
السيرة الطاهرة (17)
تحت سلسلة السيرة الطاهرة يتناول الكاتب سيرة حضرة ميرزا غلام أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود مبرزاً الوقائع والأحداث الهامة من حياته الطاهرة
كان القس ألفريد ليفروي يشغل منصب بيشوب Bishop مدينة لاهور عاصمة البنجاب. وكان يُلقي الخطب بأسلوب الدعاة المسيحيين المتحمسين، وكان معروفاً بأنه يضمر العداء الشديد للإسلام والمسلمين، حتى إن بعض مواقفه في هذا الصدد قد ذُكرت في كتاب صدر عنه في بريطانيا اسمه “حياة ومكاتبات جورج ألفريد ليفروي” الذي ألفه هـ.هـ. مونتجمري، ونشرته في لندن شركة لونجمانز وجرين عام 1920.
وكان البيشوب يتقن اللغة العبرية واللغة العربية واللغة الفارسية كما كان يتحدث اللغة الأردية بطلاقة. وكان متحدثاً بارعاً له تأثير أخاذ على مستمعيه، وقد تم تعيينه في منصب البيشوب عام 1899. وخلال ربيع عام 1900، وفي أوائل فصل الصيف من ذلك العام.. ألقى البيشوب عدة خطابات عامة في أماكن متعددة من مدينة لاهور، ذكر فيها أن يسوع وحده من دون كل الأنبياء الآخرين.. وخاصة رسول الإسلام .. كان هو الوحيد الذي بلا خطية، بينما ارتكب الباقون الكثير من الذنوب والخطايا.
ولم يكن خافياً بالطبع مدى الحب العظيم الذي يُكنُّه سيدنا أحمد عليه السلام تجاه رسول الله وكيف أنه لا يطيق أن يسمع كلمة واحدة تنال من هذا الإنسان الكريم الذي كان ولا يزال رحمة للعالمين، والذي كان يذكره دائماً بالشكر والثناء عليه في جميع كتاباته وأشعاره وأحاديثه، ويقول إن كل خير أصابه وكل نعمة أنعمها الله تعالى عليه إنما هي بفضل طاعته واتباعه لهذا النبي العظيم. ولذلك.. ما أن وصل إلى مسامعه ما قاله وردده البيشوب ليفروي في أنحاء لاهور عن رسول الله حتى راح يتصدى بسرعة للدفاع عن حبيبه، فأصدر منشورين في 25 مايو (أيار) عام 1900 لتوزيعهما على الناس في نفس اليوم المزمع فيه أن يُلقي البيشوب ليفروي محاضرته بعد الظهر. وبعد المحاضرة.. طلب الحاضرون من البيشوب أن يُعلق على الموضوعات التي تناولها المنشوران. ولكن البيشوب تحاشى الإجابة معتذراً بأن الموضوعات التي تناولتها المنشورات موضوعات جديدة بالنسبة له، وأنه رآها اليوم للمرة الأولى، مع أن المنشورين كانا يعالجان نفس الموضوعات التي كان قداسة البيشوب قد تحدث عنها في الاجتماعات السابقة. وفي نهاية المنشور الثاني كتب سيدنا أحمد عليه السلام يقول أنه إذا كان قداسة البيشوب مخلصاً في مجهوداته، وأنه يريد فعلاً إظهار الحق للناس، فعليه أن يُعلن أنه على استعداد لعقد مباحثة عامة مع المسلمين للمقارنة بين محمد ويسوع، لمعرفة أيهما أعظم من حيث العلم الإلهي الذي وهبه الله لكل منهما، ومن حيث الأسوة الحسنة التي قدمها كل منهما في أتباعه وأعدائه على السواء.
وقد وجّه عدد كبير من المسلمين خطاباً إلى قداسة البيشوب، يدعونه فيه إلى قبول عقد مباحثة علنية مع حضرة مرزا غلام أحمد على مدى خمسة أيام، وتتناول خمس موضوعات يترتب عليها بيان صدق الإسلام أو المسيحية، واقترحوا القواعد الواجب اتباعها في عقد هذه المباحثة، والتمسوا من البيشوب أن يوافق.. ولو من أجل يسوع الذي يؤمن به.. على عقد هذه المباحثة، حتى تُتاح الفرصة لمن يريد أن يعرف الحق أن يختار طريق الحق.
