أم الألسنة ترعى أطفالها

أم الألسنة ترعى أطفالها

التحرير

  • الحكمة الإلهية من اختلاف الألسن!
  • وضع العربية الخاص على خارطة توزُّع اللغات العالمية!
  • دور العربية في احتضان التراث العالمي وحفظه ومن ثم نقله إلى لغات العالم الأخرى!

__

إذا كان الاختلاف سنة الله في خليقته، فلا بد أن تنشأ عنه مصلحة عظيمة نلمسها في الواقع، لأن هذا الاختلاف ليس مجرد مظهر عارض، بل هو في حقيقة الأمر دليل قائم بنفسه على وجود كيان أعلى حي قيوم متحك. الاختلاف الذي نحن بصدده هو ذلك الاختلاف الموحي بالتنوع الإيجابي، وليس ذلك الاختلاف البغيض الـمُحرِّض على إلغاء الآخر المختلف، لماذا؟! لأن الاختلاف الذي نروم بيانه ها هنا هو من الآيات الدالة على مصممه الذي أعلن سلفًا:

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (الروم: 23).

واختلاف الألسنة هو ما نحن بصدده في هذا العدد، وقد أضحى مؤخرًا، بكل أسف، ضربًا من ضروب الصراع الثقافي الذي لا يقل ضراوة أحيانًا عن الاختلاف العرقي والمذهبي والفكري والسياسي، بحيث يسيء المختلفون فهمه ليتحول بدوره آلة محو وإبادة دموية.          والعربية بصفتها لغة دين وحضارة لها وضع خاص على خارطة توزُّع اللغات العالمية، فهي اللغة الوحيدة التي لم يشهد انتشارها قمعًا لما عداها من لغات فيما انتشرت فيه من بلدان مفتوحة خلال العصر الوسيط، وبطبيعة الحال هذه القضية محل خلاف كبير، بحيث قد نُتَّهم بالتحيُّز حيالها، غير أن عقد مقارنة بسيطة بين واقع لغات البلدان المفتوحة في ظل سيادة العربية ليشهد شهادة حق بأن العربية بوصفها أمَّ الألسنة قد رعت حتى اللّغات الأخرى وأمدتها من معينها الذي لا ينضب، ففي ظل العربية كلغة ثقافة عالمية تم تأليف مصنفات بلغات غير العربية، تعد الآن من عيون الفكر الإنساني، كرباعيات الخيام ومنطق الطير لفريد الدين العطار والمثنوي للرومي، وجميعها كتب مؤلفة بالفارسية..

وكما أن الأم تضطلع بدور إرضاع وتغذية أطفالها، كذلك أم الألسنة، جبلها المولى لأداء الدور ذاته، بحيث تمد اللغات الناشئة عنها بوسائل استمرارها ومن ثم استقلالها فيما بعد كلغات حية قائمة بذاتها، العربية بوصفها تلك الأم الرؤوم أمدت جميع اللغات بمقومات الاستمرار والاستقلال، وليس أدل على هذا القول من الاعترافات المدونة في قواميس تلك اللغات الناشئة، فقواميس اللغة الإسبانية مثلا تشهد باعتمادها على قدر ضخم من المفردات ذات الأصل العربي، والتفتيش في قواميس سائر اللغات يقودنا حتمًا إلى النتيجة ذاتها.. ولكن مهلًا، إننا لا نروم من هذا التفتيش بيان أفضلية العربية على ما سواها بدافع التعصب، وإنما نسعى إلى هدف أعظم، هو لفت الأنظار نحو وحدانية واضع ذلك النظام الإنساني الفريد..

فدور العربية لا يسع أحدًا إنكاره في احتضان التراث العالمي وحفظه ومن ثم نقله إلى لغات العالم الأخرى، فعلى سبيل التمثيل نذكر كتابًا كـ «كليلة ودمنة» وهو المترجم عن لغة وسيطة بين العربية والهندية، وهي اللغة الفارسية، والمفارقة أن الأصل الهندي المكتمل قد ضاع، وكذلك الترجمة الفارسية، وبقيت الترجمة العربية بأسلوب ابن المقفع البليغ، ومن ثم تمت ترجمة ذلك السفر الفريد إلى لغات العالم استنادًا إلى الترجمة العربية، وليس كتاب «كليلة ودمنة» وحده، بل إن تراث الإغريق بأسره مدين للعربية بجواز وتذكرة السفر إلى عصر النهضة الأوربية والعالم المعاصر، ولولا العربية لدفن هذا التراث إلى غير رجعة.. ودعونا نفترض ولو جدلًا، ماذا لو قُدِّر لتراث الإغريق أن يُترجم مباشرة من لغته الإغريقية القديمة إلى لاتينية عصر النهضة الأوربية دون أن تحمل العربية عبء حمله ونقله؟! لا شك أن الجنين ينزل سقطًا إذا ما وُلد قبل تمام مدة حمله، وبالمثل، كان على التراث الإغريقي أن يقضي مدة حمله في رحم العربية حتى يتسنى له أن يُولد من جديد في بيئة اللغة اللاتينية في عصر النهضة الأوربية، لقد تمت هذه العملية خلال مدة تقارب تسعة قرون، تبدأ من بواكير حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية، والتي كانت إجراء شائعًا خلال العصر الأموي بدءًا من عام 632م بسبب العدد الكبير من الناطقين باللغة اليونانية، والقاطنين داخل حدود الدولة الإسلامية وقتذاك، ولتستمر تلك الحركة وتزدهر أكثر خلال العصر العباسي، ليصبح تراث فلاسفة الإغريق محفوظًا في رحم العربية حتى عصر النهضة الأوربية، ليبدأ من نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلادي ازدهار الحركات الاستشراقية الأوربية، والذي اتخذت معه حركة الترجمة اتجاهًا معاكسًا هذه المرة من العربية إلى سائر لغات الدول الأوربية الاستعمارية. وهذا التناظر الملحوظ بين مدة حمل الأم البشرية لجنينها الطبيعي ومدة حمل العربية لجنين التراث الإغريقي لمن الأمور الجديرة بالتأمل، لا سيما وأنها ملاحظة تتفق ووجهة نظرنا القائلة بأن العربية أم الألسنة، الأمر الذي أعلنه ودلل عليه أواخر القرن التاسع عشر مسيح الله الموعود حضرة مرزا غلام أحمد القادياني (عليه الصلاة والسلام) ضمن سياقات مختلفة لبعض كتبه، ومن أبرزها كتاب «منن الرحمن».

وعلى الرغم من أُمومة العربية لسائر الألسنة الحية والميتة، إلا أن الاعتراف بفضلها يكاد يكون منعدمًا في عالم لم يعد أكثر سكانه يعترفون حتى للأم البشرية بفضلها.. ولكن على أيِّ حال لم يفقد العالم بِرَّه، فقد بدأ على استحياء يَبَرُّ العربية، ليس على سبيل أمومتها، بل على سبيل عالميتها، وعُبِّر عن هذا البر بفعالية احتفالية باللغة العربية كلغة رسمية داخل أروقة الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية، واختير لتلك الفعالية يوم الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأول من كل عام، كونه اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190 في شهر ديسمبر عام 1973، الذي يقضي بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، كان هذا القرار نتيجة جهود حثيثة بذلتها مجموعة الدول العربية وقتئذ، ونظرًا إلى ما تتمتع به العربية من انتشار جغرافي كبير، بصفتها اللغة الأولى لدى سكان المنطقة العربية، ثم بصفتها لغة ثانية لدى كثير من الشعوب التي يدين مواطنوها بالدين الإسلامي.

وفي هذا الشهر ديسمبر/ كانون الأول يسرنا كفريق مجلة التقوى، ونحن نغلق باب عام 2020 بحلو أحداثه ومُرِّها أن ننظر إلى شدائده نظرة إيجابية، من منطلقنا الإيماني الخاص، الذي يدعونا إلى أن نكون مُبشرين لا مُنفرين، فنرى في جائحة «كورونا» فرصة للتلاقي الأسري المفقود، ونرى في أزمة أحداث فرنسا الإرهابية فرصة لإظهار شرف سيدنا محمد المصطفى كما ينبغي أن يكون إظهاره، ثم أخيرًا، يسرنا أن نحتفي على طريقتنا بالعربية كذلك من وجهين، وجه الأمومة، ووجه العالمية، فنكرِّس عدد هذا الشهر لإفراد قضايا ذات صلة، على رأسها قضية البحث العلمي ودور المسلمين التاريخي في إدارة عجلته، الأمر الذي سلط الضوء عليه حضرة أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز) في خطابه الختامي للمؤتمر السنوي لجمعية الأطباء الأحمديين، والمعروفة اختصارا بـ AMMA وفيه وضح حضرته أن جماعتنا لا تَعْدَمُ النماذج الطيبة في خدمة الإنسانية، وهي في ذلك على سيرة الأسلاف الذين كتبوا مجد الإسلام بحروف من نور في سجلات التاريخ. هذا بالإضافة إلى مادة مقالية ثرية في موضوع العربية وفضلها، معززة بيان المسيح الموعود وأدلته الساطعة على كون العربية أم الألسنة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك