
- مكانة أبو بكر الصديق
- مناقب أبو بكر الصديق
- افتراضات للمحاججة
- تناقض الشيعة في الشيخين
__
وعُلّمتُ أن الصدّيق أعظم شأنا وأرفع مكانا من جميع الصحابة، وهو الخليفة الأوّل بغير الاسترابة، وفيه نزلت آيات الخلافة، وإن كنتم زعمتم يا عِدا الثقافة أن مصداقها غيره بعد عصره فأْتوا بفصّ خبره إن كنتم صادقين. وإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فلا تكونوا أعداء الأخيار، واقطعوا خصاما متطائر الشرار. وما كان لمؤمن أن يركن إلى اشتطاط اللدد، ولا يدخل باب الحق مع انفتاح السدد. وكيف تلعنون رجلا أثبت الله دعواه، وإذا استَعْدى فأعْداه وأرى الآياتِ لعَدْواه(1)، وطَرَّ مكر الماكرين، وهو نجّى الإسلام من بلاءٍ هاضَ وجورٍ فاضَ، وقتَل الأفعى النضناضَ، وأقام الأمن والأمان، وخيّب كل من مان، بفضل الله رب العالمين.
وللصدّيق حسنات أُخرى وبركات لا تُعدّ ولا تُحصى، وله مننٌ على أعناق المسلمين، ولا ينكرها إلا الذي هو أوّل المعتدين. وكما جعله الله موجبا لِأَمن المؤمنين ومِطفاءً لنيران الكافرين والمرتدين، كذلك جعله مِن أوّل حُماة الفرقان وخدام القرآن ومُشيعي كتاب الله المبين. فبذل سعيه حق السعي في جمع القرآنِ واستطلاع ترتيبه من محبوب الرحمنِ، وهملتْ عيناه لمواساة الدين ولا همول عين الماء المعين. وقد بلغت هذه الأخبار إلى حد اليقين، ولكن التعصب تعقَّرَ فِطنَ المتدبرين. وإن كنت تريد أصل الواقعات ولبّ النكات، فاربأ بنفسك أن تنظر بحيث يغشاك درن التعصبات. وإياك وطرق التعسفات، فإن النصَفَة مفتاح البركات، ولا ترحض عن القلب قشف الظلمة إلا نور العدل والنصفة. وإن العلوم الصادقة والمعارف الصحيحة رفيعة جدًّا كعرش حضرة الكبرياء، والنصفة لها كسُلّم الارتقاء، فمن كان يرجو حل المشكلات وقُنية النكات، فليعمل عملاً صالحا ويتّق التعسّفَ والتعصبات وطرق الظالمين.
ومن حسنات الصدّيق ومزاياه الخاصة أنه خُصّ لمرافقة سفر الهجرة، وجُعل شريك مضائق خير البرية وأنيسه الخاص في باكورة المصيبة، ليثبت تخصّصه بمحبوب الحضرة. وسرُّ ذلك أنّ الله كان يعلم بأن الصدّيق أشجع الصحابة ومن التقاة وأحبّهم إلى رسول الله ومن الكُماة، وكان فانيا في حُبّ سيّد الكائنات، وكان اعتاد من القديم أن يمونه ويراعي شؤونه، فأسلى به الله نبيَّه في وقتٍ عبوس وعيش بوسٍ، وخُصّ باسم الصدّيق وقربِ نبي الثقلَين، وأفاض الله عليه خلعة ثَانِيَ اثْنَيْنِ ، وجعله من المخصوصين.