وقد علَّقت الصحيفة الإنجليزية اليومية البيونير The pioneer التي تصدر من مدينة (إله آباد) قائلة:
وفي 12 يونيو (حزيران) 1900 أرسل البيشوب رداً على الرسالة المذكورة عدّد فيها بعض الأسباب.. أو الأعذار.. لعدم استطاعته قبول الاشتراك في تلك المباحثة المقترحة، وكان أحد تلك الأعذار قوله:
وقد تم توجيه خطاب إلى قداسة البيشوب في 10 يوليو (تموز) 1900 ذكر فيه المرسل ما يلي:
وفي نهاية الخطاب ذكر الكاتب:
“حينما ذُكر هذا الموضوع أمام مرزا صاحب وسُئل عما إذا كان امتناع قداستكم عن مقابلته بشكل ودي، يجعله هو أيضاً يبادلكم مشاعر الكره والبغضاء التي أبديتموها نحوه، فأجاب بما يلي:
ورغم هذا الخطاب الذي تم إرساله إلى قداسة البيشوب.. إلا أن قداسته لم يُغير موقفه، وكتب في 12 يوليو (تموز) 1900 يقول:
وقد علقت بعض الصحف على مسلك قداسة البيشوب ليفروي واعتذاره عن عقد المباحثة كما طُلب منه، ونقتطف فيما يلي بعض العبارات من صحيفتين محايدتين إحداهما الديلي تلغراف الهندية الصادرة بتاريخ 19 يونيو (حزيران) 1900 التي قالت:
وعلقت صحيفة إنديان سبكتيتور Indian Spectator على رفض البيشوب ليفروي قبول التحدي فقالت:
وهكذا نرى أن المبشرين المسيحيين بكل ما أتوه من علوم ومعارف.. ومهما بلغت درجاتهم ومراكزهم التي يشغلونها.. كانوا يخشون المنازلة مع سيدنا أحمد عليه السلام. لم يكن البيشوب ليفروي جاهلاً بما كان يكتبه المسيح الموعود عليه السلام من مقالات يُفند فيها المعتقدات المسيحية الباطلة.. ولم يكن يخفى عليه الكتب التي نشرها سيدنا أحمد، وأوضح فيها جمال التعاليم الإسلامية وعظمتها، وتفوقها على تعاليم جميع الأديان الأخرى، ولم يكن يجهل كذلك نتائج المباحثات التي أجراها مبشرون مسيحيون آخرون مع سيدنا أحمد عليه السلام، ولذلك فإنه كان يخشى أن يلتقي معه في مباحثة علنية، وأخذ يتعلل بالعلل الواهية، ويسوق الأعذار الهزيلة، وإن تهربه المهين من عقد تلك المباحثة، لأبلغ دليل على أن المسيح الموعود عليه السلام قد كسر الصليب، الذي لم يستطع أحد أن يقيمه أو يدافع عنه بدليل أو برهان، ولا بعقل أو منطق، مما اضطر أولئك المبشرين المسيحيين أن يلتجئوا إلى أساليب التآمر الخسيس، ويستعملوا المسلمين أنفسهم، في محاولاتهم للقضاء على سيدنا أحمد وعلى جماعته المباركة، كما سنرى في حلقات مقبلة من هذه السلسلة إن شاء الله.
فعليه أن يُعلن أنه على استعداد لعقد مباحثة عامة مع المسلمين للمقارنة بين محمد ويسوع، لمعرفة أيهما أعظم من حيث العلم الإلهي الذي وهبه الله لكل منهما، ومن حيث الأسوة الحسنة التي قدمها كل منهما في أتباعه وأعدائه على السواء.
ورغم انسحاب بيشوب لاهور من عقد المباحثة العلنية، ورغم تجنب المبشرين المسيحيين عقد أي مباحثة مع المسيح الموعود عليه السلام، إلا أنه لم يتوانَ في إظهار حقائق الإسلام العظمى، وكشف زيف العقائد الخاطئة التي افتراها رجال الكنيسة عبر الأزمان الغابرة، والتي جاء المبشرون المسيحيون من كل حدب وصوب لينشروها بين المسلمين في أصقاع الأرض.
وفي 15 يناير (كانون ثان) 1901 أعلن سيدنا أحمد عليه السلام، عن إصدار مجلة شهرية باللغة الإنجليزية، اسمها مجلة مقارنة الأديان Review of Religions والتي كان يُشرف على تحريرها بكل جدارة مولانا محمد علي.. المفكر الإسلامي المعروف. وتخصصت هذه المجلة في عرض محاسن الإسلام لأهل الغرب، والرد كذلك على الاعتراضات التي يثيرها المبشرون المسيحيون ضد الإسلام. وقد لاقت هذه المجلة ترحيبا وتقديرا في كل من إنجلترا وأمريكا. وكتبت مجلة هلال ليفربول في عام 1903 تقول:
وقد كتب مستر محمد الكسندر راسل وب.. أول أمريكي دخل الإسلام عن طريق كتابات المسيح الموعود عليه السلام فقال:
ولقد صدقت توقعات مستر محمد راسل.. إذ ما زالت هذه المجلة تقوم بواجبها حتى اليوم خير قيام.
