عندما كنا صغارًا كان العيد بالنسبة لنا موعدًا مع الفرح. الفرح في تلك المرحلة البريئة من عمر الإنسان كان يحمل معه معان مختلفة. كان صيامنا لبعض أيام الشهر الفضيل (وحتى ولو كان هذا الصيام إلى وقت الظهيرة) يُعدُّ إنجازًا نستحق عليه (العيدية) التي ستجعلنا نركب الأراجيح ونأكل المأكولات الشهية ونحن نلبس ملابسنا الملونة الجميلة. وعندما كبرنا أصبح للفرح مفاهيم مختلفة.. فالهموم كبرت والعقل وقف عند محطة النضج وأصبحنا نقرأ ما وراء الكلمة من معان وتفاصيل.
مع تقدم الوقت أصبحنا ندرك أن رمضان هو مدرسة روحية متكاملة لابد للتلميذ فيها أن يعي جوهر دروس الصوم العظيمة. ولا بد من التطبيق العملي لتلك الدروس حتى نأخذ علامة تمنحنا النجاح بعد اجتياز هذا الامتحان العظيم. وأصبحنا ندرك أن رسوبنا في الامتحان سيخطف من بين أيدينا فرحة العيد ولن يستطيع الفرح المصطنع وابتساماته التعويض عن ما يمكن أن نخسره.
على باب تلك المدرسة لوحة كبيرة تقول:
سيقبل في الامتحان كل من سعى ليبني مع خالقه صلة محبة ورابطة لا تعادلها أي علاقة دنيوية ولا يقطعها إلا الموت.
وسيجتاز الامتحان من ضحى بملذاته وشهواته وأهوائه في سبيل ربه.
وسيكافأ كل من تذكر جيرانه وأقاربه والمرضى واليتامى والمساكين.
ولكن رمضان هذه الأيام يأتينا بطقوس يتعجب لها المرء، حيث تغلق المدرسة الروحية أبوابها لتفتح أبواب أخرى. وما أقصده هو تلك الوجبات التلفزيونية (الدسمة) التي تأنَّى طباخو المحطات الأرضية والفضائية في تحضيرها على نار هادئة طوال العام حتى يقدموها للصائم الجائع والتي لا أجد فيها سوى رسالة واحدة تقول: إذا كان الله قد أمرك أيها الصائم بالجوع فعندنا الحل.. حيث يمكنك أن تجلس طوال النهار لمشاهدة برامجنا ولن تشعر بالجوع أبدًا. وهنا لا يمكنني إلا أن أستثني محطة واحدة لا تتقن طبخ الوجبات المسلية وهي المحطة الإسلامية الأحمدية MTA التي تقدم دسمًا حقيقيًّا هو بالنسبة للذين يطلبون المتعة والتسلية لا يسمن ولا يغني من جوع.
وهكذا نجد العيد هذه الأيام غريبًا يلبس لباسًا مبرقعًا ويرقص رقصات عجيبة ويخرق جدار الحياء. ولهذا أقول إن العيد هو العيد الذي لا يكون غريبًا على أهله هو العيد الذي نستطيع فيه محاسبة أنفسنا من خلال تأمل فيه أحداث الأحداث الماضية والاستفادة من دروس الأمس. لو التفتنا إلى الوراء.. إلى الأديان التي سبقت الإسلام سنجدها قد فقدت سلاحا هامًّا هو الصلة بالله حيث كان الاعتماد في تلك الأديان على رجال الكهنوت وحدهم. فكان الفرد يقدم الضحايا والذبائح في المعابد حتى يدعو له من أجل أمر معين. ولكن الإسلام جاء برابطة متينة بشّرت المؤمنين بأن لهم البشرى في الحياة الدنيا حتى يبذلوا قصارى جهودهم للتقرب من إلههم دون وسيط. ورمضان يأتي ليمنح المؤمنين المناخ الصحي لبناء تلك الرابطة وهذا ما يجب أن يدعونا إلى جلسات صادقة مع أنفسنا…
*هل كنا مذعنين تمامًا لإلهنا؟
*هل استجبنا له وآمنا به وهو القريب أبدًا؟
*هل كنا على يقين من أنه موجود يكلمنا وأنه سيجيبنا؟
وبعد تلك المحاسبة الصادقة يمكننا فقط أن نفرح؟.. لربما سيكون حجم الفرح صغيرًا لأنه يوازي حجم التضحيات، ولكني واثق أنه سيكون فرحًا حقيقيًا بإذن الله.