أزهار الربِيعِ تتفتح في نيوزِيلندا

أزهار الربِيعِ تتفتح في نيوزِيلندا

عبادة بربوش

رئيس تحرير "التقوى"
  • المرأة الحديدية تدعم الإنسانية.
  • هل جزاء الإحسان إلا الإحسان!
  • الحزم والإنسانية، ومواقف جلالية وجمالية.
  • لأن الرعية على دين ملوكهم.
  • رياح “جاسندا” وسفن الإعلام الغربي.
  • فصل الربيع ويقظة العالم من غفلته.

__

من أقوال الساسة وأفعالهم ما قد يثير إعجاب المحيطين فيخطف الأضواء ويملك القلوب، من هنا تنشأ الكاريزما ويُولد الأبطال، فالبطل في التاريخ الإنساني الطويل هو ابن موقف إيجابي مشهود.

وقد خطفت رئيسة وزراء نيوزيلندا «جَاسِندا أردرن» الأضواء بالفعل على مسرح السياسة العالمية مؤخرا، وذلك من خلال ردة فعلها بعد الهجوم الغاشم الذي قام به مسلح يتبنى فكرة تفوق العرق الأبيض على المصلين أثناء تأديتهم صلاة الجمعة في مدينة «كرايست تشرش» أي كنيسة المسيح، ذلك الحادث الذي استُشهد فيه خمسون شخصا وجُرح أربعون آخرون. وقد سجلت تلك المرأة، التي وصفها بعض المعجبين بالمرأة الحديدية، حضورا مؤثرا مباشرة عقب الاعتداء حيث أبدت تعاطفا شديدا تجاه الضحايا وذويهم وظهرت على الشاشة في مناسبتين مرتدية الحجاب الإسلامي. كما نشرت وسائل الإعلام العالمية صورها وهي تُرَبِّت على أكتاف البعض وتعانقهم معزية إياهم لفقدان أقاربهم خلال المجزرة العنيفة.

يا لائمي، مهلا!

قبل الاستفاضة والاسترسال، وتصحيحا لما قد ينشأ في صدور البعض من تساؤل واستنكار لإفراد مقال يراه تمجيدا لامرأة غير مسلمة ربما لم تفعل ما فعلت إلا لدواع سياسية طارئة، وبهذا لا تستحق الإشادة إلا من باب الحنكة السياسية والقيادية لا أكثر! ينبغي إدراك أمر بديهي، وهو أن صاحب المعروف لا يأسر بمعروفه إلا قلب الحر ذي الفطرة السعيدة، ومن هذا المنطلق وصانا الله تعالى في مناسبات شتى بشكر صاحب الصنيع الجميل، وأعلن عز وجل مبينا: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ، هذا من حيث المبدأ. ولهذا رأينا النبي الخاتم لم يتوانَ عن شكر صنيع النجاشي حتى وقت كان على النصرانية، فقال بحقه: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد».. وأرسى حضرته بذلك مبدأً إنسانيا عاما ملخصه أن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، ومن لا يوطن نفسه على الاعتراف بجميل أخيه، أنى له أن يشكر على الآلاء خالقه وبارئه؟! فهذا مثل ذاك، فقف أيها اللائم عند منتهاك.

وتصحيحا لما قد ينشأ في صدور البعض من تساؤل واستنكار لإفراد مقال يراه تمجيدا لامرأة غير مسلمة ربما لم تفعل ما فعلت إلا لدواع سياسية طارئة…. ينبغي إدراك أمر بديهي، وهو أن صاحب المعروف لا يأسر بمعروفه إلا قلب الحر ذي الفطرة السعيدة، ومن هذا المنطلق وصانا الله تعالى في مناسبات شتى بشكر صاحب الصنيع الجميل..

الحزم والإنسانية، ومواقف جلالية وجمالية

المرأة الحديدية، كما بات يلقبها البعض، لم تتوقف في مسيرتها الإنسانية عند هذا الحد بل أدانت بحزم في تصريحاتها الأفكار العنصرية التي تروج لما نادى به مرتكب الجريمة من تفوق العرق الأبيض. وصرحت أن منفذ الهجوم ليس منا وتبرأت منه ومن عمله الشنيع. وفي إشارة أدبية بليغة عرَّضت «جاسندا» بالمجرم مترفعة عن البوح باسمه مشيرة إلى أنه سعى إلى نيل مآرب في نفسه بارتكابه هذه الفعلة الإرهابية بل وأدانته ناعتة إياه بالمجرم والمتطرف والإرهابي، والذي سيظل نكرة في كلمتها (أي لن تُصرِّح باسمه). ويرى المراقبون أنها بهذه اللفتة الحكيمة حالت دون السفَّاح وأهدافه الشريرة التي منها اكتساب الشهرة والترويج لأعمال إرهابية مشابهة على نطاق واسع. كما أنها لم تدخر وسعا ولم تضيع وقتا وبمبادرة مشكورة منها في البرلمان شهدت قوانين البلاد تدابير جديدة بخصوص حيازة الأسلحة النارية حيث تم حضر الأسلحة النصف الآلية والبنادق. وأكدت أن الحكومة ستقدم الدعم المالي للأسر التي فقدت من يعولها إلى جانب تقديم تسهيلات أخرى. بهذا قامت تلك الزعيمة بما يتوجب عليها فعله من موقعها كرئيسة للوزراء، فقد مارست سلطتها واستخدمت صلاحياتها كأفضل ما يكون، بتصرُّف جلالي.

