. أو عندما تكبر المدن يحاول أهلها بسط نفوذهم على الآخرين فيهاجمونهم. كل هذه الاحتمالات قد تصيب المدن، لذلك دعا: أدعوك يا رب، أن تجعل هذا المكان بلدا ذا أمن لا يهاجمه أحد، ولا يهاجم أهله الآخرين.. ليتحقق الهدف من بناء الكعبة المشرفة تحققا صحيحا. وكأنما أراد إبراهيم أن يتسع النبأ المتعلق بأمن الكعبة ليشمل هذا البلد الذي سوف يعمر.

الحق أن الله هو الذي أقام حرمة الكعبة المشرفة، أما حرمة مكة المكرمة فقد تأسست بسبب دعاء إبراهيم هذا، لذلك قال النبي عن المدينة: (اللهم إني أحرِّم ما بين لابَتَيْتها بمثل ما حرَّم إبراهيم مكة) (البخاري، كتاب الجهاد).

وفي هذا الدعاء حذف إبراهيم كلمة (مثابة) (ولم يقل بلدا آمنا ومثابة للناس).. أي مكانا يثوب إليه الناس أو مكانا يُثاب الناس على زيارته.. وإنما اكتفى بالدعاء لأمن هذا البلد. والسبب أنه دعا دعاء إضافيا ليكون هذا المكان بلدا أيضًا، ويكون هذا البلد ذا أمن وسلام، لأن الأمن ضروري للكعبة المشرفة وللمقيمين حولها. أما زيارة بلد فلا تُكسب ثوابا، إذ إن العبادة والثواب يتعلقان بالكعبة المشرفة ولا علاقة لهما بمكة.

ويتبين من هذا الدعاء مدى حرص الأنبياء على تحقيق كلام الله تعالى وسعيهم في هذا السبيل. يعترض بعض الناس لجهلهم على الإمام المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام) أنه لماذا كان يحاول تحقيق بعض الإلهامات والأنباء ما دامت وعدا من الله تعالى؟ إن هؤلاء لا ينظرون إلى أن إبراهيم (عليه السلام) بمجرد أن تلقّى الخبر من الله سعى على الفور لتحقيقه واشتغل بالدعاء. كان الله تعالى قد أمره أن يطهِّر بيته للعاكفين، وذلك يعني أن الناس سوف يسكنون هناك ويأتون للزيارة من الخارج.. وهذا يتضمن النبأ بُعمران مدينة في هذا المكان.. وما دام الله تعالى قد قرر ذلك من قبل فما معنى الدعاء لتحقيق هذا القرار؟

الحق أن سبب هذا الدعاء هو أن الله عندما يخبر شيء، فواجب المؤمنين أن يسعوا لتحقيق هذا الخبر، وأول خطوة في هذا السعي أن يبتهلوا إليه حتى لا يُلغي هذا الوعد بسبب تقصير أو غفلة من جانبهم. وإلى جانب هذا الدعاء يسعون للأخذ بالأسباب الظاهرة. ورد في الحديث أن هاجر وإسماعيل (عليهما السلام) عندما سكنا هناك وتفجرت عين زمزم مرت بهما قافلة، ولما رأوا الماء الوفير في هذا المكان سألوا السيدة هاجر أن تسمح لهم بالإقامة هناك، فوافقت (مسند ابن حنبل، ج1 ص253، وتاريخ الطبري). وكان هذا تدبيرا ثانيا لتعمير مكة إذ أتاحت لأهل القافلة موضعا للإقامة عند البيت، ذلك ليتحقق وعد جعل البيت مثابة للناس. فالمعترضون على الإمام المهدي والمسيح الموعود غافلون في الحقيقة عن مضمون كلام الله تعالى. إن من أكبر الواجبات على عباد الله أن يسعوا كل السعي لتحقيق ما أنبأهم الله به من أخبار ووعدهم إياها.

ولو قال قائل: وأي حاجة لله إلى نصرة أحد؟ فاعتراضه هذا لن ينصبَّ على هذا النبأ فقط، بل سيكون على كل أمر وكل نبأ. يقول الله في القرآن الكريم: (وما خلقتُ الجنَّ والإنس إلا ليعبدونِ) (الذاريات: 57). والآن، لو كان الأخذ بالأسباب لتحقيق قول الله ووعده غير جائز.. فعلى الناس أن يكفُّوا عن نصح بعضهم البعض لإقامة الصلاة والعبادة، ويَدَعُوا الناس وشأنهم مع الله فلو شاء الله لجعلهم يعبدونه، فلماذا نسعى نحن لذلك؟ وهذا غير صحيح.

