في رحاب التفسير
وَأَقِيمُوا الصلاة وَآَتُوا الزكاة وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (111)

التفسير:

قوله تعالى (وأقيموا الصلاة). لما كان أمر الله بالإعراض عن هؤلاء اليهود وتفويض أمرهم إليه شاقا على المسلمين لذلك قال لهم: إذا تضايقتم من حالكم أمام العدو، وغضبتم وشق عليكم الصبر.. فعلاج ذلك هو التضرع والابتهال إلى الله، والدعاء في الصلوات أن يهديهم بنفسه، أو إذا كتب عليهم الحرمان من الهدى فيحميكم من شرورهم، ويدفعهم عن طريقكم.

(وآتوا الزكوة). والعلاج الثاني هو مساعدة الفقراء بالصدقات، وحسن العشرة مع اليتامى والمساكين والأرامل، والنهوض بالطبقة الفقيرة من القوم، وتأليف قلوب أولئك الكفار الباحثين عن الحقيقة بحسن النية. وفي هذا إشارة أيضا إلى أن فيهم أناسا نريد لهم النجاة من العذاب، فضموهم إليكم بحسن المعاملة، حتى إذا خرجوا من بين ظهرانيهم دمرنا الباقين بالعذاب.

(وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله). لما كان الصبر أمرا صعبا جدا، لذلك قال: لاتظنوا أن التمسك بالصبر يضركم.. كلا، بل إن الصبر في حد ذاته حسنة كبيرة، وسوف يندرج في أعمالكم الحسنة كالصلاة والصوم وغيرهما، وسوف تثابون عليه يوم القيامة ثوابا كبيرا جدا حتى أنكم تتحيرون عندئذ وتقولون: لم نفعل حسنة ذات شأن حتى ننال كل هذا الجزاء. ولكن هذه الحسنة تستحق عند الله هذا الجزاء الكبير.

الواقع أن أهل الدنيا يعتبرون الصبر جبنا، فيحرمون من هذه الحسنة، مع أن هناك بونا شاسعا بين الصبر والجبن. فالصبر يعني البقاء داخل نطاق الأمور التي حددها الشرع، ولكن ليس من الصبر أن يترك الإنسان حقوقه ويصرف النظر عن مقاصده وأهدافه. فالفارق بين الصابر الحقيقي والجبان أن الصابر يتحلى بالصبر ما دام الشرع يأمره بالصبر، ولكنه عندما يغار على شرف دينه وعزته فإنه يظهر للعالم أن لا نظير له في الشجاعة، وأنه لا يخاف من تقديم أي تضحية. ولكن علامة الجبان أنه لا يصبر اتباعا لأحكام الشريعة، وإنما يسمى سلوكه التلقائي صبرا، وتدل العواقب أنه لم يكن صابرا بل كان جبانا. الصبر يعني إذا سبّك أحد فلا تسبّه، وإذا ظلمك أحد فلا تنتقم على ظلمه حتى يأذن لك الشرع بذلك. ولا يعني الصبر أن تغفلوا الدفاع عن أنفسكم، وتدَعوا الناس يسومونكم خسفا في أمر الدين، لأن ذلك لا يبعث على الشجاعة والبسالة وإنما يخلق الجبن. والجبن ليس جمالا وإنما هو دمامة. فمن صفات المسلم أن يقوم بالتضحية عندما يدعوه الشرع بالبذل والتضحية.. وإن كان العالم كله خلافه؛ وأن يتحلى بالصبر إذا أمره الشرع بالسكوت والصبر. ولا يعني ذلك أنه يسكت خوفا من قوة العدو، وإنما لأن الله تعالى قد أمره بالصبر عندئذ. والذي يصبر ويسكت ولو للحظة واحدة خوفا من قوة العدو فإنه جبان. والجبان لا يستحق البقاء بين صفوف حزب الله المقدس.

فالصبر أن يداوم الإنسان على مقاومة المنكرات التي تعترض طريقه حاليا، وأن يكون مستعدا لمقاومتها في المستقبل. كما يعني الصبر أن يداوم على الحسنات التي يفعلها الآن.