ومع ذلك كان الصدّيق من المجربين ومن زمر المتبصّرين. رأى كثيرا من مغالق الأمور وشدائدها، وشهد المعارك ورأى مكايدها، ووطئ البوادي وجلامِدَها، وكم من مهلكة اقتحمها! وكم من سبل العوج قومها! وكم من ملحمة قدمها! وكم من فتن عدمها! وكم من راحلة أنضاها في الأسفار، وطوى المراحل حتى صار من أهل التجربة والاختبار! وكان صابرًا على الشدائد ومن المرتاضين. فاختاره الله لرفاقته مورد آياته، وأثنى عليه لصدقه وثباته، وأشار إلى أنه كان لرسول الله أوّل الأحبّاء، وخُلِقَ من طينة الحرّية وتفوَّقَ درَّ الوفاء، ولأجل ذلك اختُيرَ عند خطب خشَّى وخوف غشَّى، والله عليم حكيم يضع الأمور في مواضعها، ويُجري المياه من منابعها، فنظر إلى ابن أبي قحافة نظرةً، ومن عليه خاصة، وجعله من المتفردين، وقال وهو أصدق القائلين: إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَه عَلَيهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لم تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ .(2)
فتدبَّرْ في هذه الآيات فهما وحزما، ولا تُعرض عمدا وعزما، وأحسِنِ النظر فيما قال رب العالمين. ولا تلج مقاحم الأخطار بسبّ الأخيار والأبرار وأحبّاء القهّار، فإن أنْفَسَ القربات تخيُّرُ طرق التقاة والإعراض عن المهلكات، وأمتنَ أسبابِ العافية كفُّ اللسان والتجنب من السبّ والغيبة، والاجتناب من أكل لحم الإخوة. انظر إلى هذه الآية الموصوفة، أتُثني على الصدّيق أو تجعله مورد اللوم والمعتبة؟ أتعرف رجلا آخر من الصحابة الذي حُمد بهذه الصفات بغير الاسترابة؟ أتعرف رجلا سُمّي ثَانِيَ اثْنَيْنِ وسُمي صاحبًا لنبي الثقلين، وأُشرِكَ في فضل إِن اللهَ مَعَنَا ، وجُعِل أحدٌ من المؤيّدين؟ أتعلم أحدًا حُمد في القرآن كمثل هذه المحمدة، وسُفر زحام الشبهات عن حالاته المخفية، وثبت فيه بالنصوص الصريحة لا الظنية الشكّيّة أنه من المقبولين؟ ووالله، ما أرى مثل هذا الذكر الصريح ثابت بالتحقيق الذي مخصوص بالصدّيق لرجل آخر في صحف رب البيت العتيق. فإن كنت في شك مما قلت، أو تظن أني عن الحق ملتُ، فأْت بنظير من القرآن، وأرِنا لرجل آخر تصريحًا من الفرقان، إن كنت من الصادقين.
والله إن الصدّيق رجل أُعطي من الله حلل الاختصاص، وشهد له الله أنه من الخواص، وعزا معيّةَ ذاتِه إليه، وحَمدَه وشَكَرَه وأثنى عليه، وأشار إلى أنه رجل لم يطبْ له فراق المصطفى، ورضي بفراق غيره من القربى، وآثر المولى وجاءه يسعى، فساق إلى الموت ذَوْدَ الرغبة، وأزجى كل هوى المهجة. استدعاه الرسول للمرافقة، فقام ملبّيا للموافقة، وإذ همّ القوم بإخراج المصطفى، جاءه النبي حبيب الله الأعلى، وقال إني أُمرتُ أن أهاجر وتهاجر معي ونخرج من هذا المأوى، فحمدلَ الصدّيق على ما جعله الله رفيق المصطفى في مثل ذلك البلوى، وكان ينتظر نصرة النبي المبغيِّ عليه إلى أن آلت هذه الحالة إليه، فرافقه في شجون من جدّ ومجون، وما خاف قتل القاتلين. ففضيلته ثابتة من جليّة الحكم والنص المحكم، وفضله بيّن بدليل قاطع، وصدقه واضح كصبح ساطع. إنه ارتضى بنعماء الآخرة وترك تنعم العاجلة، ولا يبلغ فضائله أحد من الآخرين.
