بين الحقيقة والخرافة (2)

بين الحقيقة والخرافة (2)

محمد حلمي الشافعي

كاتب

قبل عشر سنوات سألني بعض الأصدقاء عن ذِكر الجِن في القرآن والحديث. وواكب ذلك ظهورُ كتابِ عن الجن محشو بالخرافات. فكتبت هذه الصفحات مسترشدا بتفسير القرن لسيدنا الخليفة الثاني .     م.ح.الشافعي

ولقد اخترت لكم في هذه المعالجة آفةً من الآفات العديدة التي تنخر في جسد الأمة الإسلامية.. وتلوث عقيدتهم وتشوه تفكيرهم.. تلك هي آفة الجن.. التي أصيب بها الخاصة قبل العامة.

منذ سنوات- بعد مصيبة 1967 الشهيرة ووقوع سيناء في أسر إسرائيل- ألقت بي الأقدار للعمل في بعض بلاد الإسلام بالقارة الإفريقية. فوجدت القوم هناك يكادون لا يتصرفون في أمر من أمور حياتهم المتواضعة إلا بعد استشارة أحد (عملاء الجن).. من المشعوذين والدجالين. يسمون الواحد منهم (فَكي). ولعل أصلها (فقيه). ومن فضل الله أني تحديتهم ليثبتوا صدقهم أمامي ففضح الله دجلهم وفشلوا فشلا ذريعا. حتى اضطر أعوانهم إلى القول بأني ساحر أشد منهم مهارة!!

وقد لا يخفى على أحد منا ما يمارسه كثير وكثير من أهل الإسلام في بلاد الإسلام من طقوس وأفعال لاستشارة (الجن) في حل مشكلاتهم، والاستعانة بهم لقضاء حاجات مستعصية على هممهم السقيمة. بل لقد وصل الحال ببعض من ابتُلي المسلمون بهم من القادة والحكام أنهم لجأوا إلى هذا الأسلوب الزري.. يستفتون وسطاء الجن في مسائل الحرب والحكم والسياسة! وتعرفُ الدنيا ما تحقق على يد هؤلاء الخبراء في معاركنا القريبة ونكساتنا الشهيرة!!

وتخرج علينا الصحف بأنباء أبطال الرياضة الذين يلجأون إلى الجن لضرب الأرقام القياسية. والفوز على المنافسين في المسابقات الدولية والمحلية.. وليتهم حققوا شيئا!! ونقرأ في مجلات دينية أن (فضيلة الشيخ الفلاني) أخرج الجن من جسد فتاة: وكان يكلمه ويعظه وينهره أحيانا كي يستسلم وينصرف!

وها هي المطابع العربية تتمخضُ أخيرا عن كتاب (من التراث!!).. تحت عنوان (عجائب وغرائب الجان .. في السنة والقرآن)..لأحد قضاة عصور الظلام.. حققه محقق عصري.. زعم أن الكتاب يقدم الحقائق العلمية الصحيحة.. التي تقوم على الحجة والبينة والدليل الصادق. ولو أن أحدا من غير المسلمين ذا بقيّةٍ من عقل وفهم قرأ هذا الكتاب.. لفرَّ من الإسلام كما يفر السليم من المجذوم.

أما الكثرة الغالبة من المسلمين فإنهم يعطلون عقولَهم لمرأى نصوص في الكتب، مع أن الكاتب أوردها في غير مناسبتها، وأوّلها على غير وجهها الصحيح.. فيصدقون تلك الترّهات، ويعتقدون بصحتها. ولذلك لم نسمع عن أحد منهم تصدى لتصحيح تلك الخرافات وتطهير عقول المسلمين من رجسها.

وقد يوجد من بين رجال الدين والفكر من يعارض بعض الممارسات البدائية. ويرمي أهلها بالدجل والشعوذة. ولكنهم في الواقع لا ينكرون ما وراءها من فكر وعقيدة .. وإنما هم يتهمون المحترفين لها بالكذب والتزوير. إن هؤلاء المشايخ يعترفون بخرافة الجن وقدراتهم، ويعتقدون بالسحر وتأثيراته الخفية، ومع ذلك يكذّبون المشتغلين بالسحر والتعامل مع الجن!! وإذا كان أغلب من يزعمون استخدام الجن هم من المشعوذين الدجالين .. فليس هناك ما يمنع أن يكون بعضهم من الصادقين.. ذلك ما دام هناك جن وسحر، كما يتخيل أولئك المعترفين بالجن والسحر من بين رجال الدين والعامة!!

وبعد ذلك خرجت علينا السينما العربية منذ شهور معدودة بقصة تحت عنوان (الجن والإنس).. صورت فيه شيئا مما ينسبه الناس، بما فيهم رجال الدين. إلى الجن من خوارق وعجائب. ومن الغريب أن بعض النقاد. ممن يشتغلون بالنقد الفني ولا علاقة لهم بالمسائل الدينية، عابوا على الرواية ما تحتويه من خرافة. ولكنهم بالطبع لم يبينوا أين وجه الخرافة في القصة.. لأن ما كتب في التراث عن الجن أغرب بكثير مما جاء في الفيلم السينمائي.

نعم، هناك تناقص في عقول الناس. يؤمنون بالخرافات على أنها من الدين، ومع ذلك ينكرونها على من يمارسها من هذا المنطلق. والحق أن الباطل لا يثمر إلا باطلا، ولا تلد الخرافة إلا مسخا مشوها.

إن العاقل يعترض على كل فكر ليس له سندّ منطقي معقول.. ويعده فكرا هداما للعملية العقلية الإنسانية، فما بالك إذا كان الفكر منتسبا إلى الدين؟ إنه يصير سُما زعافا يفتك بالقلب والعقل.. فلا يستطيع بعد ذلك أن يجد طريقه الصحيح إلى منهج الله تعالى.. إلى الصراط المستقيم. ويبقى الفكر مكبلا بهذا القيد، وتتعطل ملكة الفهم الصحيح عن الله، ويعجز عن إدراك المقاصد الإلهية السامية، ويمضي الناس في ممارسات سطحية تُرضي المظهر.. ولكنها لا تسمن ولا تغني من جوع في المجال الروحاني. وتنتفخ جنبات النفوس بحشوٍ فارغ كالورم الذي يحسبه الجاهل قوة وصحة.. وهو في حقيقته مرض وضعف!!

هناك ما يبدو كأنه انفصامٌ في شخصية المتدينين ورجال الدين!! في أمور حياتهم الدنيوية يحشدون كل ما لديهم من ملكات البحث والتقدير والتمحيص والوزن والقياس.. أما في المجال الديني فهم مقلدون، مستمسكون بتراث ورثوه. وهنا تتوقف عن العمل ملكاتهم العقلية!! مع أنهم يقرأون في القرآن آياته الكريمة وهي تخاطب أولي الألباب.

تنادي قوما يفقهون أو يعقلون أو يسمعون أو يبصرون؛ ويعرفون أن القرآن يندد بأمم قالوا:

إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ . ويلوم قوما صمّوا وعمُوا، وحكى عن مصيرهم يوم الحساب حين يقولون نادمين: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ !!

ولا شفاء اليوم من مرض (الشيزوفرينيا) الفكرية العقائدية إلا إذا أدركوا أن دينهم الإسلام – منهجُ حياة متكامل. إنه عبادة لله.. يتناول كل أنشطة الإنسان. إن أسماء الله ومحاسنه لا تنتهي .. ومن ثم فإن مجالات العبادة لا تقع تحت حصر .. والترقيات في معراج المنهج الإلهي لا تتوقف ولا تنتهي.. ما دام العابد يسير في هذا الطريق. وإذن فالعقلُ ومن ورائه الحواس والملكات.. جميعا تشارك بدورها الأساسي في العبادة.. أعني في الحياة. وكلُّ نشاط لا ينبع من عقل مدرك واع لا قيمة له من الناحية التعبدية، وإن أفتى الفقهاء بأنه يُجزِيْ أو يُسقط الفريضة!!

فالعمل لا يُقبل عند الله تعالى إلا بنيّة. وما النيةُ إلا توجُه الفكر والوجدان. فالصلاة إذن حركات فارغة.. إلا ما وعى المصلي منها بعقله وقلبه. والصيام مجرد جوع وعطش.. إلا ما استفاد الصائم منه سلوكا وأدبا. والصدقات مال ضائع مفقود.. إلا من إنسان مؤمن مدرك لمغزى ما يفعل ويريد به وجه الله تعالى. وكل عمل يفقد قيمته التعبدية إذا خلا من التعقل واالإدراك والفهم والوعي. ولا يغيبن عن البال أن كلَّ عمل يدخل في نطاق العبادة.. ولذلك أمرنا المصطفى أن نبدأه باسم الله. والحق أن الذي أردَى الأمة المنتسبة للإسلام إلى ما هي فيه اليوم.. هو فراغ عبادتها من التعقل والوعي والإدراك.

وأرى أنه من المنطقي لتتبع موضوع (الجن) في القرآن الكريم أن نفتحَ المصحف الشريف . ونبدأ القراءة من بدايته.. ونتأمل كيف يتناول المسألتين: عبادة الله تعالى. وذكر الجن والإنس. ومن المناسب هنا التأكيد على حقيقة جديرة بكل اهتمام.. تلك هي أن القرآن المجيد تنزيل من الحكيم العليم.. فهو ليس نتفا من الآيات من هنا وهناك. لا يربطها رباط. ولا يضمها نسيج متين.. مثل خواطر بعض البشر التي تقفز في عقولهم بلا ترتيب أو تبويب. حاشا لله، انه كتاب محكم، ذو عناصر مترابطة مرتبة، فما جاء منها أولا فلحكمة جاء أولا.. وما جاء متأخرا فلحكمة ورد هكذا.

في مقدمة القرآن تأتـي سورة (الفاتحة) .. التي تفتح باب الكتاب الرباني .. بسم الله الرحمن الرحيم، وتكشف لنا عن الغرض من تنزيله على بني البشر.. وتعلن عن مصدره الإلهي، وإطاره القائم على كمال الرحمة الربانية.. ثم تهتف: “الحمد لله رب العالمين”.

والحمدُ لفظ عربي قليل الأحرف إلا أنه يجمع كل معاني الكمال والجلال والجمال! فكل ما يستوجب المحبة والإعجاب.. والتوقير والتعظيم.. والشكر والثناء.. بأكمل صورة وأصدق معنى.. هو لله تعالى. هذه هي المقدمة التي تولى الكتاب توضيحها والتدليل عليها. ورسم المنهج السليم لتحققها من خلال سورة وآياته. إنها الغرض الوحيد الذي من أجله خُلق البشر. وما تنزل وحي السماء.. وما يتنزل.. إلا لتحقيق هذا الهدف الأسمى.

ثم تعلن الآية الكريمة أن الوجودَ المستحق للحمد كلَّه هو الله رب العالمين..كل العالمين، لا لصنف دون صنف. إن ربوبيته رعايةٌ وعناية. هيمنة وقوامة، رزق وتنشئة وحفاظة.. تظلل العوالم كلَّها: عالم الشاهد وعالم الغائب. عالم النبات وعالم الجماد، عالم الروح وعالم المادة، عالم الإنس وعالم الجن. كل مافي الكون من عوالم.. نعرف عنها شيئا أو نجهلها بالمرة.. تدخل جميعُها تحت مظلة ربوبية الله تعالى.

وتمضي آيات القرآن. وفي السورة التالية سورة (البقرة) نسمع أولَّ نداء قرآني.. موجه إلى من يخاطبهم القرآن.. إلى من نزل لأجلهم.. إلى من خُلقوا لعبادة الله.. يقول النداء:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ (البقرة: 22)

النداءُ للناس. والنداءُ توجيهٌ إلى عبادة الرب الخالق الذي خلق الناس لهذه العبادة. ولو كان القرآن يخاطِب خَلقًا غير الناس لكان من المناسب أن يوجِّه إليهم الخطاب ها هنا.. لأنه أول أمر عامٍّ بالعبادة. يترتب على ذلك أن المنادى في هذه الآية -وهُمُ الناس- يشمل كل مكلف بعبادة الله عن طريق هذا القرآن. وعلى لسان نبي الإسلام .

ثم تمضي سورة (البقرة) أطولُ سور القرآن، حافلة بآيات الله الدالة على ربوبيته وألوهيته الحقة، وتضع التشريعات المنظمة لحياة من يناديهم القرآن، وترسمُ الآداب الطاهرة التي تزكي العباد، وتبين الحكمة الإلهية السامية وراء تلك التوجيهات الربانية.

وتأتي من بعد سورة (البقرة) سور طوال: آل عمران والمائدة والنساء إلى أن نصل إلى سورة الأنعام.. ونكون بذلك قد قرأنا ما يقرب من ربع المصحف الشريف.. فلا نجده يخاطب أحدًا من المكلّفين بالعبادة واتباع المنهج القرآني أو يُشير إليهم إلا بمثل قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ (البقرة: 184)

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا (البقرة: 152)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا (البقرة: 169)

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً (البقرة: 214)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ (النساء: 2)

مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا (المائدة: 33)

ولقد سمعنا القرآن الكريم في سورة (آل عمران) يتحدث عن صنفين من عباد الله: هما الذكر والأنثى، وكلاهما من البَشر.. ليقرر أن الفروق العضوية أو الاجتماعية بين الصنفين لا تفرق بينهما في العبادة وتكاليفها وثمراتها من ثواب وعقاب..فكلٌّ منهما على قدر مسئوليته وبقدر جهده واجتهاده ينالُ نصيبه. وينتفي بعدَ قوله تعالى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ الزعمُ أو الظنُ بأن الرجال قد فازوا بالنصيب الأوفى من التكاليف والجزاء. أو أن النساء حُرمن إلا من القليل.لا، إن السورة تقرر أنهم جميعا في هذا الأمر سواء. الجميع مطالبون بالعبادة ومعرفة الله تعالى.. والجميعُ مسئولون عن الارتقاء والتقدم إلى الله ، ومدعوون للتخلق بأخلاقه والاتصاف بصفاته. والجميع محققون الهدفَ من خلقهم بقدر عملهم وتضحياتهم وثباتهم.

وفي سورة (الأنعام)، بعد ربع القرآن، بعد مئات من الآيات التشريعية والتعليمية والتربوية.. تأتي الإشارة في القرآن إلى نوع من المعبودات التي يؤلهها المشركون وينسبونها إلى الله ظلما وجهلا فيقول:

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (الأَنعام: 101)

والشرك بالله تعالى جريمة نكراء وسقطة شنعاء. يرتكبها ويقع فيها الجاهلون بحق الله تبارك وتعالى، إذ يتخذون لأنفسهم أربابا يحمدونهم من دون الله، ويصفونهم بأوصاف الله.. وينسبون إليهم ما ينسب إلى العلي القدير، ويعاملونهم بما هو حق له وحده.. فيخصونهم بالطاعة والخضوع المطلق.

ولقد تناولت الآيات السابقة على هذه الآية بيانَ بعض نعم الله على الناس من أرض وسماء، ونعت على الظالمين منهم أنهم ينسبون لله شريكا يزعمون أنه ابن له!! والإشراك بالله تعالى ظلم عظيم لا يغفره الله الغفور الرحيم لمن أصرّ عليه وهلك دون توبة عنه. ذلك لأنها سفاهة تامة يُبطلُ بها المشركُ عقله.. والعقلُ أجلُّ النعم التي وهبها الله الخالق الوهاب للإنسان، ليكون الأداة الفعالة لقيادة الإنسان إلى تحقيق الهدف من خلقه. فإذا هو حَرَم نفسه منها وعطلها.. لزم أن ينال العقاب التربوي المناسب حتى يسترد هذا العقل.. ويعرفَ لربه حقُّه.. ويدرك جماله وجلاله، ويعلم يقينا أنه:

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (الأَنعام: 102-103)

وإذن فالشريك المزعوم، والولد المدُّعى.. ليس إلا وهمًا باطلا، لا وجود له إلا في خيال هؤلاء المشركين. وما هو إلا خيال كاذب من قبيل تلك الأشباح التي توهمها البدائيون في عصور الجاهلية، وزعموا أنها تسكن الجبال والقفار. والواقع أن أحدا منهم لم يرها إلا بخياله المرعوب وبعينه الكليلة المذعورة. ولذلك أطلق القرآن الحكيم وصف (الجن) على تلكم الآلهة المتوهمة.. لأن لفظ (الجن) يعبر أدق تعبير عن حقيقة وماهية تلك الآلهة. فكما أطلق البدائيون على الكائنات الخيالية التي لا حقيقة لها اسم (الجن).

وخافوها وزعموا أن لها من القدرات والسلطان ما تستحق به الطاعة.. كذلك سمى القرآن باسم الجن هذا الابن المزعوم -أيا كان- الذي خلعوا عليه صفات وقدرات لا تنبغي إلا لله تعالى، ولا وجود له إلا في عقيدة هؤلاء الضالين.

إن مادة (ج ن ن) في اللغة العربية تتضمن معنى الستر والاستتار. تقول المعاجم اللغوية:

جَنَّ الشيءَ يجُنُّه جَنَّا: ستره،

وكل شيء ستر عنك فقد جُنَّ عنك.

جَنَّ الليلُ: أظلم فستر المرئيات.

جَنَّه الليلُ جَنَّا وجنونا،

وجَنُّ عليه يجُن وأجَنَّه: ستره.

جَنَّ الجنينُ في الرحم، استتر،

جنُّ الليل وجنونه وجناته: شدة ظلمته، وقيل اختلاط ظلامه لأن كل ذلك ساتر.

والجَنَن: القبر والكفن لأنه يستر جثة الميت.

والجَنان: القلب لاستتاره في الصدر، أو الروح لأنها مستورة في الجسم.

والجن: الترس والوشاح والحياء .. لأنها تستر من يستخدمها.

والجُنَّة: ما واراك من السلاح؛ السترة والوقاية.

وجنُّ الناس: معظمهم.. لأن الداخل فيهم يستتر بهم.

وجنان الناس جماعتهم وسوادهم، وقيل دهماؤهم.

وقيل- الجن: ولد الجان.. وهم الجِنة.

والجن خلاف الإنس.

والجِنَّة الجنون، وطائف الجِن.

والجنَّة : طائفة من الجن.

والجان هو الجن أو أبو الجن، اسم جمع.

والجن هم الملائكة.. قال الأعشى يذكر سليمان عليه السلام:

وسخَّر من جِنِّ الملائك تسعةً

قياما لديه يعملون بلا أجر

وقوله جن الملائك أي الملائكة الجن يعني المستترة.

فكل ما استتر أو خَفى أو نأى فهو جنّ.. وأيضا كل ما أخفى أو ستر أو غطى أو غلب على غيره فهو جن. فمثلا:

جِنُّ الشباب أوله، وجدّته ونشاطه.. لأنها الصفات الغالبة عليه. وجنُّ كل شيء أول شداته. وجِنُّ المرح كذلك. يقال : خذ الأمر بجِنِّه أي حدثانه.

وجِنَّ النبت: زهره ونوره.. لأنه يجذب الأنظار إليه فيكون المظهر الغالب على النبات، وجُنَّت الأرض جاءت بشيء معجب، وإذا أعتم نبتها. وجُنَّ الذباب: كثر صوته وترنمه.

وجنون النبت طوله والتفافه، وجنون السنام تموكه وطوله. والجَنَّة الحديقة ذات الشجر والبستان.. لأن أشجارها تستر الأرض.

والجان الحية.. لسرعة اختفائها أو لاستتارها عادة. فالتميز والشدة والعنفوان جنون.

ولقد أطلق الناس في زمن الجهالة الأولى اسم (الجن) على كائنات وهمية زعموا أنها موجودةٌ في الأماكن النائية عن العمران، وحسبوا أن ما تحدثه الرياحُ من زمجرة وعويل هو من أصواتها، وتوهموا أن ما يتراءى لعيونهم المجهدة الخائفة هو من أشباحها. ولقد علمنا أن اللغة العربية تستخدم مادة (ج ن ن) للتعبير عن كل ما من شأنه أن يستر أو يستتر أو يجذب الأنظار (أوبلغة السينما: يسرق الكاميرا). وهكذا حُق للقرآن أن يطلق وصف الجن على تلكم الآلهة: لأنها وهم خيالي خفي عن عيون المشركين بل عن الوجود كلية، ذلك دلالة على مدى ما في الاشراك بالله من زيغ وضلال وبطلان. لقد أطلق البدائيون اسم الجن على خيالات زعموا وجودها بغير علم ولا سلطان ولا تحقق، وهكذا فعل الجاهليون إذا زعموا أن في السماء أو في الأرض أبناء وبنات نسبوها إلى الخالق .. نسبوها إليه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير!! فهي كائنات جديرة بوصف (الجن) حقا وصدقا. إن الآية القرآنية تعني بقول (شركاءَ الجنَّ).. أنهم شركاءً من صنع الجهل ونسج الخيال وتجسيد الأوهام.

وتعالى الله أن يكون له من تلك الأباطيل المنتحلة شريك، فإن مظاهر قدرته وعظمته، ودلائل جلاله وكماله تملأ الكون كله. تعلن أنه السبوحُ القدوس.. المنزهُ عن أي نقص. المتصفُ بكل حسن. إنه تبارك وتعالى غيب لا تدركه الأبصار، ولكنه مشهود للعقل.. منظورٌ بالبصيرة.. يُرى في آياته، ويُسمع في مخلوقاته. أما تلك الشركاءُ المزعومة فما أعجزها وما أقبحها!! ألُوهيتها لا يقبلها عقل سليم، ولا يشهد لها واقع. إن الله هو الإله الحق.. ومع أنه حقا كما قال:

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الأَنعام: 104) ..

فقد تحدث إلى خلقه، وبيَّن لهم الهداية والرقي، بما يشهد له أنه: الحيُ القيوم.. الخالق القدير.. اللطيف الخبير. وشتان ما بين الغيب والوهم. فالغيب موجود فعلا وإن خفي عن الحواس الجسدية. لأنه إنما يدرك بالملكات المناسبة المؤهلة لإدراكه.. الملكات الروحية من فكر وقلب. أما الوهم فهو عدم.. يخترعه الخيال السقيم.. في غيبة العقل السليم.    (يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك