التقوى منكم وإليكم

التقوى منكم وإليكم

أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم

مما لا شك فيه أن تنشئة الصغار على الكرم في عالمنا الذي يطغى عليه طابع التنافس مسألة صعبة المنال. ولكن تنشئة الصغار على الكرم في بيئة طابعها الأساسي التعاون أمر ممكن تحقيقه. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام.. هل نحن داخل الأسرة متنافسون أم متعاونون؟ هذا هو الأمر الذي يجب على الكبار في كل أسرة أن يوجهوه لأنفسهم.

فإذا الأب يقوم بعد تناول الوجبة ولا يساعد في رفع الأطباق، ثم يُصدر الأوامر فقط حيث يطلب كوب شاي بدون أن يبالي بالظروف المحيطة به. فتسرع الأم لتضع الشاي على النار وتهرول لتأخذ الأطباق من على المائدة، ثم تلهث لوضع الأطباق في الغسالة ثم تراقب غليان الماء على النار، ثم تسرع لتنظيف مائدة الطعام، ثم تلهث لوضع بعض الشاي في الماء الذي يغلي، ثم تُـخرج الأكواب النظيفة، ثم تحضر الشاي للأب الذي يقرأ الجريدة  وينظر إلى الشاي باشمئزاز فإذ به غامق اللون، فيعلق ساخرًا: ما هذا الذي تقدمينه لي؟ إني أحب الشاي مصنوعًا بتلك المواصفات، فمتى ستعرفين مزاجي؟إن الطفل الذي ينشأ في بيت تقوم فيه المرأة بكل الأعمال المنـزلية ويكون الرجل فيه تجسدا للكسل ودكتاتورا يُصدر التعليمات فقط، ينظر إلى دوره في الحياة المستقبلية أنه امبراطور يُرضخ كل مَن حوله لسلطانه. أما الطفلة التي تنشأ في مثل هذا البيت تأخذ انطباعًا سيئًا عن وضع المرأة في المجتمع، وقد تصبح فيما بعد زعيمة نسائـية مـن المطالبـات بحقوق المرأة. وهذا ما حدث بالفعل مع زعيمات حركات تحرير المرأة، فقد كان الأب في أسرة كل واحدة منهن رجلاً قاسيًا، فظاً، لا يحسن التعاون مع الزوجة، ولذلك تمردت عليه الابنة، وتمردت على كل رجل غيره. فمن أجل توازن الأسرة إذن، لابد من أن لا يقوم فرد بدور السيد، وآخر بدور العبد. كما يجب أن يعرف كل فرد في الأسرة مسـئولياته وواجـباته وضـرورة مسـاهمتـه في إنشاء أسرة سليمة.إن البلد الذي يستطيع أن ينشئ أطفالاً يحسون في أعماقهم بأهمية الآخرين ويحرصون على مساعدة بعضهم بعضًا، يستطيع  على المدى البعيد أن يحل المشاكل الجادة التي تواجه الإنسانية حاليًا، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات خصوصًا مشاكل الطلاق، والإرهـاق العـصبي، وانحرافات الشباب، وغير ذلك من المشاكل التي تقف أمامها كثير من البلدان حائرة تائهة لا حول لها ولا قوة لمواجهتها.وعندما نتوغل في أعماق الطفل نستطيع أن نلمس أن الكرم والقدرة على التعاون مع الآخرين يوجد في استعـداده الطبيعي الفطري للاستجابة العاطفية لأي مشاعر ودودة توجد حوله. ويظهر ذلك منذ الشهر الثاني لميلاده حيث يبتسم بسعادة بالغة عندما يداعبه الكبار، وإذا ما شعر أن كل من حوله يحبه يتفاعل مع هذا الحب ويظهر مشـاعر مودة تجاه من حوله. وتظهر بوادر هذه الحالة عندما نرى محاولة الطفل عند بلوغه ثمانية عشر شهرًا إطعام أمه بعضًا مما يأكله بنفس الطريقة التي تطعمه بها. هذا هو المستوى الأول من الحب وهو جانب فطري يمكن تنميته ليكون واقعًا سلوكيًا، وهكذا ينتقل الحب من المستوى الأول إلى المستوى الثاني وهو السلوك الدائم في المجتمعات على ضوء التفاعل العاطفي.إن خيال الطفل يكتشف أولاً أنه محبوب وأنه يملك طاقة عطاء للحب. ثم ينتقل الطفل من حالة الخيال العاطفي إلى الترجمة العملية لهذه العواطف في الدائرة الاجتماعية الأوسع، وهذا ما يُعرف باكتساب القدرة على العطاء. وهذا الكرم المبكر في الطفولة يكون محدودًا وعفويًا حتى العام الثالث من عمر الطفل. فقد يشارك غيره من الأطفال في بعض لُعبه، ولكن هذا الكرم قد ينقلب إلى نقيضه فيهجم الطفل على صديقه لمجرد أنه يلعب بلعبة من لعبه.. تلك اللعبة التي أعطاه إياها عن كرم.وعلى الآبـاء والأمهات تقوية الجانب الدافئ والإنساني والكريم في طبيعة أطفالهم خلال الثلاث السنوات الأولى. إن هذه السنوات تنطوي على مشاعر مختلفة ومختلطة. حيث يفعل الطفل في هذه المرحلة الشيء ونقيضه بدون وعي، بل يتصرف دون حاجة إلى تفكير مسبق. إن الفطرة الأولى هي التي تغلبه.ويمكن للآباء أن يقوموا بخطوات فعالة وواعية لترسيخ عادات التعاون بينهم وبين أطفالهم، بدلاً من أن يتركوا الطفل دون إرشاد، وهو بذلك يتحول إلى طاقة لا يُعرف لها منفذًا إلا الإساءة إلى الآخرين. إن الطفل الذي لا يجد ما يفعله يمكن أن يدمر ما حوله لمجرد الفوضى ولمجرد التعبير عن طاقاته الهائلة الموجودة في جسده والتي تعبر عن نفسها بشكل تلقائي. إن الأهل يجب أن يتيحوا الفرصة للطفل أن يلعب، وأن يحاولوا تعليمه كيفية مساعدتهم في بعض أعمال البيت البسيطة كترتيب لعبه المبعثرة في قاعة الجلوس. وعندما يفعل الطفل ذلك لابد من إظهار الشكر والامتنان، لأنه يمكن أن يحس بقيمة هذا الشكر ويتفاعل مع الأسرة في المرات القادمة.

