(5) إحياء المسيح للموتى!
أحزر الإسلام في العصور الأولى من نشأته تقدمًا سريعًا، فدخل فيه الناس من مختلف الأديان أفواجًا. فجلبوا معهم بعض المعتقدات الخاطئة عن المسيح عيسى بن مريم . إنهم لم يدركوا حقيقة التعاليم الإسلامية فوجدت أفكارهم ومعتقداتهم الخاطئة طريقها إلى بعض الكتب الدينية الإسلامية.. هذه المعتقدات الخاطئة التي تُظهر المسيح عيسى كشخصية جد استثنائية، وجِدُّ خارقةٍ للعادة.. شخصية أعلى بكثير من صفته البشرية.
إن القرآن الكريم قد أنشأ مقارنة هامة بين يحيى، وهو نبي ذو درجة روحية عادية بالنسبة للأنبياء، وبين المسيح عيسى عليهم السلام، وهذا يدل على أن عيسى لا يملك قوى وصفات تميزه فوق العادة عن الأنبياء الآخرين. ونذكر بعض الصفات والخصائص الروحية لهذين النبيين كما وردت في القرآن الكريم.
عيسى عليـه السلام
كان رسولاً من الله تعالى..
كان من الصالحين..
علَّمه الله تعالى الكتاب والحكمة..
تكلم مع الناس وهو طفل، أي في سن مبكرة.. بكلام حكيم
أُعطيَ القرب من الله تعالى..
كان لطيفًا ومطيعًا لوالدته.. بكثير من صفته البشرية.
كان رقيق القلب، حنونًا..
لم يكن جبارًا ولم يكن شقيا (غير مبارَك).
كان مباركًا من الله تعالى ومؤيدا بروح القدس..
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (سورة البقرة: 254).
كان مصانًا بسلام إلهي..
الله سبحانه وتعالى سماه المسيح..
يحيى عليـه السلام
كان نبياً مرسلاً من الله تعالى..ومن الصالحين
أعطاه الله تعالى الكتاب ومنحه الحكمة..
أعطاه الله تعالى الحكمة وهو صبي، أي في سنٍ مبكرة..
كان الله راض عنه..
كان لطيفاً ومطيعًا لوالديه..
كان حنونًا وصفيًا، وتقيًا..
كان مرضيًّا عنه، ومنقطع النظير في بعض الأمور..
اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (سورة مريم: 8).
كان محاطا ًبسلام إلهي..
الله سبحانه وتعالى سمَّاه يحيى..
يجب ألا يُساءَ الفهم بهذه المقارنة فيقال أن عيسى ويحيـى عليهما السلام كانا على ذات الدرجة الروحية، وأنه ليس ثمة شيء مميز بينهما، وإنما الحقيقة أن عيسى كان على درجة روحية أعلى من يحيى عليهما السلام. فكما أن الناس على درجات، كذلك الأنبياء أيضا على درجات، وأعلاهم درجةً الرسول محمد . إن ما أشار إليه القرآن الكريم بالمقارنة السابقة هو بيان أن المسيح عيسى بن مريم لم يملك صفةً ترفعه إلى درجة الألوهية. لا شك أنه كان نبيًّا عظيمًا ومصونًا عن الخطيئة، ولكن هذا كان جميع الأنبياء أيضًا، ويحيى كان واحدًا منهم، وعن يحيى قال المسيح عيسى في إنجيل لوقا (7: 28):
يعتقد بعض الناس بأن المسيح بن مريم كان يُحي الأموات كمعجزة، والأسف أن بعض المسلمين أيضا يعتقدون بذلك بناء على الآية القرآنية في سورة آل عمران إذ يقول الله تعالى بلسان عيسى : وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ (آل عمران: 50).
إن إحياء الموتى بالمفهوم العام نوع من أنواع الخلق، لذا فعلينا، قبل أن نشرح الآية، أن نوضح بأن لكلمة “خلق” في اللغة العربية عدة معانٍ، ومن هذه المعاني: القياس، التحديد، التصميم أو التكوين؛ والصنع والخلق الخ (قاموس لين واللسان).
وإن صفة “الخلق” بمعنى الصنع والخلق لم تُنسب في القرآن الكريم إلى أي كائن غير الله ، بل إن القرآن الكريم أكد بكل قوة وشدة وتكرار أن هذه الصفة المميزة هي لله فقط الواحد الأحد الذي أعلن المرة بعد الأخرى بأنه الخالق الوحيد لجميع الكائنات والأشياء، وأن كل الآخرين ممن نُسبت إليهم صفة الخلق هم أنفسهم مخلوقون بإذن الله تعالى وأنهم مجردون من أية قوة لخلق أي شيء، كقوله تعالى:
وقوله تعالى:
وقوله تعالى:
وقوله تعالى:
وقوله تعالى:
وقوله تعالى:
وقوله تعالى:
إن مجرد الفكرة بأن قوة الخلق هي حقا الامتياز والحق المقصور على الله تعالى فقط ولكن يمكن أن يمنحها الله لمن سواه بشكل مؤقت لفكرة مرفوضة وغير مقبولة من القرآن الكريم. يقول الله تعالى بهذا الشأن:
في هذه الآية قد ضرب الله لنا مَثَل رجلين؛ رجل تابع لشركاء مختلفين وغير متفقين فيما بينهم، ورجل آخر تابع كليًّا لرجل واحد فقط. فهل هذان الرجلان متساويان في الظروف والأحوال؟ فالآية تبين بشكل قاطع، كم هو سيء موقف المشرك المؤمن بعدة آلهة. إنه مثل الشخص الذي يتوجب عليه أن يخدم عدة أسياد مصالحهم مختلفة متباينة، ومزاجهم حاد وشجارهم كثير، وحالته تدعو للشفقة. فهل يمكن لهذا الشخص أن يكون مثل المؤمن الحق الذي يخدم ويرضي سيدًا واحدًا فقط وهو الله تعالى؟
وفي سورة النحل أيضا يوجد العديد من الآيات التي ترفض تلك الفكرة كقوله تعالى:
والآن نبدأ بشرح معنى الآية السابقة الذكر التي هي محور موضوعنا أي قوله تعالى: وأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ (آل عمران: 50). إن الأموات الحقيقيين لا يرجعون أبدًا إلى هذه الحياة الدنيا، والاعتقاد بغير ذلك منافٍ ومعارض تماما للتعاليم القرآنية، كما هو بيَّنٌ من الآيات التالية:
أ. حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُون (المؤمنون: 100- 101).
