لعبت المدن دورًا هامًّا في رقي حياة الإنسان وتطوره، وهي مرآة تعكس مستواه الحضاري والفكري والمعيشي. والمدن بحسب دلالاتها تحولٌ إلى حالة الرقي والحضارة والمدنية. وعند البحث في تاريخ الشعوب والحضارات نجد أن لكل حضارة منها مركز إشعاع لعبت فيه مدينة من المدن دورًا مركزيًّا هامًّا كمنطلق أشعّت منه الحضارة والثقافة نحو آفاق شاسعة لفائدة الإنسانية. وفي حضارتنا العربية الإسلامية نجد مدنًا كان لها دور هام في الإشعاع والإبداع الثقافي والحضاري والعلمي، فمن منا ينسى مدنًا عربية ذات مدد عظيم كبغداد والبصرة ودمشق وقرطبة والقيروان ومراكش وفاس؟ ومن ينسى ما أسدته هذه المدن من أفضال على العالم في شتى العلوم والمعارف والتراث والقيم والأصالة العربية؟ لقد كانت هذه المدن العربية الإسلامية منارًا للعالمين وملجأ لطلبة العلم الذين يقصدونها من كل حدب وصوب. وكم أكل أقوام من ثمرات علومها، واستناروا بحكمة علمائها، واقتبسوا من خزائن كتب نفائسها. وكم أوت إليها علماء الغرب الباحثين عن حرية الفكر بعدما لم يجدوا في أوطانهم غير الجهالة والخرافة ومحاكم التفتيش! أيام العصور الوسطى المظلمة.
لقد أسهمت مدننا العربية التاريخية أيما إسهام في تنوير عقليات أمم وشعوب هي اليوم مَدينة لها بالشكر والاحترام لو أنصف الغرب نفسه وأعاد ذاكرته إلى الوراء وتجرد عن كبرياء فوقية حضارته وظفرته الآنية.
أتناول في هذا المقال قصة تاريخ مدينة من مدننا العربية ذات الإشعاع الحضاري وظروف نشأتها وتأسيسها ومعالمها وشخصياتها لعلنا نكون بهذا قد أدينا جزءًا يسيرًا من واجب ردّ الاعتبار لهذه المراكز الحضارية حينما نُعرف بها.
بغداد
اختار أبو جعفر المنصور رُقعة مرتفعة من الأرض على الجانب الغربي من دجلة، وقرر أن يشيد عاصمته الجديدة عليها.. وكانت المنطقة التي اختارها في بدايتها بضع قرى صغيرة وسوقًا لأهل المنطقة، وكانت أرضها سهلة فسيحة بها مزارع تسقيها جداول تنبع من نهر دجلة وأخرى من نهر الفرات، إذ أن هذه البقعة أقصر مسافة بين دجلة والفرات وكانت تمد أهاليها بالمحاصيل الزراعية. وكانت تلك المنطقة تُعد في نفس الوقت حواجز دفاعية ضد الغزاة.
بدأ العمل في تشييد بغداد سنة 145 هـ/ 762 م وانتهى العمل فيها إذ نزل بها المنصور سنة 149 هـ وكان شكلها دائريًّا على غرار مدينة مأرب باليمن، وتحيط بها أسوار عالية وخنادق، كما لها أربعة أبواب. كان قصر المنصور في الرحبة الوسطى، ويجاوره مسجد كبير، ويحيط بها دواوين الحكم وشوارع فاصلة بين دور الأهالي من سكان المدينة، وفيها دور للشرطة وأبراج عديدة للحرس. ولما تكاثر الناس وضاقت المدينة المدورة بأهلها وزّع المنصور أراضي لبناء البيوت خارجها. وأنشأ فيها أسواقًا فاتّسعت المدينة من جميع جهاتها، وسُميت الجهة الغربية بالكرخ، وبنيت فيه مساجد ومدارس، وفي الجانب الشرقي من النهر سُمي بالرصافة بأمر من المنصور سنة 152 هـ لتكون مقرًا لولي عهد “المهدي”. وانتهى من تعميرها عام 157 هـ وتم الربط بين طرفي المدينة بجسر كبير.
أطلق المنصور على مدينته اسم “مدينة السلام” وسماها الناس “مدينة المنصور”. ولما اتسعت كثيرا وازدهرت أطلقوا عليها الاسم القديم “بغداد” الذي كان يُطلَق على هذه المنطقة منذ أيام البابليين. ونمت واتسعت أكثر من ذي قبل، وأنشىء فيها كثير من المساجد والمدارس والحمامات والمستشفيات. وصارت موئلاً للعلماء والحكماء والفقهاء والأدباء والشعراء والزُّهاد والمتصوفين والنحويين وأهل الفنون والصناع وغيرهم.
