تزداد محنة اللغة العربية بين تفريط أبنائها ومخططات أعدائها في ظل عصر العولمة وتعدد الوسائط السمعية والبصرية وانتشار مناهضي الثقافة الغربية في العالم الإسلامي، حيث أصبحت لغة الضاد تتعرض لطعنات عنيفة.. بين مُشكك في حيويتها وقدرتها على مجارات العصر، ومنسلخ منها بحجة أنها لا تَمُّتُ إليه بصلة على أسس عرقية وقومية داعيا إلى نبذها ومؤكدا على استبدال أبجديات حروفها برموز أخرى، وهلم جرا من أصحاب هذه الدعوات المُنْكَرَةِ التي أصبحت تنفخ في نار أجَّجَهَا ويُؤَجِّجُهَا من يريدون أن تَنْفَصِمَ روح اللسان العربي عن الأمة حتى تنمحي تلك الصلة بيننا وبين القرآن الكريم!!
لقد أشاعوا ظلمًا وبهتانًا بأن اللغة العربية لغة قديمة أصبحت عاجزة عن مواكبة التقدم العلمي، قاصرة عن التباري مع اللغات الحية في مجال العلوم. وقالوا إن العلوم المعاصرة تنتج في كل يوم مائة مصطلح جديد وأما العربية فهي تستهلك ما يُنتج من مصطلحات فقط، فكيف ستلحق بهذا الركب الهائل؟! وغير ذلك من المبررات الواهية. مع أن العربية لها أسوة بأقدر اللغات الحية المعاصرة بل وتتفوق عليها. فاسألوا التاريخ.. ماذا فعل الغرب للتوصل إلى النطق بالخاء والطاء والصاد! وما شابهها؟ ألم يضطر علماؤه إلى الاعتماد على رسوم وحركات وإشارات جديدة تُضاف إلى أبجديات حروفه ليلفظها كما نلفظها نحن في لساننا العربي؟! وكتب المستشرقون والمستعمرون والباحثون في مخطوطاتهم الكثير اعترافا بافتقار أبجدياته وفوبياته الصوتية (المخارج الصوتية لأحرف اللغة)! ألا يدلّ ذلك ما لأبجديتنا العربية من ميزة التفوق والكمال والثراء، أم على قلوب أقفالها!! إنه ليس من الصدفة أن تشتد سهام التشكيك ضد اللغة العربية مع تزامن الهجوم الشنيع على القرآن الكريم، حيث يتهمونه بأنه ما دام يعلن أنه بلسان عربي مبين فلماذا وردت فيه كلمات أعجمية! وهذا فيض من غيض من شبهات حملة عالمية منظمة يقودها الدجّال بشقه الديني والثقافي مع زمرة من أتباعه مِـمنْ هُمْ مِن أبناء جلدتنا.. وهذا الاتهام في حق القرآن المجيد لا ينم إلا عن جهل بحقيقة القرآن ورسالته العالمية وحكمة تنـزله من عند الله بلسان عربي مبين!
إن أول ما تستهدفه هذه النعرات التي تحيكها القوى الدجالية بمكر ودهاء هو إضعاف لغة القرآن الكريم وصلة أبناء الإسلام به وبين أحكامه وتعاليمه إمعانا في تغريب العقول بقيم اجتماعية وثقافية منحطة في قالب جذاب برّاق يستهين بالقيم الروحية التي حثّ عليها الدين الحنيف، ليحلّ محلها فكر المادة وإشباع الغرائز والنَّعَرَات الجاهلية.. وحيثما تحقق هذا الهدف وقعت الأمة بين كَمَّاشَتَيْ التَّغريب والتَّنصير، إذ لا فارق بين من يهدم الجسد والروح واللسان العربية إذ كل المعاول في الهدم واحدة!! وهذا الثالوث الهدّام ما كان له أن يتحد في هدف واحد ويشرئبّ بعنقه ويتطاول لولا أن صار المسلمون كغثاء السيل وتداعت الأمم عليهم كما تداعى الأكلة على قصعتها، وقد كانت أول إرهاصات ظهور هذا الثالوث عند مطلع القرن الرابع عشر الهجري كما لا يخفى على أحد من الدارسين! حيث صارت ديار المسلمين تحت قبضة الاستعمار الغربي الذي طالت سطوته ربوع الأرض كلها ووطئها كما يغطي الجراد المنتشر الخضراء والغبراء! حيث عمل على نشر ثقافته وفكره عبر مستشرقيه ومنصّريه الذين لم يتوانوا للحظة واحدة في توجيه الطعنات إلى العربية إمعانا في الطعن بالقرآن الكريم والإسلام العظيم ..