أما عن المستوى الجمالي فقد بدا جليا من خلال سرعتها الفائقة في التعامل مع الحدث وإبداء تعاطفها مع أسر الضحايا حنكتها في مواساة مواطنيها المسلمين الذين يشكلون أقلية بنسبة 1% من السكان. وهذه النسبة الصغيرة غالبا لا تحظى بهذه التغطية الإعلامية وبهذا الاهتمام في بقاع أخرى. وفي لفتة خاصة منها واحتراما للمشاعر الإسلامية فقد ظهرت في مناسبتين مرتدية الحجاب وذلك خلال تأديتها للتعازي وخلال مراسم تشييع الضحايا حيث قرأت في كلمتها حديث المصطفى وذكرت بلسان عربي ذي لكنة نيوزيلندية الصلاة على النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) وقرأت ترجمة الحديث النبوي الشريف: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».. ثم صرحت قائلة: «إن نيوزيلندا تشارككم أحزانكم، نحن معكم، نحن أمة واحدة».

لأن الرعية على دين ملوكهم

المواقف التي اتخذتها «جاسندا» تركت آثارها الطيبة في نفوس مواطني بلدها رجالا ونساءا صغارا وكبارا، وتجلَّت تلك الآثار الطيبة في صور شتى، حيث ظهرت بعض النسوة اللاتي رافقنها في جولتها في مدن نيوزيلندية وهن مرتديات الحجاب احتراما للمشاعر الدينية الإسلامية التي أبدتها زعيمتهم في مشهد تضامني جد مؤثر. ولم يتوقف صدى تأثيرها على أبناء شعبها عند هذا الحد، بل إن الشارع النيوزيلندي بشكل عام تضامن مع المسلمين واصطف المواطنون من غير المسلمين أمام المساجد ممثلين دروعا بشرية لحماية المسلمين أثناء تأديتهم للصلاة. وقام أبناء القبائل الأصيلة في البلاد بمراسم شعبية تقليدية معبرين عن تضامنهم وتعاطفهم مع المسلمين.

ولم يتوقف الأثر الإيجابي عند هذا الحد بل تأثر بلمستها الإنسانية زعماء العصابات وقدموا تعازيهم وتضامنهم للمسلمبن. ولم تتوقف مواقف قيادتها الحكيمة عند هذا الحد بل وبتوجيه منها بُث أذان صلاة الجمعة عبر التلفزيون المحلي لأول مرة في تاريخ البلاد. وقد أثارت بصنيعها الإنساني المنقطع النظير غضب اليمين المتطرف إلى درجة أنها هُددت بالقتل عبر تغريدات مختلفة في مواقع التواصل الاجتماعي من قبيل: «أنت التالية» أي أتى دورك، الآن قد تُقتَلين.. ولكنها لم تكترث لذلك، وأصرت على إبراز اللحمة والتماسك بين أفراد المجتمع ومحق العنصرية والتطرف محقا باتا.

رياح «جاسندا» وسفن الإعلام الغربي

بغض النظر عن الدوافع الكامنة وراء منفذ وتنفيذ الجريمة، إلا أن من الملاحظ أن رياح ردود الأفعال أتت بما لا تشتهي سفن الآلة الإعلامية الغربية وأساطيلها.. ففي اليوم التالي للحادث أدلت «جاسندا» بتصريحاتها للصحفيين قائلة أنه بات من الواضح أن يوصف الهجوم بأنه إرهابي، وكان هذا التصريح بمثابة الصفعة على وجه الإعلام الغربي الذي يكيل بمكيالين، والذي أشار إلى منفذ الجريمة داعيا إياه تارة بالطفل الملائكي الذي تحول إلى متطرف يميني، وتارة أخرى بالرجل المجنون، في إشارة خبيثة إلى عبثية التوقف عند الحادث وأن المجرم غير مسؤول عن أفعاله. فبتصريحها المذكور لقنت وسائل الإعلام الغربية درسا قاسيا عن المصداقية في تأدية الأمانة الصحفية وتغطية الحدث بعين عادلة وبمشاعر إنسانية.

وفي الوقت الذي تعصف فيه بالعالم موجات العداء تجاه كل ما هو إسلامي برعاية الآلة الإعلامية الغربية، فيما بات يعرف بـ «الإسلاموفوبيا» أي الخوف المرضي من الإسلام والمسلمين، والذي تعدى مجرد كونه خوفا مرضيا إلى تخوُّف عدائي، واتخذ صورا شتى تعبر كلها عن ذلك العداء، كان من أبرزها حظر ارتداء الحجاب الإسلامي على النساء المسلمات المقيمات في دول الغرب، نرى مفارقة عجيبة تمثلت في ارتداء «جَسِندا» للحجاب الإسلامي نفسه المحظور على المستوى الحكومي في كثير من دول الغرب. أهل السياسة الغربيون تقض مضاجعهم معضلة دمج المهاجرين من الشرق عموما والمسلمين خصوصا في المجتمعات الغربية، وبين الحين والحين تمارس بعض الحكومات أساليب تعسفية في سبيل الدمج المرتجى، ولكن هيهات!

بات من الواضح أن يوصف الهجوم بأنه إرهابي، وكان هذا التصريح بمثابة الصفعة على وجه الإعلام الغربي الذي يكيل بمكيالين…. فبتصريحها المذكور لقنت وسائل الإعلام الغربية درسا قاسيا عن المصداقية في تأدية الأمانة الصحفية وتغطية الحدث بعين عادلة وبمشاعر إنسانية.

أفلا يتعلم الغرب من نيوزيلندا كيف يدمج المهاجرين؟!

وما كان لحدث عالمي أن يمر مرور الكرام تحت أنظار القيادة الروحية الحكيمة لجماعة المؤمنين حيث أثنى حضرة أمير المؤمنين مرزا مسرور أحمد (أيده الله بنصره العزيز) على رئيسة الوزراء في خطبة الجمعة التالية للحدث وقال:

«قد أمرت بنَشر بيان صحفي من قِبل الجماعة الأحمدية لاستنكار هذا الحدث البشع، الذي ذهب ضحيته كثير من الأبرياء، واستُشهدوا، تغمَّدهم الله بواسع رحمته، وألهم ذويهم الصبر. فالأخلاق السامية جدًّا التي أبدتْها الحكومة النيوزيلندية وخاصة رئيسة الوزراء التي أدت حق تأدية الواجبات، فهي عديمة المثال. وليت الحكومات الإسلامية أيضا تتعلم منها الدرس، وتؤدي دورا في القضاء على العداء الديني. والشعبُ هناك أيضا أيَّد الحكومة، وأعلنت الإذاعة والتلفزة أنها ستبث الأذان يوم الجمعة لإظهار المواساة مع المسلمين. كما أعلنت السيدات المسيحيات أنهن سيغطين رؤسهن إظهارا للتضامن مع المسلمات. نسأل الله تعالى أن يتقبل منهم هذه الحسنات ويوفقهم لمعرفة الصدق والحق أيضا، فالذين استُشهدوا في المسجد قد جادُوا بحياتهم لهدف نبيل وإحرازا للحسنة حيث قُتلوا خلال مساعدتهم للآخرين، رحمهم الله تعالى. وأبدى أقاربُهم أيضا صبرا غير عادي، فقد نُشرت مقابلةٌ لسيدة قد استُشهد زوجُها وابنُها البالغ من العمر 21 سنة وأبدت صبرا غير عادي. باختصار كان الحدث بشعا ومؤسفا جدا، وأظهر المسلمون هناك صبرا عظيما. وهذا ما يُتوقع من المسلم، لكن في الوقت نفسه أعلنت بعض الجماعات المتطرفة أنها ستنتقم، وهذا أمر مستنكَر جدًّا، إذ سيؤدي إلى استمرار العداوات. نسأل الله تعالى أن تنقرض الجماعات المتطرفة في المسلمين، وينتشر في العالم التعليم الحقيقي الجميل للإسلام، وأن يوفق الله غالبية المسلمين بل كلَّهم للإيمان بإمام الزمان، لكي يتمكنوا من نشر التعليم الحقيقي الجميل للإسلام في العالم متحدين».

قبيل شهر الربيع

من المفارقات أن الجريمة الإرهابية المذكورة وقعت في أواخر شهر مارس، ليغلق الشهر سجله على مأساة دامية. وكما يحل الربيع بعد أشهر الشتاء القارس، كذلك حل أول أشهر الربيع المناخي في نصف الكرة الأرضية الواقع شمال خط الاستواء.. يا لها من مفارقة لطيفة! نعم، إنها قد لا تعدو مجرد انطباع حالم، ولكن القلب يطمئن لها ويحدوه الأمل في أن تكون مأساة نيوزيلندا باعثا على يقظة العالم من سباته الشتوي، لا سيما الغرب بساسته وإعلامه.وأخيرا وليس آخرا نود أن نشكر نيوزلندا لتعليمها العالم معنى الحب واحترام كرامة الانسان بغض النظر عن الانتماء الديني والعرقي واللوني. ونود ذكر موقف نبيل آخر لهذه المرأة المثالية حين طلب إليها شاب مسلم أن تعتنق الإسلام فردت قائلة:Islam teaches Humanity and I think I have it.

« الإسلام يعلم خدمة الإنسانية وأرى أنني أعمل بمقتضى تعليمه» يا لها من إجابة حكيمة. أوَلم يعلمنا المصطفى ذلك حين قال: «الدين المعاملة»؟!

Share via
تابعونا على الفايس بوك