ومن التعليقات الطريفة كان ذلك التعليق الذي نشرته مجلة أسرة الكنيسة The Church Family وكانت لسان حال الكنيسة الإنجليكية. وتعود طرافة التعليق إلى أنه يُبين مدى القلق الشديد، الذي تعكسه المجلة، من التصدي لكل ما يُكتب أو يُنشر ضد الإسلام، بشكل يُهدد العقائد المسيحية نفسها، وبأسلوب لم ير رجال الدين والكنيسة مثيلاً له من قبل، يقول التعليق:
ورغم طرافة هذا التعليق، إلا أننا نرى كيف يُبين المخاوف التي استشعرها رجال الدين المسيحي، وقلقهم البالغ من وجود سيدنا أحمد عليه السلام في ساحة النضال.. حتى أولئك الذين يقطنون بعيداً عنه في بريطانيا على بُعد آلاف الأميال، كما أنه يوضح يقينهم بأن أي هجوم على الإسلام، أو أي انتقاص يوجهونه إلى سيد الخلق أو أي نقد يثيرونه ضد كتاب الله القرآن، سوف يُقابل بوابل من الشهب الثاقبة، التي تنهال على رؤوسهم، وتحرق كل تطاولاتهم، كما تدمر أيضاً الأسس التي يستندون عليها في ديانتهم وعقائدهم. ولا يحتاج الأمر كثيراً من الذكاء، لاستنتاج أن هؤلاء لم يكونوا ليستسلموا بسهولة للهزيمة، أو ينسحبوا تماماً من الساحة، ويتركوها لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود. وحيث أنه لم يكن في جعبتهم أي سلاح من فكر، أو دليل من عقل، أو برهان من منطق، ليستعملوه في حربهم الخاسرة، فكان لا بد من التآمر، واستعمال أسلحة أخرى غير شريفة.. تماماً كما حاول الأب الدكتور هنري مارتن كلارك أن يزيح المسيح الموعود من طريقه، بوسائل الغش والخداع وتزييف الحقائق. ومن هنا كانت المؤامرة الكبرى التي سوف نتحدث عنها في إحدى الحلقات المقبلة إن شاء الله.
ولعل المسمار الأخير الذي دقه المسيح الموعود عليه السلام، في نعش العقائد الباطلة التي كان يُروّجها المبشرون المسيحيون، هو الكتاب الذي نشره في 25 إبريل (نيسان) عام 1899 بعنوان: “المسيح في الهند”. وقد وضح في هذا الكتاب كيف أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.. بعد أن نجّاه الله تعالى من الموت على الصليب الذي أراده له يهود عصره.. قد هاجر من فلسطين، وذهب للبحث عن “خراف بيت إسرائيل الضالة”. فهو كان يُعلن دائماً أنه.. كما وصفه القرآن: (ورسولا إلى بني إسرائيل)، وكما أكد على ذلك بقوله في الإنجيل: “لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” (إنجيل متى 25:15). ولكن قبائل بني إسرائيل الاثنتا عشرة لم تكن كلها تعيش في فلسطين عندما جاء المسيح، بل كانت قبيلتان فقط هما اللتان تعيشان هناك، بينما انتشرت القبائل العشر الأخرى، في منطقة العراق وإيران وأفغانستان وشمال الهند في كشمير. وكان ذلك حين غزا الملك نبوخذنصّر ملك بابل أرضَ فلسطين حوالي عام 603 قبل الميلاد، وقضى على ما تبقى من دولة إسرائيل التي قضى الآشوريون على الجزء الشمالي منها في عام 722 قبل الميلاد، وحطم نبوخذنصّر هيكل سليمان، وأخذ بني إسرائيل في الأسر، وحملهم إلى بابل، فقد كانت تلك هي وسيلة الحصول على الأيدي العاملة في ذلك الوقت. ولكن الإسرائيليين تحالفوا مع أعداء البابليين وهم الفرس، وحين غزا الملك كورش ملك مادي وفارس، مملكة بابل، كان بنو إسرائيل هم الطابور الخامس، الذين اعتمد عليهم الملك كورش في تقويض المقاومة البابلية من الداخل. وقد كافأهم الملك كورش، وسمح للبعض منهم بالعودة إلى فلسطين، وإعادة بناء الهيكل مرة أخرى. فعادت قبيلتان منهم إلى فلسطين، بينما انتقلت معظم القبائل الأخرى من العراق.. أرض بابل.. إلى الشرق في مملكة مادي وفارس (وتشمل إيران وأفغانستان وشمال الهند)، ليعيشوا تحت حكم الملك كورش الذي كان رجلاً صالحاً ومشهوراً بالعدل.
وقد زار كاتب هذه السطور القبر المذكور في عام 1980، واستمع إلى روايات أهالي المنطقة عن هذا القبر، وشاهد كذلك بعض السجلات التاريخية القديمة، والمخطوطات التي ورد فيها اسم عيسى عليه السلام.
ولما جاء المسيح عليه السلام في فلسطين، أخبره الله تعالى بما يُدبره له اليهود، كما أخبره بأن عليه أن يُهاجر من فلسطين، ويذهب إلى بقية الخراف الضالة من بيت إسرائيل، لذلك فقد قال عليه السلام.. كما جاء ذلك في الإنجيل:
وبعد المحاولة الفاشلة لصلب سيدنا عيسى عليه السلام، خرج من فلسطين مهاجراً، حتى لا يقع مرة أخرى في أيدي اليهود والرومان، وذهب إلى الشرق للوصول إلى بقية الذين أُرسل إليهم، حتى يُبلغهم بقرب تأسيس ملكوت الله على الأرض.. أي بقرب بعث رسول الله وتأسيس دين التوحيد في الأرض. ويبدو أنه قد لاقى نجاحاً في دعوته بين قومه، الذين كانوا يسكنون تلك المناطق، حتى أنهم جميعاً كانوا في انتظار ظهور الإسلام، ولعل ذلك كان السبب في سرعة انتشار الإسلام أيضاً في تلك المناطق. وقد عاش عيسى بن مريم عليه السلام يؤدي رسالته، إلى أن بلغ من العمر مائة وعشرين عاماً، كما أشار إلى ذلك رسول الله في حديث له لفاطمة، في مرضه الذي توفي فيه: “إن جبريل كان يُعارضني بالقرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين، وأخبرني أنه لم يكن من نبي إلا عاش نصف الذي قبله، وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني ذاهباً إلا على رأس الستين”. (المواهب اللدنية المجلد الأول 42) وكان عيسى عليه السلام قد استقر به المقام في كشمير بشمال الهند، حيث توفاه الله ودُفن بها، وأرشد الله المسيح الموعود عليه السلام إلى قبره الموجود حتى الآن، في شارع خانيار بمدينة سرينجر عاصمة كشمير، وقد زار كاتب هذه السطور القبر المذكور في عام 1980، واستمع إلى روايات أهالي المنطقة عن هذا القبر، وشاهد كذلك بعض السجلات التاريخية القديمة، والمخطوطات التي ورد فيها اسم عيسى عليه السلام. وقد برهن المسيح الموعود عليه السلام، على أن المدفون في هذا القبر هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، ومعه أحد التلاميذ، وقدّم على ذلك العديد والكثير من الأدلة المستقاة من الإنجيل، ومن القرآن، ومن الأحاديث النبوية، ومن السجلات التاريخية، ومن العلم الإلهي الذي علمه الله تعالى إياه.
وقد أحدث الكتاب الذي نشره حضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام، دويّاً هائلاً في الأوساط المسيحية وغير المسيحية على السواء، وتم ترجمة الكتاب إلى الإنجليزية تحت عنوان (Jesus in India)، ونُشر في أوربا وفي أمريكا، وما زال الكتاب يثير اهتمام الكثيرين من الباحثين والمفكرين، وهو بلا شك يعتبر آية بيّنة على صدق المسيح الموعود عليه السلام، لأنه يبين كيف أن الله تعالى قد كشف له عن بعض أمور الغيب، التي تتعلق بالماضي أيضاً، كما يفعل سبحانه مع أنبيائه ورسله، فالغيب لا يتعلق بالمستقبل فقط، وإنما يشمل كذلك ما غاب في الماضي، كما فعل سبحانه وتعالى مع رسول الله حين أوحى ليه أن جسد فرعون قد نجا، وأنه محفوظ ليكون آية لمن يأتي من بعده، فقال عن فرعون: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون) (يونس: 93)
حقاً.. إن كثيراً من الناس عن آيات الله لغافلون! (يُتبع)