- التشابه في ولادة النبيين يحيى وعيسى
- سر هل الخلق ومكنونه
- إرهاص نقل النبوة إلى بني إسماعيل
- موت عيسى وحقيقة ختم النبوة
__
ومن عقائدنا أن عيسى ويحيى قد وُلدا على طريق خَرْقِ العادة، ولا استبعادَ في هذه الولادة. وقد جمع الله تلك القصتين في سورة واحدة، ليكون القصةُ الأولى على القصة الأخرى كالشاهدة. وابتدأ مِن يحيى وختَم على ابن مريم، لينقُل أَمْرَ خرق العادة من أصغر إلى أعظم.
وأما سرّ هذا الخَلق في يحيى وعيسى فهو أن الله أراد من خلقهما آية عظمى. فإن اليهود كانوا قد تركوا طريق الاقتصاد والسداد، ودخل الخبث أعمالَهم وأقوالهم وأخلاقهم وفسدت قلوبهم كل الفساد، وآذَوا النبيين وقتلوا الأبرياء بغير حق بالعناد، وزادوا فسقا وظلما وما بالَوا بَطْشَ ربّ العباد. فرأى الله أن قلوبهم اسودّت، وأن طبايعهم قسَتْ، وأن الغاسق قد وقَب، ووَجْهَ الـمهجّة قد انتقَب. وفسدت التصوّرات كأنها ليل دامس، أو طريق طامس. وجاوزوا الحدود، ونسوا المعبود، وتسوّروا الجدران، ونسوا الديّان. وكانوا ما بقي فيهم نور يُؤمنهم العِثار، ويُري الحق ويُصلِح الأطوار، وصاروا كمجذوم انجذمت أعضاؤه، وكُرِهَ رُواؤُه. فإذا آلتْ حالتهم إلى هذه الآثار، لعنهم الله وغضب على تلك الأشرار، وأراد أن يسلب من جرثومتهم نعمةَ النبوة، ويضرب عليهم الذلة، وينـزع منهم علامة العزة. فإن النبوة لو كانت باقية في جرثومتهم، لكانت كافية لعزّتهم، ولَمَا أمكنَ معه أن يشار إلى ذلّتهم. ولو ختم الله سلسلة النبوة العامة على عيسى، لما نقص من فخر اليهود شيء كما لا يخفى، ولو قدّر الله رجوع عيسى الذي هو من اليهود، لرجع العزّة إلى تلك القوم ولنسخ أمر الذلة، ولبطل حكم الله المعبود. فأراد الله أن يقطع دابرهم، ويجيح بنيانهم، ويُحكِم ذلّتهم وخذلانهم. فأولُ ما فعل لهذه الإرادة هو خلق عيسى من غير أب بالقدرة المجردة. فكان عيسى إرهاصًا لنبينا وعَلَمًا لنقل النبوة، بما لم يكن من جهة الأب من السلسلة الإسرائيلية. وأما يحيى فكان دليلا مخفيا على الانتقال، فإن يحيى ما تولّد من القوى الإسرائيلية البشرية، بل من قدرة الله الفعّال. فما بقي لليهود بعدهما للفخر مَطرَحٌ، ولا للتكبر مَسرَحٌ. وكان كذلك ليقطع الله الحِجاجَ، وينقّص التصلفَ ويسكّن العَجاجَ.
ثم بعد ذلك نقل النبوة من ولد إسرائيل إلى إسماعيل، وأنعم الله على نبينا محمد وصرَف عن اليهود الوحيَ وجبرائيلَ. فهو خاتم الأنبياء لا يبعث بعده نبي من اليهود، ولا يردّ العزّة المسلوبة إليهم، وهذا وعد من الله الودود. وكذلك كُتب في التوراة والإنجيل والقرآن، فكيف يرجع عيسى، فقد حبَسه جميعُ كتب الله الديّان؟ وإن كان راجعا قبل يوم القيامة.. فلا بد من أن نقبل أنه يكذِب إذ يُسأل عن الأمّة في الحضرة، ففكِّرْ في قوله تعالى:
ثم فَكِّرْ في جوابه، أصَدَقَ أم كذَب بناء على زعم قوم يرجعونه مِن وسواسِ الخنّاس؟ فإنه إن كان حقا أن يرجع عيسى قبل يوم الحشر والقيام، ويكسِر الصليب ويُدخل النصارى في الإسلام، فكيف يقول إني ما أعلم ما صنعتْ أمّتي بعد رفعي إلى السماء؟ وكيف يصح منه هذا القول مع أنه اطّلـع على شِرك النصارى بعد رجوعه إلى الغبراء، واطلع على اتخاذهم إياه وأمَّه إلـهَينِ من الأهواء؟ فما هذا الإنكار عند سؤال حضرة الكبرياء إلا كذبا فاحشا وترك الحياء. والعجب أنه كيف لا يستحي من الكذب العظيم، ويكذِب بين يدي الخبير العليم! مع أنه قد رجع إلى الدنيا وقتَل النصارى وكسر الصليب وقتل الخنـزير بالحُسام الحسيم. وما كان مكَث ساعة كغريب يمرّ من أرضٍ بأرضٍ غيرَ مقيم، ولا يفتش بالعزم الصميم، بل لبث فيهم إلى أربعين سنة، وقتَلهم وأسَرهم وأدخلهم جبرا في الصراط المستقيم. ثم يقول: لا أعلم ما صنعوا بعدي.
فالعجب كل العجب من هذا المسيح وكذبِه الصريح! أنؤمن بأنه لا يخاف يوم الحساب ولا سوط العقاب، ويكذب كذبا فاحشا يعافه زَمَعُ الناس، ويرضى بزور يأنَف منه الأراذلُ الملوّثون بالأدناس؟ أيجوّز العقل في شأن نبي أنه رجع إلى الدنيا بعد الصعود إلى السماء، ورأى قومه النصارى وشِركهم وتثليثهم بعينيه من غير الخفاء، ثم أنكر أمام ربه هذه القصة، وقال: ما رجعت إلى الدنيا الدنيّة، ولا أعلم ما بالُ قومي مُذْ رُفعتُ إلى السماء الثانية؟ فانظروا أي كذب أكبر من هذا الكذب الذي يرتكبه المسيح أمام عين الله في يوم الحساب والمسألة، ولا يخاف حضرةَ ربِّ العزة؟
فالحاصل أنه لما منَع القرآن نـزولَ المسيح من السماء في الآية التي هي قطعية الدلالة، تَعيَّنَ إذًا من غير شك أن المسيح الموعود ليس من اليهود بل من هذه الأمة. وكيف وإن اليهود ضربت عليهم الذلة؟ فهم لا يستحقون العزة بعد العقوبة الأبدية. فاعلموا أن خيال رجوع عيسى يشابه زبدًا، وأن محبوس القرآن لا يرجع أبدا.
(مواهب الرحمن، ص 56-60، الطبعة الأولى، بريطانيا 2006)