وأصبحت بغداد مركزًا فكريًّا لا يُدانيها فيه في الدنيا أحد. فازدهرت فيها الزراعة والصناعة والتجارة، وتأسس في عهد الرشيد “بيت الحكمة” لترجمة العلوم إلى العربية، وكانت هذه أول مؤسسة علمية في التاريخ وأول مجمع علمي لتوثيق المعارف والبحوث وترجمتها إلى العربية، فاغتنت الثقافة والعلوم في العراق وتطورت وأبدعت أيما إبداع في تلك الفترة الذهبية الزاهرة. ويعترف المؤرخون والمفكرون بإجماع بقولهم إنه لو لا ما شهدته بغداد من ذلك الإبداع في العلوم لتأخر عصر النهضة والحضارة الذي نشهده اليوم.
لقد عانت بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية الممتدة شرقًا وغربًا من هجمات خارجية من قِبَل البويهيين والمغول والسلاجقة والتتر والصفويين والمماليك، ولعل أخطر ما تعرضت له بغداد كما وصفه المؤرخون هو الغزو المغولي الذي خرّب ديارها وقصورها وصوامعها وقببها كما سفك دماء أهلها وأحرق مكتباتها. ولعله من الجدير ذكره أن بعض شهود عيان تلك الفترة دونوا ما رأته أعينهم من صور تحدثت عن تحول مياه نهر دجلة والفرات إلى لون أحمر من كثرة ما سفك المغول من دماء رجالها ونسائها وأطفالها. أما الآخرون فقد اعتبروا ما شهدته بغداد في تلك الفترة العصيبة نكبة عظمى حيث تدهورت أحوالها تدهورًا رهيبًا باندثار قصورها ومدارسها ودور علمها وخزائن كتبها وهجرة علمائها.
أثرت الحملات الاستعمارية على بغداد وحضارة العراق في كل عصر، وكان الانتداب البريطاني في العراق عاملاً من العوامل السلبية المؤثرة على التراث العربي المعرفي الذي تختزنه بغداد وحضارة وادي الرافدين حتى عام 1958 وبالتحديد عام 1968 بتحرر العراق من قيود الاستعمار نهائيًّا، فاستعادت بغداد ملامحها العربية وشهدت نهضة عمرانية تستلهم جذورها من التراث العربي وأضحت بغداد مدينة تجمع بين الأصالة والمعاصرة في جميع المجالات. وعاد لبغداد دورها العلمي واحتضانها للشعراء والأدباء والعلماء، وصارت منتجة للفكر والثقافة وبالطبع النشر. وفي مدينة بغداد وحدها أربع جامعات هي: جامعة بغداد والجامعة المستنصرية والجامعة التكنولوجية وجامعة العلوم العسكرية، وفيها المجمع العلمي العراقي.
وتتمتع بغداد بشوارع وساحات فسيحة وحدائق ومنتزهات وتماثيل رمزية لشعرائها وعلمائها القدماء وغيرهم، كما يوجد بها متاحف متنوعة كالمتحف العراقي للآثار ومتحف القصر العباسي ومتحف الآثار الإسلامية والمتحف الحربي والمتحف البغدادي ومتحف الرواد للفنون التشكيلية ومتحف الفن الحديث ومتحف التاريخ الطبيعي وغيرها. ومن معالم بغداد الأثرية الشاخصة إلى يومنا هذا بناية المدرسة المستنصرية التي بناها المستنصر سنة 1242 م وتعدّ أقدم جامعة في العالم، وجامع قصر المتوكل الذي يُعرف اليوم في العراق بمنارة سوق الغزل في جامع الخلفاء. والمدرسة المرجانية ومن المراقد والمساجد الفريدة في معمارها مرقد الكاظميين الذهبي وجامع الإمام أبي حنيفة وجامع الشيخ عبد القادر الجيلاني، وضريح زوجة المستضىء بأمرالله المسماة زُمردة خاتون، وضريح الشيخ عمر السهروردي. ومن المعالم الأثرية القديمة “تل حرمل” الذي عثر فيه على خزانة للوثائق المهمة العائدة إلى “مملكة أشنونة” في حدود 2000 ق.م و”عقرقوف” حيث “الزقورة” أي البرج المدرج الذي شيده الملك “كوريكالزور” سنة 1480 ق.م.
لقد استقطبت بغداد انتباه كل من عرفها في مختلف العصور وتغنى بها الشعراء الأقدمون فأُطلق عليها عدّة أسماء منها: أم الدنيا وسيدة البلاد، وبغداد جنة الأرض ومدينة السلام وقبة الإسلام ومدمع الرافدين وغُرة البلاد وعين العراق ومجمع المحاسن والطيبات ومعدن الظرائف والطرائف، بغداد حاضرة الدنيا.
إن بغداد بالرغم من كل الحَمَلات التي تعرضت لها قديمًا باعتبارها مركز إشعاع حضاري إلا أنها بعد كل جُرح يصيبها تنهض من جديد لتؤكد أنها تأبى الانكسار.