وإن سألت أن الله لِمَ آثرَه لصدر سلسلة الخلافة، وأيّ سر كان فيه من ربّ ذي الرأفة، فاعلم أن الله قد رأى أن الصدّيق – رضي الله عنه وأرضى – آمنَ مع رسول الله بقلب أسلم في قوم لم يسلم، وفي زمان كان نبي الله وحيدًا، وكان الفساد شديدا، فرأى الصدّيق بعد هذا الإيمان أنواع الذلة والهوان ولعن القومِ والعشيرة والإخوان والخلان، وأُوذي في سبيل الله الرحمن، وأُخرج من وطنه كما أُخرج نبي الإنس ونبي الجان، ورأى مِحنًا كثيرة من الأعداء، ولعنًا ولومًا من الأحباء، وجاهدَ بماله ونفسه في حضرة العزّة، وكان يعيش كالأذلّة، بعدما كان من الأعزّة ومن المتنعمين. وأُخرج في سبيل الله، وأُوذي في سبيل الله، وجاهد بأمواله في سبيل الله، فصار بعد الثراء كالفقراء والمساكين. فأراد الله أن يُريه جزاء الأيام التي قد مضت عليه، ويبدّله خيرا مما ضاع من يديه، ويُريه أجر ما رأى ابتغاءً لمرضاة الله، والله لا يُضيع أجر المحسنين. فاستخلفه ربه ورفع له ذكره وأسْلى، وأعزّه رحمة منه وفضلا، وجعله أمير المؤمنين.
اعلموا، رحمكم الله، أن الصحابة كلهم كانوا كجوارح رسول الله وفخر نوع الإنسان، فبعضهم كانوا كالعيون وبعضهم كانوا كالآذان، وبعضهم كالأيدي وبعضهم كالأرجل من رسول الرحمن، وكل ما عملوا من عمل أو جاهدوا من جهد فكانت كلها صادرة بهذه المناسبات، وكانوا يبغون بها مرضاة رب الكائنات رب العالمين. فالذي يقول أن الأصحاب الثلاثة كانوا من الكافرين والمنافقين أو الغاصبين فلا يُكفّر إلا كلهم أجمعين؛ لأن الصحابة كلهم كانوا بايعوا أبا بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم وأرضى، وشهدوا المعارك والمواطن بأحكامهم العظمى، وأشاعوا الإسلام وفتحوا ديار الكافرين. فما أرى أجهلَ مِن الذي يزعم أن المسلمين ارتدوا كلهم بعد وفاة رسول الله ، كأنه يكذب كل مواعيد نصرة الإسلام التي مذكورة في كتاب الله العلام، سبحان ربنا حافظ الملة والدين. هذا قول أكثر الشيعة، وقد تجاوزوا الحد في تطاول الألسنة، وغضّوا من الحق عينهم، فكيف ينتظم الوفاق بيننا وبينهم؟! وكيف يرجع الأمر إلى ودادٍ، وإنهم لفي وادٍ ونحن في وادٍ؟! والله يعلم أنّا من الصادقين.
يا حسرة عليهم! إنهم لا يستفيقون من غَشْي التعصبات، ولا يكفكفون من البهتانات. أعجبني شأنهم وما أدري ما إيمانهم، إنهم كفروا الأصحاب الثلاثة وحسبوهم من المنافقين المرتدين، مع أن القرآن ما بلغهم إلا من أيدي تلك الكافرين، فلزمهم أن يعتقدوا أن القرآن الموجود في أيدي الناس ليس بشيء، بل ساقط من الأساس، وليس كلام رب الأناس، بل مجموعة كلمات المحرفين. فإنهم كلهم كانوا خائنين وغاصبين بزعمهم، وما كان أحد منهم أمينا ومن المتدينين. فإذا كان الأمر كذلك فعلى ما عوّلوا في دينهم؟ وأي كتاب من الله في أيديهم لتلقينهم؟ فثبت أنهم قوم محرومون لا دين لهم ولا كتاب الدين. فإن قوما إذا فرضوا أن الصحابة كفروا ونافقوا وارتدوا على أعقابهم وأشركوا، واتّسخوا بوسخ الكفر وما تطهّروا، فلا بد لهم أن يُقرّوا بأنّ القرآن ما بقي على صحته وحُرّف وبُدّل عن صورته وزِيد ونُقص، وغُيّر من سحنته وقِيْدَ إلى غير حقيقته، فإن هذا الإقرار لزِمهم ضرورةً بعد إصرارهم جرأةً على أن القرآن ما شاع من أيدي المؤمنين الصالحين، وأشاعه قوم من الكافرين الخائنين المرتدين. وإذا اعتقدوا أن القرآن مفقود، وكل مَن جمعه فهو كافر مردود، فلا شكّ أنهم يئسوا مما نزل على أبي القاسم خاتم النبيين، وغُلقت عليهم أبواب العلم والمعرفة واليقين، ولزمهم أن يُنكروا النواميس كلها، فإنهم محرومون من تصديق الأنبياء والإيمان بكتب المرسلين. وإذا فرضنا أنا (3) هذا هو الحق أن الصحابة ارتدوا كلهم بعد خاتم الأنبياء، وما بقي على الشريعة الغرّاء إلا علي ونفر قليلون معه من الضعفاء، وهم مع إيمانهم ركنوا إلى إخفاء الحقيقة، واختاروا تقيّةً للدنيا الدنية تخوّفًا من الأعداء، أو لجذب المنفعة والحطام، فهذا أعظم المصائب على الإسلام، وبلية شديدة على دين خير الأنام. وكيف تظن أن الله أخلف مواعيده، وما أرى تأييده، بل جعل أوّلَ الدَنِّ دُرْدِيًّا، وأفسد الدين من كيد الخائنين.
فنُشهِد الخلق كلهم أنّا بريئون من مثل تلك العقائد، وعندنا هي مقدمات الكفر وإلى الارتداد كالقائد، ولا تناسب فطرة الصالحين. أكفَر الصحابة بعد ما أفنوا أعمارهم في تأييد الإسلام، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم لنصرة خير الأنام، حتى جاءهم الشيب وقرب وقت الحمام؟ فمن أين تولدت إرادة متجددة فاسدة بعد توديعها، وكيف غاضت مياه الإيمان بعد جريان ينابيعها؟ فويل للذين لا يذكرون يوم الحساب، ولا يخافون رب الأرباب، ويسبّون الأخيار مستعجلين.
والعجبُ أن الشيعة يُقرّون بأن أبا بكر الصّدّيق آمن في أيام كثرة الأعداء، ورافقَ المصطفى في ساعة شدة الابتلاء، وإذا خرج رسول الله فخرج معه بالصدق والوفاء، وحمل التكاليف وترَك المألف والأليف، وتركَ العشيرة كلها واختار الرب اللطيف، ثم حضر كل غزوة وقاتل الكفار وأعان النبي المختار، ثم جُعل خليفة في وقت ارتدت جماعة من المنافقين، وادعى النبوة كثير من الكاذبين، فحاربهم وقاتلهم حتى عادت الأرض إلى أمنها وصلاحها وخاب حزب المفسدين.
ثم مات ودُفن عند قبر سيد النبيين وإمام المعصومين، وما فارقَ حبيبَ الله ورسوله لا في الحياة ولا في الممات، بل التقيا بعد بينِ أيام معدودة فتهادى تحية المحبين. والعجب كلّ العجب أن الله جعل أرض مرقد نبيه بزعمهم مشتركة بين خاتم النبيين والكافرَين الغاصبَين الخائنَين!! وما نجّى نبيّه وحبيبه من أذيّة جوارهما بل جعلهما له رفيقَين مؤذيَين في الدنيا والآخرة، وما باعده عن الخبيثين!! سبحان ربنا عما يصفون، بل أَلحَقَ الطيبين بإمام الطيبين. إن في ذلك لآيات للمتبصرين.
فكيف تجوّز لسيّد الأبرار ما لا تجوّز لنفسك يا مَورد قهر القهار؟ أتُنـزل خير الرسل منـزلةً لا ترضاها، ولا تنظرُ مراتب عصمته وإياها؟ أين ذهب أدبك وعقلك وفهمك؟ أم اختطفتْه جنُّ وهمك وتركتك كالمسحورين؟
فتفكر يا من تحلَّى بفهم، ولا تركَنْ مِن يقين إلى وهم، ولا تجترئ على إمام المعصومين. وأنت تعلم أن قبر نبينا روضة عظيمة من روضات الجنة، وتبوَّأَ كلَّ ذروة الفضل والعظمة، وأحاط كل مراتب السعادة والعزة، فما له وأهل النيران؟ فتفكر ولا تختر طرق الخسران، وتأدّبْ مع رسول الله يا ذا العينين، ولا تجعل قبره بين الكافرَين الغاصبَين، ولا تُضِعْ إيمانك للمرتضى أو الحسَين، ولا حاجة لهما إلى إطرائك يا أسير المَين، فاغمدْ عَضْبَ لسانك وكن من المتقين. أيرضى قلبك ويسرّ سِرْبك أن تُدفَن بين الكفار وكان على يمينك ويسارك كافران من الأشرار؟ فكيف تجوّز لسيّد الأبرار ما لا تجوّز لنفسك يا مَورد قهر القهار؟ أتُنـزل خير الرسل منـزلةً لا ترضاها، ولا تنظرُ مراتب عصمته وإياها؟ أين ذهب أدبك وعقلك وفهمك؟ أم اختطفتْه جنُّ وهمك وتركتك كالمسحورين؟ وكما صُلتَ على الصدّيق الأتقى كذلك صُلتَ على عليّ المرتضى، فإنك جعلت عليًّا – نعوذ بالله – كالمنافقين، وقاعدا على باب الكافرين، ليفيض شربه الذي غاض، وينجبر مِن حاله ما انهاض. ولا شك أن هذه السير بعيدة من المخلصين، ولا توجد إلا في الذي رضي بعادات المنافقين.
وإذا سئل عن الشيعة المتعصّبين: مَن كان أوّل مَن أسلم من الرجال البالغين وخرج من المنكرين المخالفين، فلا بدّ لهم أن يقولوا إنه أبو بكر. ثم إذا سئل: مَن كان أوّل من هاجر مع خاتم النبيين ونبذ العلق وانطلق حيث انطلق، فلا بد لهم أن يقولوا إنه أبو بكر. ثم إذا سئل: من كان أول المستخلَفين ولو كالغاصبين، فلا بد لهم أن يقولوا إنه أبو بكر. ثم إذا سئل: من كان جامِعَ القرآن ليشاع في البلدان، فلا بد لهم أن يقولوا إنه أبو بكر. ثم إذا سئل: من دُفن بجوار خير المرسلين وسيد المعصومين، فلا بد لهم أن يقولوا إنه أبو بكر وعمر. فالعجب كل العجب أن كل فضيلة أُعطيت للكافرين المنافقين، وكل خير الإسلام ظهرت من أيدي المعادين! أيزعم مؤمن أن أول لبنة لإسلام(4) كان كافرا ومن اللئام؟ ثم أول المهاجرين مع فخر المرسلين كان كافرًا ومن المرتدين؟ وكذلك كل فضيلة حصلت للكفار حتى جوار قبر سيد الأبرار، وكان عليٌّ من المحرومين، وما مال إليه الله بالعدوى وما أجدى من جدوى، كأنه ما عرفه وأخطأ من التنكير واحرورف في المسير، وإن هذا إلا كذب مبين.
فالحق أن الصدّيق والفاروق، كانا من أكابر الصحابة وما أَلَتَا الحقوق، واتخذا التقوى شرعة، والعدل نُجْعة، وكانا ينقّبان عن الأخبار ويفتّشان من أصل الأسرار، وما أرادا أن يُلْفِيا من الدنيا بُغْية، وبذلا النفوس لله طاعةً. وإني لم ألقَ كالشيخَين في غزارة فيوضهم وتأييد دين نبي الثقلَين. كانا أَسْرعَ من القمر في اتّباع شمس الأمم والزمر، وكانا في حُبّه من الفانين. واستعذبا كل عذاب لتحصيل صواب، ورضوا بكل هوان للنبي الذي ليس له ثان، وظهرا كالأسود عند تَلقِّي القوافل والجنود من ذوي الكفر والصدود، حتى غلب الإسلام وانهزم الجمع، وانزوى الشرك وانقمع، وأشرقت شمس الملّة والدّين. وكانت خاتمة أمرهما جِوار خير المسلمين، مع خدمات مرضية في الدين، وإحسانات ومنن على أعناق المسلمين. وهذا فضل من الله الذي لا تخفى عليه الأتقياءُ، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، من اعتلق بذيله مع كمال ميله، فإن الله لن يُضيعه ولو عاداه كل ما في العالمين، ولا يرى طالبه خسرًا ولا عسرًا ولا يذَر الله الصادقين.
الله أكبر! ما أعظمَ شأنَ سرِّهما وصدقهما! دُفنوا في مدفن لو كان موسى وعيسى حيَّين لتمناها غبطة، ولكن لا يحصل هذا المقام بالمنية، ولا يعطى بالبغية، بل هي رحمة أزلية من حضرة العزة، ولا تتوجه إلا إلى الذين توجّهت العناية إليهم من الأزل، وحفّتْ بهم ملاحف الفضل. فقضيت العجب كل العجب أن الذين يُفضّلون عليًّا على الصديق لا يرجعون إلى هذا التحقيق، ويتهافتون على ثناء المرتضى ولا ينظرون مقام الصدّيق الأتقى. فاسأل الذين يكفّرون الصدّيق ويلعنون، وسيعلم الذين ظلموا بأي منقلب ينقلبون.
إن الصدّيق والفاروق كانا أميرا ركبٍ علوا لله قُننًا عُلى ودعوا إلى الحق أهل الحضارة والفلا، حتى سرت دعوتهم إلى بلاد قصوى، وقد أُودعت خلافتهما لفائف ثمرات الإسلام، وضُمِّخت بالطِيب العميم بأنواع فوز المرام. وكان الإسلام في زمن الصدّيق متألّما بأنواع الحريق، وشارفَ أن تُشنّ على سِرْبِه فوج الغارات، وتَنَادَى عند نهبه يا للثارات، فأدركه الرب الجليل بصدق الصدّيق، وأخرج بَعاعه من البئر العميق، فرجع إلى حالة الصلاح من مَحْلةٍ نازحة، وحالةٍ رازحة، فأوجب لنا الإنصاف أن نشكر هذا المعين ولا نُبالي المعادين. فإياك أن تلوي عذارك عمن نصر سيدك ومختارك، وحفظ دينك ودارك، وقصد لله فلاحك وما امتار سماحك. فيا للعجب الأظهر! كيف يُنكَرُ مجدُ الصدّيق الأكبر، وقد برقت شمائله كالنيّر؟ ولا شك أن كل مؤمن يأكل أُكُلَ غَرْسه، ويستفيض من علوم درسه. أعطى لديننا الفرقان، ولدنيانا الأمن والأمان، ومن أنكره فقد مان ولقي الشيط والشيطان. والذين التبس عليهم مقامه فما أخطأوا إلا عمدًا، وحسبوا الغدق ثمدًا، فتوغروا غضبًا، وحقروا رجلاً كان أوّلَ المكرمين.
——-
(1) ورد في أقرب الموارد: استعداه: استغاثه واستنصره، يقال: استعديت على فلان الأميرَ فأعداني أي استعنت به عليه فأعانني عليه. والعدوى بمعنى المعونة. (التقوى)
(2) التوبة:41
(3) سهو الناسخ، والصحيح: “أن”. (االتقوى)
(4) يبدو أنه سهو، والصحيح: “الإسلام”. (التقوى)