كذلك يقول الله في القرآن الكريم: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحِجر: 10).. أي نحن الذين أنزلنا هذا القرآن، ونحن الذين سوف نحفظه. ولو كان قول المعترض صحيحا..لامتنع المسلمون عن حفظ القرآن الكريم، لأن هذا – بحسب قول المعترض – عمل يقوم به الله تعالى. ومن ثم ينبغي أن نَكُفَّ عن طبع القرآن الكريم، لأن هذا – بحسب قول المعترض – عمل يقوم به الله تعالى.

إذن فهذا اعتراض يدل على الحمق ولا يقبله ذو عقل سليم. ويمكن أن يُستدل بهذه الآية أنه إذا قال الله شيئا فمن واجب المؤمنين أن يسعوا كل السعي، ويأخذوا بكل الأسباب، ولا ينفكوا حتى يتحقق قول الله تعالى.

كما تذكِّرنا الآية أن من واجب العبد أن يحاول التكيف مع ما يريده الله تعالى. قال الله لإبراهيم (لا ينال عهدي الظالمين).. أي لا أعِدُ الظالمين من أولادك بأي إنعام. فانظروا إلى إبراهيم كيف صار حذرا وتكيَّف على الفور مع ما يريده الله؛ وعندما دعا لأهل مكة ابتهل قائلا (وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر).. وأخرج من دعائه كل من لا يؤمن بوحدانية الله تعالى وخص بدعائه المؤمنين بالله واليوم الآخر.

ثم انظروا إلى روعة دعائه: (وارزق أهله من الثمرات).. أي يا رب إنني لا أتوسل إليك لترزقهم طعاما عاديا من الثريد والحلوى والخبز وما إلى ذلك.. بل أتوسل إليك لتتجلى عليهم بربوبيتك العظيمة، فترزقهم بالثمرات فتُحمل إليهم في بلدهم فواكه الشرق والغرب. لقد قدَّمتُ بين يديك يا رب تضحية كبرى.. وأريد يا رب أن أرى ألوهيتك تتجلى بحيث تُيسر لأهل هذا الوادي الخالي من الزرع كلَّ الفواكه الطيبة من أطراف الدنيا.

فتقبَّل الله هذا الدعاء الشبيه بالتحدي من إبراهيم.. وقال: يا إبراهيم، لقد أسكنت أهلك في واد غير ذي زرع، وهكذا ضحيت بابنك إسماعيل.. وتريد أن ترى ألوهيتي. وقلتَ لي: إنني يا رب، رغم أني عبد عاجز فقد أثبتُّ عبوديتي، والآن أرجوك يا رب أن تؤكد لي ألوهيتك.. وطلبت أن يكون الدليل على تجلّي ألوهيتي ألا يصنع هؤلاء طعامهم وإنما يكسبه لهم الناس ويطعمونهم إياه، ولا يقدمون لهم طعاما عاديا وإنما يطعمونهم أفضل الفواكه من كل العالم. إنني أقبل شرطك هذا، وسوف أحقق لك ما أردت في هذا الوادي الخالي من الزرع والكلأ.

ولقد تأكدت بنفسي من صدق هذا الوعد الإلهي في أيام الحج. لقد رأيت في مكة المكرمة قصب السكر الهندي، وعنب الطائف، وأطيب أنواع الرمان. وأشهد أني ما ذقت مثل هذه الأعناب والرمان والتفاح حلاوة. لقد زرت الشام وإيطاليا وبلاد أوروبا، ويقولون في أوروبا إن العنب الإيطالي أجود أنواع العنب، ولكني قلت لأهل إيطاليا إن العنب الذي أكلته في واد غير ذي زرع بمكة كان –بسبب دعاء سيدنا إبراهيم – أجود وأحلى وألذ من عنبكم. والرمان في المناطق حولنا مشهور بجودته، ولكن الرمان الذي أكلته في مكة يفوق ذلك كثيرا في حلاوته وجودته وحجمه.

فالحق أن دعاء إبراهيم (وارزق أهله من الثمرات) لم يكن دعاء عاديا، لأنه لم يطلب الأشياء العادية.. بل دعا لهم بأجود الفواكه من العالم. لقد طلب إبراهيم في دعائه لأهل مكة غاية الرخاء.. لأن تيسر الثمرات في مكة غير ممكن، إذ لا يوجد هناك أي حراثة ولا زراعة، كما أن وصول الفواكه إليها من أماكن بعيدة متعذر.. لأن الثمرات تعني الفاكهة الطازجة الجيدة. وإبراهيم يقول: يا رب لا تحرمهم من هذه النعم أيضًا حتى لا يظنوا أنهم قد انقطعوا عن العالم وصاروا لهذا لبيت فقط. فهيِّئ لهم مثل هذه الأشياء المتميزة.. حتى يكون ذلك حجة على العالم كله أن كيف عمر الله هذه البرية، وأضاء هذا المكان المظلم. وفعلا وببركة هذا الدعاء الإبراهيمي يصل إلى أهل مكة كل أنواع الفواكه الطازجة، وكل الأشياء المتميزة متيسرة هناك.