ومن البصر أيضا ألا يضيق الإنسان ذرعا عند حلول المصائب، ولا يفقد الهمة عند نـزول الخطوب.. من موت قريب، أو نقصان مال أو ما إلى ذلك؛ بل عليه بالسكينة والوقار، متذكرا أن ما عنده ليس ملكا له، وإنما هو عطاء من الله.

وهذا الصبر على نوعين: أولهما- هو الصبر على ما يأتي من ابتلاء من عند الله تعالى ولا دخل للخلق فيه، وثانيهما – هو الصبر على ما يبتلى به من قبل الخلق. ومثال على النوع الأول موت قريب أو مرض، أو قحط ومجاعة، أو نقصان في المال لنشوب الحرب أو غير ذلك.. فهذا مما لا قبل للإنسان به، والرضا بقضاء الله في استقامة وثبات هو الصبر في مثل هذه الأحوال. أما فيما يبتلى به بالمعاملات مع المخلوق فإنه يستطيع في بعض الأحيان مقاومة المخلوق. فمثلا لو لطمه أحد أو آذاه فبوسعه أن يرد عليه باللطم إن كان اللطم هو الأصوب، أو بالكلام المناسب إن كان الرد باللطم منافيا للمصلحة العامة أو كان يفسد المعتدي أكثر. ولكنه لو امتنع عن الانتقام كان صابرا.. شريطة ألا يكون امتناعه جبنا وخوفا بأنه لو لطمه لضربه أكثر.

فصبره على ما يُبتلى به من عند الله تعالى يعنى عدم الجزع عند عجزه عن إزالة الخطْب. وصبره فيما يختص بالمخلوق يعنى امتناعه عن الانتقام رجاء مصلحة عُليا.. بشرط مقدرته على الانتقام، أما لو كان أحد مقيدا في غرفته ولا يجد منفذا للفرار ثم قال: أنا صابر، فليس ذلك من الصبر في شيء، لأنه لو استطاع الفرار لفر.

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (112).

 

التفسير:

وقد ورد مضمون هذا الآية بصورة مختلفة في ثلاثة أماكن من القرآن الكريم، أولها قوله تعالى: (قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) (البقرة 81).. أي يزعم أهل الكتاب أنهم يدخلون النار، ولكن الله سوف يعاملهم برفق ولين فيخرجهم منها بعد اثني عشر شهرا، بل قبل تمام السنة، وذلك ما تذكره كتبهم (الموسوعة اليهودية). وثانيها قوله تعالى (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إنْ كنتم صادقين) (البقرة: 95). وهذا رد على مزاعم بعض اليهود أنهم لايذوقون النار أصلا، بل كلهم يدخلون الجنة ولا يدخلها غيرهم مطلقا. فأمر الله محمدا أن يقول لهم: إن كنتم حقا أصحاب الجنة من دون الناس فلم لا تسعون لذلك وتقدمون التضحيات التي هي بمثابة الموت، أو لماذا لا تباهلوننا على الموت؟

وثالثها هذه الآية. والحق أنها إدماج جملتين مستقلتين تقديرهما: وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا؛ وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كانوا نصارى؛ ذلك لأنه لن يقول أحد من اليهود أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود والنصارى، كما لن يقول ذلك أحد من النصارى.

إن أهل الكتاب الذين بزعمهم يُحرم غيرهم من الجنة مختلفون فيما بينهم لدرجة أن بعضهم يحرِم الآخر من الجنة. فريق منهم يدعي أن اليهود يدخلون النار لكنهم يخرجون سريعا. فقد ذكر سيل SALE أيضا أن من الحقائق المسلم بها عند اليهود أن أي يهودي – مهم كثرت ذنوبه – لا يمكث في النار أكثر من أحد عشر أو اثنى عشر شهرا، ما عدا يهوديين: دائن وإيبي رام، باستثناء الدهريين، فهم يعذبون فيها للآن (ترجمته للقرآن تحت قوله تعالى: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة). كما أن صاحب دائرة المعارف اليهودية قد أثبت هذه العقيدة اليهودية بنصوص من الكتاب التلمود (تحت كلمة Gehenna).