ومن عجائب قدر الله تعالى وعظيم فعله أن بعث سيدنا أحمد عليه السلام الذي جاء وفق وعده سبحانه عند بداية إرهاصات هذه الفتن الدجالية الهائجة ضد الدين ليتصدى لذلك الثالوث العقائدي والأخلاقي والفكري الهدام الذي أتى به الدجال إلى العالم الإسلامي، فكان عليه السلام خير مدافع عن هذا الدين بتأييد من رب العالمين، وكان من جملة آياته من ربه أن علّمه سبحانه في ليلة واحدة أربعين ألف جذر من جذور العربية متحديا بهذه المعجزة كل مكابر ومكذّب، ولم يقف الأمر عند هذا التحدي بل أثبت أن العربية أم الألسنة واللغات وأقدم لغة عرفها البشر، وأنها من وحي الرحمان، ودللّ ببراهين عديدة على ذلك بما يؤكد ذلك باعتبارها تلك الأم وذلك الرَّحِم الذي تولدّت منه كل اللغات وتفرعت منها، كونها أصل لسان البشرية. لقد استبشر مؤلفو المعاجم العربية والباحثون واللغويون العرب خيرا بما أعلنه عليه السلام ولم يتمالكوا أنفسهم من الدهشة والإعجاب بما أشار إليه، إذ لم يكن في وسع أحد من اللغويين والباحثين في اللسانيات أن يصل إلى حقيقة لغز اللغة وبدايتها وإشكالية تنوعها! وأشار عليه السلام كيف أن الله جعل لفظ البيان صفة للعربية في القرآن ووصف العربية بعربي مبين في إشارة إلى فصاحتها وعلو مقامها عند الرحمن، بينما الألسنة الأخرى لم توصف بمثل هذا الشأن! بل وما عزاها إلى نفسه لتعليم الإنسان، بل سماها أعجمية!! وهي كل ما لا يكاد يبين لسانه ولا يُحفظ نظامه، وكان إعلانه هذا ضربة وصدمة لكل عدو للقرآن الكريم ولكل من يشكك في عربية بعض كلمات آياته أو يحتقر اللغة التي نزل بها إذ لا يبقى بعد ذلك شكّ سوى التسليم بعربية تلك المفردات وأنها عربية الأصل والجذر، وأن وجودها في اللسان الأعجمي يؤكد قطعا أن العربية هي الأصل وغيرها فرع منها..
والعجيب أن العربية التي تمتلك أكبر عدد من جذور الكلمات ومشتقاتها والتي لا نجد لها في اللغات الأخرى مثيلا! تُوصف بالفقر والعجز فيا ليت قومنا يعلمون مقامها فيقدرونها حق قدرها وها نحن ندعوكم للاعتزاز والاهتمام بالعربية لغة القرآن العظيم.
ولكن هجماتهم لم تقتصر على الدين واللغة بل إنهم خططوا للتصفية الجسدية.. فالدنيا قاطبة تعلم بتلك الحملة التي روجت لها القوى الغربية في البلاد الإسلامية حيث شجعت على تحديد النسل في دول العالم الإسلامي ووفرت لذلك الوسائل والتسهيلات، وفي نفس الوقت كانت تشجع أهاليها وأبناء جلدتها على الإنجاب حتى إن بعض الدول الغربية تقدم هبات مالية فائقة للأسرة عند إنجاب المولود الأول ثم تتوالى الهبات الحكومية مع التسهيلات الأخرى وذلك تشجيعا للإنجاب والتكاثر فيما بينهم. فنحن لا نستغرب من سياسة الازدواجية التي عودتنا عليها الدول الغربية وها هم يُعامِلوننا مرة أخرى بنفس الوقاحة.. تهميش دور اللغة العربية وتشويه مكانتها العلمية واتهامها بالعقم وفي نفس الوقت تُرسل الدول الغربية كثير من رعاياها من باحثين وإداريين وساسة لتعلم أصول اللغة العربية في دول الشرق الأوسط بأعداد كبيرة، هذا إلى جانب إقبال عدد كبير مِمَن لم يتمكنوا للسفر إلى الدول العربية حيث إنهم ينخرطون في مؤسسات تعليمية محلية في بلدانهم لتعلم اللغة العربية. وأفادت بعض التقارير أن الإقبال على تعلم اللغة العربية في بعض الدول الغربية يحتل الصدارة بالمقارنة بتعلم اللغات الأخرى. لقد درس الغرب التاريخ بعين ثاقبة وعرف أن سر نجاح المسلمين عبر التاريخ كامن في تمسكهم بدينهم الحنيف الذي تمثل العربية أساسه وبنيانه المتين وتوصلوا إلى أن أحسن طريقة للقضاء على المسلمين هي إقصاء العربية من حياتهم كي يتجهوا نحو الهاوية خطوة بعد أخرى. ففي بضع سنين سيتخرج أساتذة لغة عربية غربيين سيقررون مناهجنا الدراسية ويؤلفون كتبًا في ذلك وهكذا سيسلخون الهوية الإسلامية من أبنائنا ويلقنونهم ميوعة ومفاسد وشذوذ الغرب. فها نحن نضع النقاظ على الحروف كي نكشف لأمتنا الحبيبة خلفية هذه الحملة الشرسة. أجارنا الله وإياكم من شرورهم وجعلنا وإياكم مِمَّن يُعزون أم الألسنة ووفقنا في خدمة لغة القرآن.. ورحم الله من قال: وَكَمْ عَزَّّ أَقْوَامٌ بِعِزِّ لُغَاتِ..!!