كما يمكن للأم أن تطلب من طفلها وهو في سن العامين أن يحضر لها شيئًا يمكن أن يحمله من غرفة مجاورة. وهكذا سيقبل هذه المهمة على أنها رسالة سامية يؤديها. وسيشعر أن طلب أمه لمساعدتها هو تأشيرة دخول إلى عالم الكبار.وأحيانًا يعصي الطفل أمرًا أو طلبًا من أمه أو أبيه، وهنا يجب أن لا نجبر الطفل على فعله، ولكن على الأب أن يتصرف بجدية شديدة وأن يقوم هو بتنفيذ الفعل المطلوب ويعلن أنه كان سيفعل هذا الشيء بطريقة أفضل لو ساعده ابنه الصغير في أداء هذا العمل. وهكذا يستثير همة الطفل، وهذه طريقة فعالة لتوليد العاطفة الإنسانية، عاطفة مد يد المساعدة للآخرين عندما يحتاجونها. إنها الجدية الشديدة الممتزجة بالعاطفة.بعد العام الثالث تبدأ فترة تستمر حوالي ثلاث سنوات، وفيها يحس الطفل بمشاعر بريئة متوهجة نحو الأم في حالة الصبي ونحو الأب في حالة البنت. إنها أول قصة حب نقي في حياة الطفل، ويلعب فيها الأب أو الأم دور المنافس. إن الولد ينافس والده في حب الأم والبنت تنافس الأم في حب الأب. ويحاول الولد أن يتسلط على الأم وأن يمتلكها، وتحاول البنت أن تحيط الأب بكل حنانها حتى لا يحب أمها. وهنا يمكن للأب أن يُعلم الفتاة الصغيرة كيف تعتني بنفسها، وهنا يمكن للأم أن تعلم الابن كيف يساعده في أعمال البيت. كما يمكن للأب أن يفخر بالابن الذي يساعد أمه في أعمال البيت، وبذلك يقلل من الجانب السلبي لمنافسة الابن لأبيه في حب الأم. كما يمكن للأم أن تفخر بالبنت التي تساعد والدها وتهتم بشؤونه، والأم بذلك تقلل من الجانب السلبي لمنافسة الابنة في حب الأب.إنها تفاصيل صغيرة يمكننا نحن الكبار أن نهتم بها ولا تكلفنا جهدًا كبيرًا، ولكنها تُعلم الطفل الصغير كيف يكون كريمًا ومتعاونًا منذ بداية رحلة العمر.

وأود أن أنوه إلى أن الغرض من هذه السطور ليس الغوص في غيابات علم نفس الطفل ولكن لمس المواضع الأساسية التي تلعب دورا هاما في تطوير شخصيته. وقد يهمل الكثير من الآباء نقاطًا تبدو أنها تافهة بالنسبة لهم ولكنها أساسية بل بالأحرى تُعتبر مسألة موت أو حياة بالنسبة لمزاج وسلوك الطفل. فالحب هو شحنة يتحصل عليها الطفل منذ ولادته وذلك بتأويل كل الحركات والسكنات التي تصدر تجاهه، فيدخرها أو بالأحرى يستثمرها لسنين طويلة داخل كيانه. وقد يعتبرها بصفة لا شعورية أنها أمانة يجب أن يؤديها لأهلها. فيوزع هذا الحب المكنون داخله بكل عدل على من هم في محيطه كل حسب حظه. ثم عندما يؤسس أسرةً تحظى حرمه وأولاده بالنصيب الأوفر. أما الذي لم يدخر شيئا للمستقبل فأنى له أن ينعم بالحياة الكريمة أو أن يكون سخيًّا على أهله وأهاليه.. ورحم الله من قال: فاقد الشيء لا يعطيه.

وقد وضع من أعطاه الله جوامع الكلم سيدنا ومولانا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم الخطوط العريضة لسلامة الطفل بكلمات وجيزة غطت جميع مراحل حياته حيث قال أصدق القائلين  صلى الله عليه وآله أجمعين: “أكْرِمُوا أولادكم وأحسِنوا أدبهم”. فادرسوا أمة الإسلام سيرته الطاهرة المطهرة  مع صحابته وأهل بيته كي تستنيروا بنور معالم هذه الشخصية الربانية التي لم ولن تر الدنيا مثيلا لها. جَعَلَنَا الله وإياكم ممن يقتبسون من نوره صلى الله عليه وسلم ثم يشيعونه بين الأهل والأهالي.

مساهمة الصديق

أ.ج.م (المملكة المغربية)

Share via
تابعونا على الفايس بوك