أما الفريق الثاني من اليهود فيزعم أن اليهود لن يدخلوا النار أصلا. بينما هناك فريق ثالث من اليهود والنصارى يُضيِّق نطاق النجاة أكثر من ذلك، فيرى أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود دون سواهم. أما النصارى فيرون أنه لن يدخل الجنة إلا النصارى فقط.

ثم إن بعض النصارى يعتقدون أن الجحيم على نوعين: دائم ومؤقت. فإن دخل النصراني الجحيم دخل الجحيم المؤقت ثم يخرج منها. في حين يعتقد بعضهم أن أي نصراني يُكِنُّ في قلبه حب المسيح ولو بقدر ذرة فلن يدخل النار مطلقا.

ولقد أدت مثل هذه العقائد بأهل الكتاب من يهود ونصارى إلى أن بدءوا يخطئون بعضهم البعض، وتشددوا في ذلك لدرجة أن قال اليهود: لن يدخل النصارى الجنة وإن كانوا مؤمنين بالتوراة؛ وقال النصارى: لن يدخل اليهود الجنة وإن كانوا مؤمنين بالتوراة.

وحسب ترتيب مضمون الآيات فقد كان سياق أولى هذه الآيات- (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) أن ذكر الله دعوى النبي ، وبيَّن أن اليهود يعارضونه. ولكنهم لا يعارضونه عن أمانة وحسن نيه. لاشك أن المعارضة ليست محرمة، لأن لكل واحد الحق في أن يعارض رأيا إذا لم يفهمه ورآه غير صائب، لكنه لو فهمه ورآه صوابا ثم عارضه فلن يعتبر أمينا في معارضته. فالمعارضة أمر جائز شريطة أن يكون مبنيا على حسن نية وأمانة، وليس عن تعصب وعناد، كما يجب مراعاة أسلوب شريف في إبدائها.. إذ لولا المعارضة الإيجابية لتوقف ازدهار العلم، لأن جميع التطورات العلمية مدارها الاختلاف. ولكن الله يقول: إن هؤلاء يعارضون تعصبا وعنادا، ويقلبون حقائق القرآن أمام الناس، لذلك فلا أمانة ولا صدق في أقوالهم وأعمالهم. إنما تكون معارضتهم إيجابية مبنية على صدق وأمانة إذا وجدوا المسلمين على خطأ حقا.. ثم برهنوا على خطئهم. إنهم يخفون الحقائق، ولا يأتون بدليل على ما يقولون.. فلا شك في سوء نياتهم، وليس ذلك إلا لزعمهم أنهم لن يدخلوا النار. وحينما ترى أمَّة أن النجاة حكر عليهم وإرث لهم.. خلت قلوبهم من التقوى. ذلك أن الناس على نوعين: منهم من يطيع خوفا، ومنهم من يطيع حبا. فالطبقة السفلى في الإيمان تتجنب المنكرات خوفا من العذاب، أم الطبقة العليا منهم فإنها تتورع عنها حبا لله تعالى وشكرا على نعمه. يقول الله إن هؤلاء القوم قد انحطوا لدرجة أنهم ما كانوا ليجتنبوا الإثم إلا خوفا من العذاب، ولكن أصحابهم قالوا إنكم لن تدخلوا النار أبدا. فزال عنهم خوف العذاب وتشجعوا على فعل المنكرات. يمكن للدهري أن يتحرر كما يشاء، ولكن هؤلاء بالرغم من انتسابهم إلى دين سماوي يأتون ما لا يأتيه الدهريون أيضا.

أما الآية الثانية (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) فتبين أن الأمم التي تحسب النعم الإلهية حكرا عليها .. لا ترغب في البحث عن الهداية، إذ إنما يبحث عن الهداية من أيقن أن باب الهداية السماوية والنعم الإلهية مفتوح للجميع. أما الشعب الذي يعتقد أن الهداية مخصوصة به فلن يصدق إلا بما ورد في كتبه، ولن يبحث عن الحقيقة في مكان آخر على الإطلاق، وبالتالي يُضيِّق نطاق الهداية بقصر النجاة عليه دون غيره، ويلجأ إلى التعصب ويخلو من التقوى.

