سيرة المهدي - الجزء 2 الحلقة 17
  • كان المسيح الموعود عليه السلام يأمر بجمع الحطب في البيت ويوقد النار لقتل الجراثيم
  • ينسى الناس عند اتباعهم الأسباب أن قوتها مودع فيها من الله
  • يجب اتباع الأسباب من حيث إنها خلقت بيد الله

__

القول الفصل في مدى تقدير الأسباب  (1)

382- بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني الدكتور مير محمد إسماعيل أن المسيح الموعود كان دائم الاهتمام بالنظافة، ولا سيما في أيام الطاعون، فقد كان يوليها اهتماما بالغا، حتى أنه كان يذوّب الفينيل في الإبريق ويصب منه بنفسه في المرحاض ومصارف المياه.

أقول: كان المسيح الموعود أحيانًا يأمر بجمع الحطب في البيت ويوقد النار فيه بغية قتل الجراثيم الضارة، وكان قد اقتنى موقدًا حديديًا كبيرًا يوضع فيه الفحم والكبريت وتوقد النار فيه ضمن غرف البيت مع إغلاق أبوابها مما كان يؤدي إلى ارتفاع الحرارة الداخلية للغرفة، فكانت تبقى دافئة جدًّا حتى بعد فترة لا بأس بها من إطفاء الموقد.

وأضيف وأقول: إن شأن الأنبياء عجيب، إذ إنهم من ناحية يراعون الأسباب ويهتمون بها، حتى يبدو للناظر إليهم وكأنهم يرون القضاء والقدر منوطان كليًّا بهذه الأسباب ولن ينصلح لهم أي أمر دون اتباعها، ومن ناحية ثانية يتوكلون على الله تعالى، بحيث ينظرون إلى الأسباب كما لو أنها دودة ميتة، ويندهش من يرى هذه الحال إن كان ذا نظرة سطحية، فالحق أن مراعاتهم للأسباب لا يعني أنهم يرونها تحمل مفاتيح القضاء والقدر، بل لأنهم يؤمنون بأن الله تعالى خلقها، ومن مقتضى تقديس الله تعالى واحترام أوامره تعالى أن يراعي الإنسان أسبابه التي خلقها. ولما كان الأنبياء قد بلغوا أعلى المقامات في طاعة أحكام الله تعالى، لذلك فإنهم يُرَونَ كذلك في مراعاتهم الأسباب أعلى مقامًا من الآخرين، إلا أن اعتمادهم الأساسي وتوكلهم لا يكون إلا على الله تعالى. وهذه هي النقطة السامية التي يُبعث الأنبياء لإيصال الناس إليها. وبعد التفكير يتضح لنا أن هذا المقام لا يتسنَّى بلوغه إلا بشق الأنفس، وبعد مجاهدة دائمة وإيمان راسخ متين. ينسى الناس عمومًا عند اتباعهم الأسباب أن قوتها وتأثيرها مودع فيها من الله تعالى، وبدون هذه القوة والتأثير المودعين، فإن الأسباب لا تعدو دودة ميتة. ويوجد مثل هذا الضعف إلى حدّ ما في من يدّعون أنهم لا يتبعون التقليد في إيمانهم بالله ولكن يؤمنون به حقيقة ببصيرتهم القلبية. ينبغي أن يفكر كل شخص في قلبه ويرى أنه إذا مرض قريبٌ له مرضًا شديدًا أو واجه تهمة شنيعة في قضية رُفِعت ضدّه في المحكمة، أو وقع تحت عبء الدين المالي مما لا طاقة له به، ولا يقدر على سداده، بحيث يرى في هذا دماره المحتوم، فكيف يلتمس والحال هذه العلاج والتداوي من الأطباء؟! أو كيف يطرق أبواب المحامين؟! وعلى الرغم من دفعه لهم أجرة باهظة، فإنه يتملقهم ويسترضيهم، وإذا سنحت له الفرصة أطرى على المحكمة أو تشفع بأحد الكبراء محاولا استمالتها. أو أنه يطرق أبواب الأثرياء مجاملا ومستجديا مالا ليقضي به حاجته، وليجد به من ضائقته مخرجا. يقوم بكل ذلك منهمكًا وغارقا فيه وكأن الله ليس سوى مجرد اسم، أما الموجب الحقيقي لقضاء حوائجه فهو الأسباب، لأنه يَيْأَسُ عند عدم توفر الأسباب، ويحسب أنه لا مجال لانفراج هذه الضوائق. فهذا هو الشرك الخفي الذي يُبعث الأنبياء لتخليص الناس منه، فيأتون ويقولون: اتبعوا الأسباب من حيث إنها خلقت بيد الله ولقد أودعَتْهَا الحكمة الأزلية الإلهية تأثيرات تستطيعون أن تنتفعوا بها، ولكن إلى جانب ذلك ينبغي أن تبقى قلوبكم مفعمة باليقين أن الله تعالى هو صاحب القدرة كلها، وهو منبع كل القوى، فإن امتنع الفيض من هذا المنبع لن تعدوا قيمة الأسباب أكثر من ديدان ميتة. ينبغي أن تؤمنوا أن الكنين (2) يقتل طفيليات الملاريا، ولكن ينبغي أن يكون الإيمان راسخًا في قلوبكم بأن هذه الخاصية مودعة فيه من الله تعالى، وليست مفروضة تلقائيا، ولو أراد الله تعالى نزع منه هذه الخاصية وأودعها في قطعة من الطين، أو يظهر بأمره نتائج الكنين دون استخدام أي أسباب. كل مؤمن يدعي مثل هذا الإيمان بلسانه،  بينما القلة من تُكنُّ قلوبهم الإيمان العملي الحي بشكل حقيقي. وكثيرا ما يحدث أن البعض يتركون الأسباب كلية موقنين أن المقدّر حادث لا محالة، وهكذا يبوءون بسخط الله جراء عدم توقيرهم ما خلق الله من أسباب وبالتالي يتضررون، وبعضهم يتهافتون على الأسباب كما لو أن الله لا حقيقة له إزاءها ولن يتم أي أمر إلا بهذه الأسباب (والعياذ بالله). كلا الفريقين بعيدان عن جادة الصواب ومستوران بحجاب الظلمات. وليس على الحق إلا الذي يتبع سنة الأنبياء فيراعي الأسباب مراعاة كاملة، إلا أن قلبه يكون مفعمًا بالإيمان الحي بأن هناك من يمسك بمقاليد هذه الأسباب، والذي بإشارته يسير كل هذا النظام، وبدونه تصبح الأسباب ميتة دون أي تأثير يذكر، ولكن لا يُنال مقام الإيمان هذا إلا بعد مجاهدة كبيرة، والثبات عليه يتطلب أيضا مجاهدة كبيرة، ولله درّ القائل ما معناه:

لا يسع أحدا إحراز هذا الشرف بقوة اليد، ولا يناله ما لم يمنّ به الله الرحمن.

Share via
تابعونا على الفايس بوك