لم يعد خافيا على أحد ما آل إليه وضع الأمة الإسلامية من حال بائس مؤلم وهو يرقب الأحداث الجسام والملمات العظام، التي تَحزّ في قلب كل مؤمن شريف غيور على دينه وأمته، وكيف لا والمحن تشطر جسد الأمة وتسود الغُمّة، فتتعمّق الجراح في صدور الكثيرين من هول ما يُقرأ ويُسمع ويُشاهد!
وفي ضوء ما حدث للأمة وما يحدث لها من عاديات الزمان، يكثر لَجَجُ الجدال والحديث بين الناس عن وضعهم وماهم فيه والأسباب التي أوقعتهم في شَرَكِ الأعداء، فيتبادل المسلمون أصابع الاتهام فيما بينهم، فيشتدّ زخم المأساة على حال أمة وكأنها تحتضر بفعل مرض عضال.
لقد خارت قُوى جسد الأمة حتى لم تعد قادرة على أن تحرِّك ساكنًا أو تذود عن حِمَى الإسلام الذي استُبيح من أعدائها، فانتُهِكت أعراض، وهُدِّمت ديار، وشُرِّدَتْ أهال، وسُفِكت دماء، وغَدَت أرض المسلمين نُهْبَةً، وثرواتهم لُقْمَةً وغنيمة في أيدي جَبَابِرَةِ الأرض الذين عَلوا في الأرض بغير حقٍ جائرين. وإن هذا الحال المزري الذي تعانيه الأمة ليس له من معنى سوى أن هذا الجسد فَقَدَ مقومات مناعته، واخترقته الأمراض من كل جانب وتمكنت منه بيسر وسهولة. وهذا ما يجب على الأمة الإسلامية أن تستوعبه بعدما أغفلت دروس ماضيها، ولها أن تعي أن الحال الذي هي عليه الآن ما كان له أن يكون لو كان جسدُ الأمة مُعافًى وفكرُها منيعًا وسلوكها محمديًا في الخصال والأفعال.
إن التاريخ المجيد للإسلام لم يكن في صفحة من صفحاته يعرف المذلة والهوان، ولا الخيانة والخذلان مهما اشتدت شوكة الأعداء أو قويت، وإنما كانت الأمة منيعة أصيلة بما حصنت به نفوسها من إيمان واقتدار وعزيمة روحانية مستمدة من روح الإسلام وسنة خير الأنام ، فلم يتمكن الأعداء منها ما بقيت على إيمانها. ولقد أعزها الله بنصره العزيز في مواطن كثيرة، ولا يسع المجال هنا لسرد نماذج غراء عديدة من تاريخ أمجاد المسلمين والأحداث الجسام التي ألقت بضلالها عليهم، حيث كانت كل فاجعة تقع لهم تجمعهم وتوحدهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. فكانوا بحق أمة التوحيد التي أسس رسول الهدى الأمين المصطفى دعائم وحدتها في القلوب عقيدةً ومسلكًا..
فكانت من ثمرات هذه التربية المحمدية أن حملت أمته رسالة الخير والمحبة والسلام إلى أمم الأرض وأماطت عنها كل حيف وجهالة، فأقامت لها أولى صروح الحضارة والمدنية الفاضلة التي مازالت شواخصها إلى أيامنا هذه شاهدة على مآثرها ..نعم أيها القارئ الكريم يوم كانت الأمة على العهد والوعد الذي اختطه لها رب العزة، مزّق الله كل يد آثمة امتدت إليها بسوء، فخاب كل جبار عنيد أن يقهرها، وكيف لا وقد وعد الرحمن أنه كان حقا علينا نصر المؤمنين! فحقق الله وعده ونصر عباده المظلومين من كيد الكائدين وجعل الحسرة في دورهم، فاستخلف عباده فصاروا سادة الدنيا والدين.
