- محمد صلى الله عليه وسلم نور من الله على الأرض.
- “اهدنا الصراط المستقيم” تعد مصدر للتحول الإيجابي في حياتنا.
- العلاقة الطردية بين الصدق وتمام الصيام.
- الصيام قوة خفية يهرب بها العبد من موبقاته إلى الله.
- تكمن سعادة الإنسان ونجاته في ضعفه.
لقد أرسى رمضان خيامه في ربوعنا مستضيفا تلك الأنفس السعيدة كي تنعم بفرصة فريدة للازدهار. فبعد تمتع الروح بمزايا هذا الشهر الفضيل تنال تصريح الإقامة في دولة الله العظمى التي لها موسم واحد.. موسم ربيع القرآن الذي وضعه الله المعين المستعان استجابة وتلبية لتضرعات حبيبه خير الخلق كافة سيدنا ومولانا محمد المصطفى .
وما كان للقرآن الكريم.. ماء الله المعين الذي يحيي أرض الأرواح الميتة ويحقق الازدهار المنشود أن يحرك ساكنا ما لم يجد البذرة المتعطشة والمتطلعة للنمو والازدهار. فلو تمعنا في آية القرآن التي لقبت المصطفى بالنور (1) لوجدنا أن بذرته قبل تلقيه مهام النبوة كانت في حد ذاتها نورا أو بعبارة أدق أصبح قلبه وجوارحه وحركاته وسكناته تجسدا لنور الله على الأرض، وبالتالي لديه القابلية والكفاءة التامة لتلقي نور الله.
هذا هو حال البذرات المباركة مع تفاوات درجاتها ومقاماتها عند الله. فبعد أن ينزل ماء السماء الروحاني على البذرة السليمة تدخل روحها إلى عالم ربها في حُلية الصدق المطلق والتواضع الذائب وذلك من خلال الصلوات والتلاوة والقيام متخلية عن كل ما حولها من اللغو الثائر والفحشاء والمنكر والخوض مع الخائضين. أما البذرة التي توغل فيها السوس فإنها لا تنبت شيئا وتصبح بذرة نخرة لا يرجى منها نفع ولا خير.
هذا هو الحال في العالم الروحاني فإن الصيام يمنح المرء ملامسة معالم ومخاطر افتراس الموبقات والفواحش لروحه. فيفر إلى الله مهرولا هرولة الطفل عند شعوره بالخطر إلى أحضان أمه حيث يحظى بالأمن والحنان.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو كيف يتم تثقيف البذرات السليمة كي تصبح وعاء تلقي نور الهداية الربانية؟ لا شك أن التحلي بالصدق المطلق لدى قراءة:
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ،
يفتح عالما جديدا أمام المرء خصوصا إذا كان صادرا من جذر القلب وأعماقه. عندها سُتقبل الروح في عالم الحضرة الأحدية وتنعم بالعزة والكرامة. ولا شك أن الفاتحة أم الكتاب مفتاح أسرار القرآن وكنوزه، فطوبى لمن فهم فحوى:
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
واستوعب مغزاها وأبعادها حيث إنها ستكون مصدر التحول الجذري في حياتنا. هذه الجملة ذات العبارات البسيطة تحوي قوة قدسية يمكن أن تغير مصير أي فرد وشعب على حد سواء.
وحاصل الكلام.. لا صيام مع كذب اللسان. ولا صيام مع تغذية العقل والوجدان بالكذب والهذيان. ولا صيام بتدنيس الأعمال بالفحش والعصيان. فالصيام يشمل صون الجوف عن تناول الكذب وعدم تقيئه أمام الناس. فالقيء ينقض الصيام. والصدق المطلق يمتن الصيام ويدخل المرء عالم الاستقامة المنشودة التي نطلبها يوميا في صلواتنا الخمس.
والصيام ركن متين من أركان الدين يُـمهد للإنسان تنقله عبر محطات عديدة ويهبه القوة ليقهر بها ضعفه، ويشكّل بها حياته ومستقبله. وثمة معنى أعظم وأكبر في تحقيق القوة ومع ذلك يتغافل عنه الناس، ولا يأخذ من حياتهم الحيّز الذي أخذه معنى القوة الظاهرية. إنها قوة الروح التي تتغذى بالإيمان والوصال بخالقها. ولقد امتدت رحمة الله وشفقته إلى أولئك الذين لم ينالوا حظا في قهر ميولاتهم وأخلدوا إلى الأرض وبشَّرَتْهم أن تعلُّقهم بالحضرة الأحدية يضمن لهم القوة المادية والروحية:
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَـتَوَلَّوْا مُجْـرِمِينَ (2)
وما نود أن نوضحه في هذا المقام هو أن أعظم بركات هذا الشهر الفضيل وأجلها هي أنها تمنح الإنسان التعرف على تلك القوة الخفية التي يجهل أنها مكنونة ومرصوصة في كيانه. تلك القوة التي إذا حاولنا رسم معالمها بضرب مثال نقول أنه عندما يرى أحدنا أسدا مكشرًا عن أنيابه بمقربة منه فإنه يهرب هروبا غير مسبوقا. هروبا لم يقم به من قبل ولم يكن يعرف أن لديه تلك القوة وتلك اللياقة البدينة.. هذا هو الحال في العالم الروحاني فإن الصيام يمنح المرء ملامسة معالم ومخاطر افتراس الموبقات والفواحش لروحه. فيفر إلى الله مهرولا هرولة الطفل عند شعوره بالخطر إلى أحضان أمه حيث يحظى بالأمن والحنان.
لقد خلق الله االإنسان ضعيفًا ليكون ضعفُه دافعًا إلى خضوعه على عتبات خالقه، كي يلوذَ بحماه ويلجأ إليه. فالضعف في الإنسان وسيلةٌ وليس هدفًا، وسيلةٌ لتوجيهه إلى باب خالقه، وسيلةٌ لإقباله على الله . لو خُلق الإنسان قويًا لاستغنى بقوته عن الله، فشقي باستغنائه. ففي ضعف الإنسان تكمن سعادته ونجاته إذا خرَّ أمام خالقه. وتحديدا يمنح هذا الشهر الفضيل فرصة ذهبية متجددة كل سنة أمامنا كي نُعرب عن ضعفنا لخالقنا كي يأتي لنجدتنا.
جعلنا الله وإياكم ممن ينعمون ويستفيدون ببركات هذا الشهر الفضيل وتقبل الله صيامكم وقيامكم وأيدكم لفهم المغزى الحقيقي من الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
(1) النور 36 (2) هود 53