ب. وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (الأنبياء: 96).
وكلمة “حرام” تعني مخالف للقانون الإلهي. فالله تعالى يقول لنا بأن الأموات لا يرجعون أبدًا إلى هذه الدنيا، والاعتقاد بغير ذلك منافٍ ومضاد للقانون الإلهي.
ج. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (سورة الزمر: 59-60). وقوله تعالى: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً يعني لو أني أرجع إلى الحياة الدنيا.
د. كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (البقرة: 29).
ر. قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (غافر: 12).
إن حالة ما قبل الحمل هي النوع الأول من الموت، ونهاية هذه الحياة هو الموت الثاني، وهذا هو المراد من أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ . الولادة في هذه الدنيا والبعث في الآخرة هما الحياتان المذكورتان في قوله تعالى: أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ .
س. قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الجاثية: 27).
تبين كل هذه الآيات بأن الله وحده هو الذي يُـحي ويميت.
ثم إن أقوال رسول الله أيضًا واضحة في هذا الموضوع وأعني عدم رجوع الموتى إلى الدنيا. يُروى بأن أحد صحابة الرسول قتل في معركة أُحد. فجاءه ابنه جابر وهو شديد الحزن على وفاة أبيه. فواساه الرسول وقال له بأنه الله قد خاطب والده في العالم الآخر وقال له: “يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ قَالَ يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ” (سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله).
فإن الأموات الذين أحياهم المسيح ابن مريم لم يكونوا أمواتا حقيقين. وهذا واضح أيضًا من الأناجيل وخاصة الحادثة المذكورة في إنجيل متى (9: 23 إلى 25) تسلط بعض الضوء على ذلك. الحقيقة أن الأنبياء كلهم مرسلون لإعطاء الحياة للأموات روحيًا. إن المسيح عيسى وموسى وإبراهيم عليهم السلام وفوق الكل الأنبياء الأعظم محمدًا ، كلهم قد أحدثوا تغييرًا كاملاً في حياة أتباعهم، وهذه يُرمَزُ إليه في اللغة الدينية ببعث الأموات إلى الحياة. وإن كلمة “الموتى” حرفيا أيضا لا تعني بالتأكيد موتى الأجساد، بل إنها تستعمل أيضا للموتى روحيًا أو أخلاقيًا أو عقليًا. وإن القرآن الكريم يتكلم بوضوح عن إحياء الموتى روحيًا، كما هو واضح من الآيات التالية:
- وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (آل عمران: 28).
- أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأنعام: 123).
- لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (الأنفال: 43).
- لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (الفرقان: 50).
- لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (ياسين: 70).
- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (الأنفال: 25).
يقول الله تعالى في هذه الآية بأن نستجيب لدعوة رسول محمد لأنه سوف يحيينا. العبارة واضحة صريحة. فلماذا لم يقل أحد المسلمين أو غيرهم بأن الرسول كان يحيى الأموات من القبور مع أنهم قالوا ذلك عن المسيح بن مريم ؟ طبعًا، إن المقصود من الآية هو أن الرسول يحيي الحياة الروحية العقلية. لقد شرحنا وبيَّنا نقاطًا ومهمة وكلها مرتبطة بعضها الآخر. وفيما يلي خلاصة هذه النقاط:
- أن المسيح عيسى بن مريم لم يكن يملك صفاتً تميزه فوق العادة عن أنبياء الله الآخرين، ولم يكن يملك أية صفةٍ ألوهية.
- إن الله هو خالق الوحيد لجميع الكائنات والأشياء، وأَن صفة الخلق هي خاصية مقصورة على الله وحده، لا شريك له، في ذلك وأن الذين يدعون غير ذلك هم أنفسهم مخلوقون بإذن الله تعالى، وأنهم مجردون من أية قوة لخلق أي شيء.
- إن الله تعالى لا يمنح صفة الخلق ولا حتى بشكل مؤقت لأحد أيًا كان.
- إن الأموات الحقيقين، أي أموات الجسد لا يرجعون أبدًا إلى هذه الحياة الدنيا، ولا يمكن لبشر وإن كان نبيًا ورسولاً أن يبعثهم أحياء.
- إن القرآن الكريم يتكلم بوضوح عن إحياء الموتى بمعنى إعطاء الحياة للموتى روحيًا، وهذا دليل آخر بأن عيسى كان يُحي أموات النفوس وليس أموات الجسد.
- الظن بأن المسيح عيسى بن مريم كان يقوم بإحياء الموتى من القبور لفكرة باطلة ودخيلة على بعض الكتب الدينية الإسلامية. ولا يجوز لنا بأن نعطي صفة الخلق إلا الله تعالى، لا شريك له، وهو الأحمد الصمد. فتبارك الله أحسن الخالقين.