أما آيتنا هذه (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) فمضمونها أن مثل هذا المعتقدات من شأنها أن تؤدي حتما بأصحابها إلى تضييق نطاق النجاة شيئا فشيئا حتى يحرِّم بعضهم على البعض النجاة، ويختفي عن أنظارهم عنصر التقوى الذي هو المدار الحقيقي للنجاة.. في حين أنه يجب ألا يظن أحد في أي زمان أن باب الهداية مغلق، بل عليه أن يكون مستعدا لقبول كل ما ينـزل الله من كلامه.

ليكن معلوما أن قول اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا.. ليس في حد ذاته بالأمر القبيح، ذلك لأن أتباع كل دين يحسبون أنهم الناجون؛ والمسلمون أنفسهم يحسبون أنه لن يدخل الجنة سواهم. فليس معنى الآية أن اليهود أو المسيحيين لماذا يحصرون النجاة في دينهم، وإنما المراد أنهم يحصرون النجاة في اليهودية أو المسيحية، ثم يضيّقون دائرة فيضان الله الواسع، ويحرمون بزعمهم هذا جزءا كبيرا من الناس من رحمة الله الواسعة.

لا شك أن الإسلام يدعي بأنه لا نجاة لبني البشر إلا فيه، ولكنه مع ذلك لا يغلق باب الهداية السماوية، بل يقول (وبالآخرة هم يوقنون).. أي من علامات المؤمنين أنهم كلّما يأتيهم كلام جديد من الله تعالى يؤمنون به من فورهم. إنهم يربطون النجاة بالإيمان بكلام الله، سواء كان قد نـزل في الماضي أم سينـزل في المستقبل. ولكن اليهود على عكس ذلك يزعمون أن لا نجاة إلا لشعب بني إسرائيل، وهم لا يُدخلون أحدا في دينهم.. لأنهم لا يؤمنون بنجاة أحد هو ليس من شعبهم. إنهم لا يربطون النجاة بدينهم وإنما بشعبهم فقط.

أما النصارى فهم لا يربطون الخلاص بشعبهم بل بدينهم، ويقولون: يمكن لكل واحد مهما كان شعبه أن ينجو من النار بالإيمان بالمسيحية. وكأن هناك تشابها ظاهريا بين المسيحية والإسلام في دعوة الشعوب الأخرى للإيمان به وكسب النجاة. وهنا ينشأ تساؤل: إذا كان ادعاء النصارى بألاّ نجاة إلا في النصرانية محل اعتراض، فلم لا يعترض على ادعاء المسلمين ألا نجاة إلا في الإسلام؟

ليكن معلوما أن هذا التشابه الظاهري بينهما ليس له ظل من الحقيقة، وإنما هو وهم وخيال. ذلك أن سائر النصارى – رغم أنهم يدعون كل الشعوب إلى دينهم – إلا أن دينهم لا يسمح لهم بذلك، حيث ترفض أناجيلهم بكل صراحة.. فقد قيل لهم: (لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم) (متى 6:7) فقد شبه المسيح هنا تعليمه المقدس باللآلىء والدرر وأمر أن تبقى هذا الدرر منحصرة في أيدي الإسرائيليين..ولا توهب لغيرهم، لأن الشعوب الأخرى – حسب ما جاء في الإنجيل – كالكلاب والخنازير التي لا تقدرها حق قدرها، بل تشن عليها الهجوم بالاعتراض عليها وبتحريف معانيها وهتك سترها. وقيل أيضا (هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا: إلى طريق أمم لا تمضوا. وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة) (متى 10: 5و6). ويستدل المسيحيون من كلمة (بالحري) أنهم أمروا بحصر دعوتهم إلى النصرانية في بني إسرائيل في البداية فقط، أما فيما بعد فكان لا بأس من نشرها في الشعوب الأخرى. ولكن يبطل استدلالهم هذا في نفس الإصحاح حيث قيل: (… فإني الحق أقول لكم لا تكلمون مدن إسرائيل حتى يرجع ابن الإنسان)(متى23:10). وهنا يخبرهم المسيح أن لن تبدأوا دعوة الشعوب الأخرى إلى المسيحية قبل مجيء ابن الإنسان. نعم، عندما يأتي ابن الإنسان يسمح لكم بنشر المسيحية في الشعوب الأخرى أيضا. ولقد فسرت هذا الفقرة كلمة (بالحري) تفسيرا جيدا.