يُحكى أن أحد الأولياء اشتهى أيام الحج مرة أن يوجد في مكة ثلج يصنع منه مع السُّويق شرابا ملطفا لحرارة الجو الشديدة، فدعا ربه: هذا بيتك يا رب، وقد وعدت أن ترزق أهله كل أنواع الرزق.. فهيِّئ من فضلك الثلج. فأنزل الله البَرَد على مكة. فجمعه الناس، وهكذا هيأ الله له الثلج المطلوب.

لقد دعا إبراهيم لأهل هذا البلد أن يا رب لا تجعل أهل هذا المكان يشعرون بالحرمان من هذه النعم بسبب خدمتهم لبيتك، لذلك ألتمس منك أن ترزقهم من أعلى أنواع الفواكه، وتمتعهم بنعمك حتى يروا أنهم لا يفتقدون شيئا وإنما يتنعّمون بسبب جوارهم للبيت.

ويبدو في ظاهرة الأمر أن إبراهيم قد دعا لرخاء أولاده. ولكنه في الحقيقة أثار غيرة الله تعالى ورحمته.. لأن الله أمره أن طهِّرا بيتي، ففكر أنه قد يدور بخلد بعض الأجيال القادمة أنهم يمنّون على الله تعالى بأنهم يحفظون بيته في واد غير ذي زرع.. وأحبَّ أن يحسوا بأن الله هو الذي يحسن إليهم لا هم؛ لذلك دعا إبراهيم بكل حيطة فقال: يا رب ارزق من الثمرات فقط من آمن بالله واليوم الأخر. وربما كان قصده من هذا الدعاء أنه قد يتضايق غير الصلحاء من شدة الجوع فيخرجون من مكة ولا يبقى فيها إلا الصالحون من عباد الله دائما. ولكن الله تعالى لم يحبذ هذا التخصيص في شأن رزقه.

هنا ينشأ سؤال: لماذا دعا إبراهيم بالثمرات مع أن الإنسان لا يعيش على الثمار فقط وإنما يعيش على الخبز؟

فلنتذكر أن مكة مكان لا يُزرع فيه أي شيء. والأشياء التي تصل إليها تكون صلبة، أما المواد الناعمة الطازجة فلا تصل إليها وإنما تفسد في الطريق. ولقد دعا إبراهيم بالثمار بدلا من الخبز، لأنه رأى أن الثمار إذا وصلت مكة فمن باب أولى تصل إليها الأشياء الأخرى بما فيها الخبز. وقد ذكرت لكم أن أنواع الثمار من كل بلد تصل إلى مكة.

قولة تعالى (ومن كفر فأمتعه قليلا) يعني أن معاملتنا في صدد الرزق عكس معاملتنا في صدد النبوة والإمامة. إن النبوة والإمامة إنما ينالهما الصلحاء، أما الرزق فيتمتع به كل إنسان، وسوف نرزق الكافر أيضًا بالرزق الدنيوي. لقد ظل أهل مكة مشركين لمئات السنين إلا أن الله كان يهيئ لهم الرزق. أما العذاب الأخروي فقال الله لإبراهيم إن الظالمين من نسلك لن ينجوا منه، بل لا بد أن يُلقَوا في جهنم وبئس المصير.

وعبارة (فأمتعه قليلا) لا يعني أنه يمتعهم بالرزق لأيام قليلة، وإنما معناه أنهم ينالون المنفعة الدنيوية التي ذُكرت بنفس المعنى في قوله تعالى (متاع الدنيا قليل). والفاء في (فأمتِّعه) إما زائدة أو للعطف، وهناك خبر محذوف لـ (مَن)، والتقدير من كفر أرْزقه فأمتعه.. أي أمنحه الرزق وأهيئ له المنافع الدنيوية الأخرى. ولكن فيما يتعلق بالمنافع الروحانية فلا ينالها ما لم ينشئْ علاقة مع الأنبياء.

ولا تذكر التوراة هذا الدعاء في أي مكان منها، لأن اليهود محوْا ذكر مكة من التوراة محوا تاما بسبب عداوتهم لبني إسماعيل. نعم هناك ذكر للكعبة المشرفة في بعض المواضع من التوراة.

ويمكن أن نستخرج من هذه الآية استدلالا، قد أكد عليه كثيرا الإمام المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام)، فقد قال إن العذاب لا يأتي بسبب رفض الناس للأنبياء، وإنما ينـزل لفسادهم وشرورهم ضد الأنبياء. لو أنهم عاشوا بالتقوى فلا يمكن أن يحيطهم العذاب فقط لرفضهم الأنبياء. الواقع أن الإنسان مركب من الجسم والروح، فعندما يطيع طاعة جسمانية، يرتاح في عالم الأجسام، ولكن بما أنه لم يكن قد عمل أي عمل للعالم الروحاني الخالص.. فإنه يقع في الأذى في ذلك العالم.

وفي قوله تعالى (ومن كفر فأمتعة قليلا) قدم الله طريقا ساميا لتوطيد الأمن في العالم، وبين أن الاختلاف الديني لا يؤدي إلى قطع العلاقات الدنيوية. ولو أن الناس عملوا بهذا المبدأ، ولم يقعوا في الفتنة والفساد لانمحت كل الخصومات الدينية والفسادات الطائفية.

وقوله تعالى (ثم أضطره إلى عذاب النار) أيضًا يبين أن عبارة (فأمتعه قليلا) لا تعني أن الله يمتعه لأيام قليلة، وإنما المراد أنه سيتمتع المتاع الدنيوي فقط، فالله يقول (ثم أضطره إلى عذاب النار)، والواضح أن عذاب النار يحيط بالإنسان بعد الموت. يقول الله أن لا ملاذ لهم إلا مكان العذاب وبئس المصير.

وقوله تعالى (أضطره) يحمل حكمة. يبدو في الظاهر أن الله سوف يكرههم إلى العذاب، ولكن ليس هذا هو المراد، وإنما أشار بذلك إلى قانون أن الإنسان إذا استمر في ارتكاب السيئات كانت النتيجة المنطقية الحتمية أن تضعف فيه قوى الخير، فينجذب إلى السيئات انجذابا. الذين لا يقبلون هذا القول يقولون إن فعل الخير سهل وسوف نقوم به متى شئنا، ولكن قولهم هذا ليس صحيحا. فنعرف من القرآن أن السيئة ليست شيئا مفردا وإنما هي كالنواة أو البذرة.. فكما أن البذرة تُنبت شجرة، والشجرة تنبت أشجارا جديدة.. كذلك كل سيئة بعد ظهورها تولد سيئات أخرى. وكذلك الحسنة، فإنها بعد ظهورها تُنبت حسنات أخرى. وكون الله تعالى رحيما يشير إلى تكاثر الحسنات لدى الإنسان باستمرار، وكونه قهارا يشير إلى ازدياد الإنسان في السيئات، ولكن هذا لا يعني أن الله تعالى يجبر الإنسان على فعل السيئات، وإنما يعني –كما ذكرت- أنه بسبب ارتكابه السيئات باستمرار يصل إلى حال حيث لا يستطيع تجنب ارتكابها وإن أراد ذلك.

فقوله تعالى (ثم أضطره)لم يكن يشير إلى الجبر والإكراه أو ليدفع الإنسان إلى القنوط واليأس، وإنما جاء لتحذير الإنسان من ارتكاب السيئات، وإلا سوف يأتي عليه وقت يندفع فيه إلى السيئات باستمرار ولا يستطيع العودة منها. أو يصعب عليه ذلك.. لأن الإنسان عندما ينغمس في السيئات يتعذر عليه التخلص منها، وبجد نفسه في حالة اضطرارية لارتكاب المعاصي. ولذلك يقول بعدها (وبئس المصير)، فلو كان هناك إجبار لم يقل ذلك. ونفس الحال بالنسبة لأفعال الإنسان الأخرى؛ هناك كثير من المثقفين الكبار يأتون أحيانا بحركات عجيبة وبأفعال غريبة، ذلك أنهم فعلوا شيئا منها بعض المرات، ثم تعودوا عليه فأصبح عادة عندهم.

فبداية كل من الحسنة والسيئة في خيار الإنسان، ولكن بعد ذلك يصل الأمر إلى مستوى العادة الاضطرارية. ولما كانت البداية في مجال اختيار الإنسان.. لذلك تُعتبر نهاية أمره بحسب اختياره ذاك. فمثلا إذا كانت في الإنسان عادة قديمة لأداء الصلاة فإنه يثاب عليها باستمرار، لأن بداية أداء الصلاة كانت بإرادته. وهكذا الحال بالنسبة للسيئة، فيبدأها الإنسان أيضًا باختياره، ولكنه في آخر الأمر يجد نفسه مضطرا لارتكابها. ولو حاول اجتنابها لم يستطع ذلك، بل يصير عبدا لها.

وقد أشير في قوله تعالى (أضطره إلى عذاب النار) إلى هذا الموضوع نفسه، فإن هؤلاء قد وصلوا إلى حال يجدون أنفسهم فيه مضطرين إلى ارتكاب السيئة، ومن ثم يضطرهم الله إلى جهنم، ويعاملهم بحسب أعمالهم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك