ليست النظرية نظرية فيثاغورس

ليست النظرية نظرية فيثاغورس

موسى أسعد عودة

مترجم، كاتب وشاعر

عَرض لغيض من فيض ما جاد به أولو الألباب من العرب المسلمين على المجتمعِ البشري، فأغذّوا خطاه في معراجه صوب مدراج الكمال والرقي الإنساني، دينًا ودنيا.

“نحنُ الذين أَعَرنْا الكونَ بَهْجَتَهُ لكنما الدهرُ إقبالٌ وإدبارٌ ..”

في ما تبقى من هزيع أخير في ليلة خريفية سكنت فيها الأشياء، غير عزف ريح الصَّبا على أوتار جرح قديم، كان جليسي كتابًا متواضعًا في حجمه، جليلاً في فكرته ومَطمحه، موضوعيًا دقيقا في سَير غَيابة تاريخ عتيق*. فاحتضنته واستمرأته ولكم سقيت مِداده بدمع هتون.

فراقت لي فكرةُ عرضِ بعض ما جاء فيه، عن زمن عربي إسلامي حمل أهلوه مَشعل الحضارة الإنسانية، فملكوا الدنيا فكرًا وفلسفة، أدبًا وعلما، فنًّا وعِمارة.

نعرضه، ليس من باب التفاخر والتواكل أو التغني بماضٍ مجيد، وإنما لشحذ العقول وتهذيب النفوس واستنهاض الهمم، علّنا ننزع نحو غد مشرق منير.

إنه عبث المفارقة بين ما نحن فيه اليوم من انكفاء عربيّ إسلامي، مرده نأي عن كتاب الله وسنة رسوله، وقوم ذهبت أخلاقهم وقيّد فكرهم وتهافتت سياساتهم، بيد أن هناك -على مستوى الأفراد- مئات الألوف من الأدمغة العربية الإسلامية والرجالات الشوامخ، في بَيْنٍ عن أوطانهم، منتدَبين عند الغرب، يفيد منهم كما أفاد من أجدادهم الأولين. عبث المفارقة بين هذه الحال وحقيقة تُقِر بها الدنيا، بفضلٍ أيِّ فضل مدينة به البشرية جمعاء للعربية والإسلام.

“نحنُ الذين أَعَرنْا الكونَ بَهْجَتَهُ لكنما الدهرُ إقبالٌ وإدبارٌ ..”

 

ما كانت هناك (معجزة يونانية)

تجيئنا المعلومات تترى عن حضارتنا القديمة في الشرق، لتؤكد على أنه ما كانت هناك (معجزة يونانية). إنْ هي إلا اقتباس وامتداد للحضارة العربية القديمة، في وادي الرافدين ووادي النيل وبلاد الشام.

فطاليس (624-536 ق.م.) من أوائل علماء اليونان المتخصصين بالعلم والحكمة، زار مصر مرارا، ونقل معه العلوم الهندسية المتقدمة من مدارس الإسكندرية.

وفيثاغورث (572-497 ق.م.) تعلَّمَ في مصر العلوم الرياضية، ومكث في بابل رَدحًا من الزمان ودرَس الرياضيات فيها. وبات من المعروف عالميًا أن نظرية: “مساحة المربع المنشأ على وَتر مثلث قائم الزاوية، تساوي مِساحة المربعين المنشأين على الضلعين القائمين” أخذها فيثاغورس من بابلَ ونُسبتْ إليه.

ونقل اليونان الأبجدية الفينيقية بين عامي (850-750 ق.م.) فانتقلت إلى الرومان ومنهم إلى سائر مقالب الأرض. (اقرأ في “تاريخ العلم” لجورج سارتون).

دور العرب المسلمين

أما عن دور العرب المسلمين في ركب الحضارة، فحدّث ولا حرج.

..لقد ارتقى العرب المسلمون بالحضارة الإنسانية منذ نزول الوحي الأمين بـــ “اقْرَأْ” على قلب محمد بن عبد الله . فنقلوا وترجموا ودرسوا وصححوا ثم أضافوا وأبدعوا. كيف لا وكتابهم كتاب الله..

قُلْ سِيرُوا في الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت: 21). وَتِلْكَ الأَمثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ (العنكبوت:44). قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ (يونس:102).

إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتلاف اللّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلّْكِ الْتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِنْ كُلّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة: 165).

وقد جاء في كتاب المستشرقة الألمانية، زيغريد هونكه، (شمس العرب تسطع في الغرب): “حان الوقت للتحدث عن شعب قد أثّر بقوة على مجرى الأحداث العالمية، ويدين له الغربُ كما تدين له الإنسانيةُ كافة بالشيء الكثير”.

الأثر العربي الإسلامي الفكري

.. إن المذاهب الفلسفية الرئيسية، والتيارات الكبرى في الفكر الفلسفي الأوروبي، تدين بوجودها وآرائها المتجددة للفلاسفة العرب المسلمين؛ فأخذوا عن ابن سينا وابن رشد والفارابي، لنرى نشوء حركة الرُشدية اللاتينية، أي أتباع ابن رشد من الأوربيين.

.. وقد كانت صرخة مدوية ومفاجأة أذهلت الناس، عندما أعلن المستشرق الأسباني، أسين بلاثيوس، أن (دانتي) في (الكوميديا الإلهية) قد تأثر بالإسلام تأثرًا عميقًا بعيد المدى.

أما عبد الرحمن ابن خَلدون، الفيلسوف، المؤرخ، العالم الاجتماعي البحاثة.. فقال عنه (أرنولد توينبي) في كتابه (دراسة التاريخ): “إن ابن خَلدون نسيج وحده في تاريخ الفكر، لم يُدانِه مفكّرٌ كان قبله أو جاء من بعده في العصور كافة”.

قنواتُ تسرُّبِ الحضارة العربية الإسلامية

1- ميدان الأندلس.

2- ميدانُ جُزُرِ الحوض الغربي للبحر المتوسط: جزيرة صقلية، جزيرة مالطة.

3- عن طريق التجارة والحجاج والرهبان وطلاب العلم.

4- ميدان الحروب الصليبية: يقول وُل ديورنات في معرِض حديثه عن نتائج الحروب الصليبية: “… وأثبتت الحضارة الإسلامية أنها أرقى من الحضارة الأوربية في رقتها وأسباب راحتها وتعليمها وأساليب حريتها..” (كتاب قصة الحضارة).

وذكر أيضًا، تأثُّرَ أوروبا بإنشاء الحَمّامات ودخول آلاف الكلمات العربية إلى اللغات الأوربية. كما نقل الصليبيون الأسرار الفنية التي أدت إلى تحسين صناعة الزجاج الملون الذي نشاهده في الكنائس القوطية، وذكر نقلهم، أيضًا، للبوصلة والبارود..

علم الفلك

تقول زيغريد هونكه في معرض حديثها عن الفلك ورجاله: “إن علم الفلك كان عند الإغريق علمًا نظريًّا عقلانيًّا شموليًّا بعيدًا عن الأسلوب التجريبي بالمعنى الصحيح، وامتاز عليهم البابليون ببراعتهم العلمية التجريبية، فقد توصلوا عام 500 ق.م. إلى رسم قبة السماء الظاهرة بشكل هندسي، ورسم خارطة الكون بشكل كرة تتوسطها الأرض. ثم جاء العالم اليوناني، أريستارخ فون ساموس، في القرن الثالث ق.م. فوضع الشمس مكان الأرض في وسط خارطة الكون.. إنه كان من دواعي فخر العرب أن يساهموا في تطوير علم الفلك..”.

وبعد مجيء الإسلام وتعرض آيات القرآن الكريم لبعض الأمور الفلكية، زاد اهتمام المسلمين بهذا العلم فبرَّزوا فيه..

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ (يونس: 6).

مساهمات العرب المسلمين في العلوم التطبيقية والرياضيات

.. من منا لم يسمع بمحاولة عباس ابن فرناس –أندلسي- في الطيران، والتي أدت إلى وفاته عام 888م. كلنا يحفظ ذلك. ونضيف أنه مخترع النظارات والساعات الدقاقة المعقدة التركيب، والقبة السماوية التي صنعها في بيته.

.. عبد الرحمن بن أحمد بن يونس (ت. 1009م.) الذي اخترع الرقاص (البندول) وعرف أشياء كثيرة عن قوانين تذبذبه.

.. أبو الفتح عبد الرحمن الخازنيّ (ت. 1155م.) قدم الوزن النوعي للعديد من المواد بدقة، وعرف الخازنيّ أن الأجسام الساقطة تنجذب في سقوطها نحو مركز الأرض.

.. الهَمْذانيّ، أبو محمد، الحسن بن أحمد بن يعقوب، الذي كان يُعرَف بابن الحائك – مؤرخ وشاعر يمنيّ عالم بالأنساب، له كتاب “الإكليل” في أنساب حِميَر وملوكها، و”صفة جزيرة العرب” و “ديوان شعر” – هو رائد الجاذبية، فهو القائل في سياق حديثه عن الأرض وما يرتبط بها من أركان ومياه وهواء: “.. فمن كان تحتها (تحت الأرض) فهو في الثبات في قامته كمن فوقها، ومسقطه إلى سطحها الأسفل كمسقطه إلى سطحها الأعلى وكثبات قدمه عليه، فهي بمنزلة حجر المغناطيس، الذي تجذب قواه الحديد من كل جانب، فأما ما  كان فوقه فإن قوته وقوة الأرض تجتمعان على جذبه.. فالأرض أغلب عليه بالجذب..”.

.. وإذا ذُكرت الرياضيات في الحضارة العربية الإسلامية، ذُكر أبو عبد الله محمد بن موسى الخُوارِزمي (ت. بعد 847م.)

من كتبه: الجبر والمقابلة، الزيج (جدول يستدل به على حركة السيارات “فارسية”، التاريخ، صورة الأرض من المدن والجبال، عمل الأسطُرلاب -آلة رصد قديمة لقياس مواقع الكواكب وساعات الليل والنهار وشتى القضايا الفلكية “يونانية”-.

لقد بدأ الخُوارزمي يستعمل الأرقام الهندية عام 813م. وفي عام 825م. كتب رسالة فيها وأدخل استعمال (الصفر) في العد والحساب. فقد قال الخُوارزمي: “.. إذا لم يكن هناك رقم يقع في مرتبة العشرة، استعيض عنه -احتفاظًا بالسلسلة الحسابية- بدائرة، وهذه الدوائر الصغار تسمى الأصفار، توضع لحفظ المراتب في المواضع التي ليس فيها أعداد”.

وعن الخُوارزمي انتقل استعمال الصفر إلى أوروبا، فعرفه أهلها منطوقًا (صِفْر) (Cipher)، ونطقه اللاتينيون (زفيروم) واختصره الإيطاليون فقالوا (زِيْرُو) (Zero).

.. وهذا الصفر، الذي هو لا شيء إذا أُخذ وحده، والذي يرفع المراتب الحسابية مع العد إلى ما شئت من قيم، هو أعظم اختراع رياضي على مر العصور.

والخُوارزمي هو الذي رتب علم الجبر، فوضعه بشكله الحالي، وكتب أول مقالة في الجبر تُرجمت إلى اللاتينية. ووضع الخُوارزمي جداول في حساب المثلثات. وترجم جِرارُ الكريموني -جيراردو دا كريمونا- 1114-1187م. مستشرق إيطالي أقام في طُليطِلة) كتاب الخُوارزمي في (التفاضل والتكامل) في القرن السادس عشر. وجاء في الموسوعة البريطانية الكبرى أن كتابه في الجبر بدأ بعبارة: قال الخُوارزمي. فصُحِّف الاسم عند النقل إلى (الجوريتيمي)، ثم تحول بعد ذلك في العصر الحديث إلى (لوغاريتيم)، وهو ما يعرف اليوم بالأنساب الرياضية.

إن فضل العرب المسلمين في علم الجبر جد عظيم، فقد عمل عمر الخيّام -عالم وشاعر فارسي، ت 1132- بمعادلات تخطت الدرجة الثانية. واهتم الكاشي -فلكي عاش في سمرقند وأدار مرصدها. من آثاره “مفتاح الحساب”، “وسلم السماء” . ت. نحو 1436م.- بالكسور العشرية وحسب العدد الثابت (II) فكان (3) وثلاثة عشر رقمًا بعد الفاصلة. وفصل الخيام الجبر عن الهندسة كما أنه صاحب مدرسة التحليل الجبري.

 

والمثلثات الكروية علمٌ عربي قائم برأسه.

.. وأوجد ثابت بن قُرة – 836-901م. ولد في حَرَّان. رياضي وطبيب وفيلسوف صابئي. خدم المـُعتضِد. نقل إلى العربية مؤلفات يونانية في الرياضيات والفلك. له “الذخيرة في علم الطب” -حجمَ المجسم المكافئ الناتج عن دوران قطع مكافئ حول محوره. ثم زاد ابن الهيثم “965-1039”: فلكي ورياضي من أهل البصرة. قصد القاهرة وخدم الحاكم الفاطمي. اشتهر بكتابة “المناظر” في البصريات. أفاد منه علماء الغرب)- فأوجد حجمه إذا دار حول أي قطر أو أي رأس.

كان هذا عَرضًا لغَيضٍ من فَيضِ ما جاد به أولو الألباب من العرب المسلمين على المجتمع البشري، فأغذّوا خطاه في معراجه صَوب مدارج الكمال والرقي الإنساني دينًا ودنيا.

إنها لإرادة مولىً نصير، صدق وعده في الأولين وسبحانه أن يخلف وعده في الآخرين؛ فقد بدأت الدنيا عربية إسلامية، وأحرى بها أن كذلك تحسن ختامًا.

* دور الحضارة العربية الإسلامية في النهضة الأوربية / أ. هاني المبارك، د. شوقي أبو خليل / دار الفكر 1417 هـــ. 1996م.

Share via
تابعونا على الفايس بوك