وقيل أيضا: (فأجاب وقال: لم أُرسَل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة)(متى15: 24). وهنا اعترف المسيح أنه لم يرسل إلى أحد سوى بني إسرائيل فلم يُبق مجالا لنشر المسيحية في غيرهم من قبل ومن بعد.

وكذلك ورد: (وأما يسوع فقال لها: دعي البنين أولاً يشبعون، لأنه ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب) (مرقس7،27). وهذه الفقرة تتضمن نفس ما جاء آنفا في (متى6، 7).

ولكن الإسلام على عكس ذلك.. لا يحدد دعوته في شعب معين، فأمر الله نبيه في القرآن: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا) (الأعراف: 159). وفي مكان آخر قال جل شأنه (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشرا ونذيرا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (سبأ:29).

كما أن الرسول بنفسه أعلن: (كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود)، وقال أيضا (أرسلت إلى الخلق كافة) (مسلم، المساجد).

فقد بين القرآن المجيد والرسول الكريم أنه لم يكن خاصًا بشعب أو بلد، وإنما رسالة الإسلام للعالم أجمع. فعلى الرغم من التشابه الظاهري بين المسيحيين والمسلمين فإن المسيحيين يقولون ما يرفضه دينهم. ما دام الله تعالى لم ينـزل تعاليم المسيحية للشعوب الأخرى، فكيف ينالون النجاة باعتناقها؟ وكما أن الحكومة إذا أمرت أحدا بالذهاب إلى مكان فذهب غيره إلى ذلك المكان فلا بد أن يعاقب هذا؛ كذلك إذا تنصر أحد من غير الإسرائيليين فلا ينال ثوابا وإنما عقابا.

ثم إن الإسلام مختلف من ناحية أخرى، وهي أن اليهود والنصارى قد ادعوا أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، ولم يذكروا هنا أن غيرهم لن يدخلها في بداية الأمر ولكن فيما بعد يدخلها، بل ذكروا أنه لن يدخلها أحد سواهم.. ولو بعد آلاف بل ملايين السنين. وهنا أيضا يختلف الإسلام بصدد هذا النظرية، فهو لا يقول بدوام عذاب النار، بل يقول إن كل إنسان – حتى وإن كان ملحدا – لا بد أن يدخل الجنة في آخر الأمر، لأن الهدف من خلق الإنسان أن يصير عبدا لله، وإذا لم يتحقق هذا الهدف فخلقه عبث. يقول الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات: 57). وقال أيضا (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) (الفجر).. أي يا ذا النفس المطمئنة- ادخل في عبادي وفي جنتي. وهذا يثبت أن الله قدّر لكل إنسان أن يدخل الجنة، ولولا ذلك لبطل الغرض من خلقه؛ وقام الاعتراض على الله تعالى بأن الهدف الذي خلق الإنسان من أجله لن يتحقق.

ثم هناك فرق بارز آخر بين نظرية الإسلام والمسيحية للنجاة، في الإسلام يعترف بأن سلسلة الوحي من الله سارية للأبد، ولا بد من الإيمان بكل ما ينـزل الله من وحي. ولكن المسيحية لا تقول بذلك، وإنما تحدد الوحي إلى زمن المسيح فقط، وتقول إنه لا يمكن الآن نـزول الوحي ولو كان شرحا وتفصيلا لما سبق من الكتاب. لذلك لو أنـزل الله أي وحي كشرع جديد أو بيانا لشرع سابق لرفضوه بناء على عقيدتهم هذه. ولكن المسلمين لابد أن يقبلوه. لأن الله تعالى قد ذكر علامة المسلمين الصادقين بقوله (وبالآخرة هم يوقنون) (البقرة: 5).. أي أنهم يؤمنون بكل هدي جديد من الله تعالى كما آمنوا بما سبق.