أخي القارئ إن نكبات الأمة ونكساتها تكشف بجلاء ذلك الخلل الجسيم والداء السقيم الذي أنهك جسد الأمة حتى جعلها عاجزة خائرة، فالداء أولا وأخيرا هو داء القلوب الخاوية من روح العبودية لله .. روح التوحيد التي جاء الإسلام ليرسخها فينا عبر مختلف شعائره ومقاصده، لأن أولى مقومات ما حملته الرسالة وما تستند إليه هي كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله التي حمل َ سَارِيَتِها رسولُنا الأكرم . إنها حقيقة إيمانية غراء لم تصدح بها حناجر المسلمين الأوائل إلا بعدما ختموا قلوبهم العامرة بمعانيها، فأيقنتها أنفسهم وصدورهم، فتجلّت عليهم طيلة ردح من الزمان بما تعهدوها بصدق وإخلاص وإيمان. فاستخلفهم ربهم في الأرض ومكّن لهم فيها عزًّا ونصرًا وفتحا وغلبةً وسؤددًا.. نعم يوم كانت الأمة تحمل تلك الروح والخصال المنبثقة عنها، توجّهت أنظار البشرية إليها بحب وكبرياء، حيث توحدت مختلف الأمم والأجناس في بوتقة الإيمان والعقيدة الراسخة على يد من كانوا أهلاً لتلك الروح التي جاء بها الإسلام كمنهج اهتداء واقتداء إذ لم يُفلِح على مدى التاريخ البشري أن يقوم بهذا الدور العظيم بما يشبهه أو يماثله في الفكر والقناعة والوجدان إلا هذا الدين. لقد سعت إمبراطوريات وممالك عظمى إلى توسيع رقعة نفوذها وجغرافيتها إلى مناطق شاسعة وسيطرت على مختلف الشعوب، فحكمت العباد والبلاد لكنها لم تنجح في الاستيلاء على القلوب لتتآلف جميعها على اختلاف أعراقها وأجناسها وقومياتها في بوتقة مبدأ إيماني مقدس تنجذب إليه رغبة ومحبة وإخلاصا كما فعلت رسالة الإسلام الغراء التي حررت الإنسان من قيد عبودية أرضية إلى عبودية أحق وأعلى وهي عبودية سماوية ربانية.. فعلى المسلمين أن يستوعبوا هذه الحقيقة بأن إخلاص العبودية لله هو الذي يجعل من الضعف قوة ومن المـَهانَةِ عزًّا .. ولكم أن تستقرؤوا التاريخ كيف كان العرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام وكيف كان حالهم بعده! ألم يكونوا أحقر الأمم وأهونها في أعين الروم والفرس اللذَين كانا ينظران إليهم بازدراء واحتقار! فأردفا لهم كل نعت ومذمة!؟.. ثم فكروا كيف انقلب حال العرب إلى غير ذلك، بعد مجيء الرسالة المحمدية المجيدة حيث أورثهم الله ملك جبابرة الأرض من الروم والفرس! أولم تكن عزة العرب إلا بهذا الدين الذي أخلصوا فيه العبودية لله حتى بلغت دعوتهم أقاصي الأرض.. دعوة غطَّتْ أممًا مختلفة الألوان والألسن والأجناس لكنها موحدة روحيا، فكانت بحق أمة واحدة وخير الأمم بما جَعَلَتْ عِزَّةَ الله فوق عِزَّةِ العرق واللسان والجاه والسلطان.. ألا فاعتبروا معشر المسلمين، فانصروا الله في أنفسكم ليكون لكم نصرًا من السماء، وأنتم ترون حالكم كيف عَظُمَ فيه البلاء وساد الأرجاءَ، وامتُشِق السيف وحلَّ الحيف! فانصروا الله ينصركم بوعده، واحذروا أن تخدعكم الدنيا بزخرفها والنفس بأهوائها، إذ لا يجتمع إيمانٌ مع طغيان، ولا نصرٌ مع غَدْر، ولا كرامة مع خيانة، ولا هزيمة مع عزيمة… فالنّواقِصُ التي أُصيبت بها أمتكم هي التي أَوْرَدتْهَا الهزيمة والخسران طيلة عقود من الزمان، وهذه حقيقة يجب أن تعيها الأمة من الآن، لأن هذه الهزائم المتكررة إلى أيامنا هذه ليست في حقيقتها هزائم الإسلام، وإنما لمن هزموا مبادئ الإسلام في نفوسهم!.. إن ذاكرة الأمة مازالت تختزن شُجُونَ مآسٍ ونكبات عديدة رغم مرور زمن عليها، لكنها للأسف لا تَعْتَبِرُ منها، وإنما نَاحَتْ كما ناح عليها الآباء والأجداد، وأكثرت من رثاء نكباتها في الأشعار، وتفاخرت بأمجاد تَليدَةٍ ضائعة حيث لا ينفع لاستعادتها بعد الضياع المحتوم سَكْبُ دموع ولا عَوِيلُ حزينٍ مَفْجُوع بعد مذلة وخنوع!؟.. لقد ضاعت صروح أمجاد الأمة فأضحت غنيمة بأطلالها لغير المسلمين يوم أضاع المسلمون تلك الروح الإيمانية التي هي بذرة الانبعاث والحضارة .. فاسألوا أنفسكم ولُوموها كيف ضاعت أَنْدَلُس وفِردَوْسُها؟!.. وفلسطين وقُدسُها!؟.. وبغداد وذُرَى مجدها!؟
أم تراكم تجيبون كما أجاب الشاعر:
كَمْ قُصُورٍ أُشَيِّدُها شَامِخاتٍ
كُلَّما أَسْدَلَ الَمسَاءُ السِّتَارا
.
وَأَراهَا قَدْ اسْتَحَالَت خَرَابا
حِينَمَا يُكْشَفُ السِّتَارُ نَهَارَا