لا رجوع حقيقي إلى الدنيا

وربما يختلج في قلبك أن رجوع الموتى إلى الدنيا بعد دخولهم في الجنة ممنوع، ولكن أي حرج في رجوعٍ كان قبل دخول الجنة؟ فاعلم أن آيات القرآن كلها تدل على أن الميت لا يرجع إلى الدنيا أصلا، سواء كان في الجنة أو في جهنم أو خارجا منهما، وقد قرأنا عليك آنفا آية:

  فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ، أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ .

ولا شك أن هذه الآيات تدل بدلالة صريحة على أن الذاهبين من هذه الدنيا لا يرجعون إليها أبدا بالرجوع الحقيقي، وأعني من الرجوع الحقيقي رجوع الموتى إلى الدنيا بجميع شهواتها ولوازمها، ومع كسب الأعمال من خير وشر، ومع استحقاق الأجر على ما كسبوا، ومع ذلك أعني من الرجوع الحقيقي لحوق الموتى بالذين فارقوهم من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة الذين هم موجودون في الدنيا، وكذلك رجوعهم إلى أموالهم التي كانوا اقترفوها، ومساكنهم التي كانوا بنوها، وزروعهم التي كانوا زرعوها، وخزائنهم التي كانوا جمعوها. ثم من شرائط الرجوع الحقيقي أن يعيشوا في الدنيا كما كانوا يعيشون من قبل، ويتزوجوا إن كانوا إلى النكاح محتاجين، وأن يؤمنوا بالله ورسوله فيُقبل إيمانهم ولا يُنظر إلى كفرهم الذي ماتوا عليه بل ينفعهم إيمانهم بعد رجوعهم إلى الدنيا وكونهم من المؤمنين. ولكنا لا نجد في القرآن شيئا من هذه المواعيد ولا سورة ذكرت فيها هذه المسائل بل نجد ما يخالفه كما قال الله تعالى:

  إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين * خَالِدِينَ فِيهَا (البقرة:162-163).

فانظر كيف وعد الله للكافرين لعنة أبدية، فلو رجعوا إلى الدنيا وآمنوا بكتبه ورسله لوجب أن لا يُقبل عنهم إيمانهم، ولا يُنزع عنهم اللعنة الموعودة إلى الأبد كما هو منطوق الآية، وأنت تعلم أن هذا الأمر يُخالف هدايات القرآن كما لا يخفى على المتفقهين.

وأما إحياء الموتى من دون هذه اللوازم التي ذكرناها، أو إماتة الأحياء لساعة واحدة ثم إحياؤهم من غير توقف كما نجد بيانه في قصص القرآن الكريم فهو أمر آخر، وسر من أسرار الله تعالى، ولا توجد فيه آثار الحياة الحقيقية ولا علامات الموت الحقيقي، بل هو من آيات الله تعالى وإعجازات بعض أنبيائه، نؤمن به وإن لم نعلم حقيقته، ولكنا لا نسميه إحياءً حقيقيا ولا إماتة حقيقية. فإن رجلا مثلا أُحيَى بعد ألف سنة بإعجاز نبي ثم أُميت بلا توقف، وما رجع إلى بيته، وما عاد إلى أهله وإلى شهوات الدنيا ولذّاتها، وما كان له خيرة من أن تُرد إليه زوجه وأمواله وكل ما ملكت يمينه ومن ورثاء آخرين، بل ما مس شيئا منها ومات بلا مكث ولحق بالميتين، فلا نسمي مثل هذا الإحياء إحياءً حقيقيا بل نسميه آية من آيات الله تعالى ونفوض حقيقته إلى رب العالمين.

ولا شك أن إحياء الموتى وإرسالهم إلى الدنيا يقلب كتاب الله بل يُثبت أنه ناقص، ويوجب فتنا كثيرة في دين الناس ودنياهم، وأكبرها فتن الدين. مثلا كانت امرأة نكحت زوجا فتوفي فنكحت زوجا آخر فتوفي فنكحت ثالثا فتوفي، فأحياهم الله تعالى في وقت واحد فاختصموا فيها بعولتها، وادّعى كل واحد منهم أنها زوجته، فمن أحق منهم في كتاب الله الذي أكمل أحكامه وحدوده؟ وكيف يحكم فيهم القاضي؟ وكيف يحكم في أموالهم وأملاكهم وبيوتهم من كتاب الله؟ أتؤخذ من الورثاء وترد إلى الموتى الذين صاروا من الأحياء؟ بينوا تؤجروا، إن كنتم على قول الله ورسوله مطلعين. *

وكذلك الإماتة التي كانت لساعة أو ساعتين ثم أُحْيِيَ الميت، فليست إماتة حقيقة بل آية من آيات الله تعالى، ولا يعلم حقيقتها إلا هو. وأنت تعلم أن الله ما وعد بحشر الموتى في القرآن إلا وعدًا واحدًا وهو الذي يظهر عند يوم القيامة، وأخبر عن عدم رجوع الموتى قبل يوم القيامة، فنحن نؤمن بما أخبر وننـزه القرآن عن الاختلافات والتناقضات، ونؤمن بآية:

  فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ (الزمر:43)،

ونؤمن بآية:

  وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (الحجر:49).
* يقصد حضرته أن كتاب الله لم يحتو أي تشريع لمثل هذه الأمور، وحيث أن كتاب الله قد اكتمل بكل التشريعات التي تحتاجها الإنسانية إلى يوم القيامة، فيعني هذا أن هذه الأمور لا يمكن وقوعها في الحياة الدنيا. “التقوى”                      (حمامة البشرى، الخزائن الروحانية ج 7 –  ص 247 – 249)
Share via
تابعونا على الفايس بوك