فالمسيحيون يضيقون دائرة النجاة، ويحرمون البشر من هدي الله بزعمهم انقطاع أي نوع من الوحي، ولكن الإسلام قد فتح هذا الباب.. وقال إنه لا بد من الإيمان بالوحي الذي ينـزل لتقوية الإيمان وزيادة علم الإنسان. وأخبر اليهود والنصارى أن الله ليس إلههم وحدهم فحسب، وإنما هو إله للناس كافة، وأنه كان منذ خلق الكون يهيئ الأسباب لهداية خلقه كلهم، ولن يزال يهديهم في المستقبل أيضا.. فلا تحددوا فيضان رحمة الله الواسعة، ولا تجعلوا من هذا البحر الذي لا شاطئ له ينبوعا قد جف ماؤه، ولا تجعلوا الله إلها قوميا بتخصيص النجاة لكم دون سواكم. وقصارى القول: إن الله- بكل صراحة –قد قرن النجاة بالإيمان الذي صاحبه مستعد عن طيب خاطر لقبول ما يأتي من الله تعالى من هدي، وإلا لما نعى الله هنا على المسيحيين الذين قالوا بفتح باب النجاة للآخرين أيضا. ما عابهم الله تعالى إلا لأنهم ليسوا على استعداد لقبول أي وحي بعد كتابهم. ولو اعتقد المسلمون أيضا بمثل اعتقادهم لعُدّوا عند الله من المجرمين.

ويبين قوله تعالى (تلك أمانيهم) أنه عندما تبدأ أمة بالتقهقر بدل التقدم والرقي.. فإنها بدل أن تقدم فعالا من عمل صالح وسلوك نبيل.. تصبح صورة مجسمة للحسرات والأماني. وبينما يحدث غيرها انقلابات في العالم بالجد والكدح وتحمل المشاق وبذل التضحيات.. فإن هؤلاء المتقاعسين عن تحمل المشاق، الخائفين من بذل التضحيات، المتطفلين على موائد الآخرين تطفل ابن آوى على فضلات الأسد.. يبنون قصورا في الأحلام. فماذا يغني الإنسان قوله: كان أبي كذا وكذا، ونحن أمة موسى أو عيسى أو آل محمد؟ إنما ينفع الإنسان انتسابه إلى أمته إذا عمل عملهم.

وقوله تعالى (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) يعني إئتونا بدليل على ألا نجاة إلا لليهود والنصارى إن كنتم صادقين في زعمكم هذا. وهذا هو نفس الدليل الذي ذكرته آنفا.. أعني إذا كنتم حقا أصحاب الجنة دون سواكم فيجب أن تحظوا بأفضال ونعم سماوية، وتتشرفوا بكلام الله تعالى. إذا كان اليهود هم الناجون فوجب أن يثبتوا وجود هذه الأفضال فيهم. وإذا كان النصارى هم الناجون فلا بد أن يدللوا على أن الله تعالى يوحي إليهم ويؤيدهم بآياته. ذلك لأن الله تعالى قد ذكر في القرآن الكريم أن للمؤمنين جنتين: إحداهما دنيوية والثانية أخروية (ولمن خاف مقام ربه جنتان)(الرحمن: 47). فإن كانوا صادقين في دعواهم فليخبرونا أين جنتهم الدنيوية، وليثبتوا أن لله ينعم عليهم بأفضاله وبركاته، أو يؤيدهم بكلامه، ويقربهم وينصرهم عند الملمّات بآيات خارقة للعادة. فإن كانوا كذلك فإنهم ناجون بلا مراء.. وإلا فليعلموا أنهم محرومون من بركات الله في الدنيا، وسوف يحرمهم من النجاة في الآخرة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك