شرح الكلمات:
الملأ: مِن مَلأَ يملأ ملأً، وهم الأشراف، قيل: سُمّوا بذلك لأنهم يملأون العيونَ أُبّهةً والصدور هيبةً؛ الجماعةُ؛ التشاورُ، يقال: ما كان هذا الأمر على مَلأٍ منّا: أي تشاور واجتماع (الأقرب).
استكبروا: استكبر الرجل: كان ذا كبرياء (الأقرب).
التفسـير:
كلما يُبعث نبي من الأنبياء يكذبه الناس لسببين: إما أنهم يعتبرون دعواه أعلى من قدره ومكانته، أو يظنّون بأنهم أسمى من أن يتبعوه. وهذا نفس ما حدث لسيدنا موسى. فالبعض ظنوا أنه من المستحيل أن يكلّم الله عزّ وجل عبدًا من عباده، بينما احتقره الآخـرون ظانين أنهم أعـزّ وأرفع من أن يطيعوا شخصًا كموسى .
وقوله تعالى وكانوا قومًا مجرمين يمكن أن يفسَّر بمفهومين؛ الأول: أنهم كانوا من قبل مجرمين ولذلك كذّبوا موسى ولم يُوفَّقوا للإيمان به، وهذا المعنى يوضح سبب استكبارهم وحرمانهم من الإيمان.. أي أنهم لم يؤمنوا به لأن ذلك كان سيؤدي إلى سلب حريتهم المطلقة ويكون عقبةً في سبيل ارتكاب الجرائم التي تعوَّدُوها. والثاني: أنهم أصبحوا بكفرهم به في عداد المجرمين.
والحق أن كلا المعنيين ذو صلة وثيقة بإنكار الحقائق، إذ إن السيئة تدفع إلى سيئة أخرى. وإنّه لحقٌّ أن أصحاب المساوئ والجرائم يُحرمون من الإيمان بسبب جرائمهم، كما إنه لحقٌّ أيضًا أن إنكار الحقائق يضر بتقوى الإنسان ضررًا فادحًا، وإن كان في قلبه شيء من خشية الله من قبل فإنه يتلاشى منه فورًا أو تدريجيًا بسبب إنكاره لتلك الحقائق.
إن رفض الحقائق ليس بأمر هيّن بل هو جريمة نكـراء، ويجب على من يقيـم للتـقوى أي وزن أو قـيمة أن يسـعى جـاهدًا كي يتجـنّبها.
شرح الكلمات:
مبين: أبان الشيءُ: اتضح، وأبان فلانٌ الشيءَ: أوضَحَه. ضَرَبَه فأَبانَ رأسَه من جسده أي فَصَلَه، فهو مبينٌ (الأقرب).
التفسـير:
كلما يأتي الحق من عند الله تعالى يقول الناس (إنّ هذا لسحرٌ مبين). والواقع أن هذه الكلمة الوجيزة منهم تنطوي على الشر بكل أصنافه وألوانه. ذلك أن الناس صنفان؛ صنف منهم يرغب في الأمور الدينية الروحانية، وصنف آخر يرغب في الأمور المادية السياسية. فبقولهم (سحرٌ) يحاول هؤلاء إثارة مشاعر الراغبين في الأمور الدينية ضد النبي المرسل كي يوهموهم بأن ما جاء به هذا النبي إنما هو خداع وتلبيس يريد به إفساد دينهم الذي هم عليه. وبقولهم (مبين) يحرضون ضده الراغبين في الأمور المادية والسياسية بأن ما معه ليس بسحر وخداع فحسب، بل خداع خطير سوف يوقع به الفرقة بينكم ويشتت شملكم. فإذا كنتم تريدون خيرًا لشعبكم فتصدّوا لهذا المدّعي وإلا فسوف يحوّل شعبنا المتحد إلى أحزاب متناحرة متحاربة.
منذ بدء الخليقة نجد أعداء الله لا يزالون يلجأون إلى هذه المكيدة الشيطانية التي لم تفقد قوتها في الفتك والتدمير. ففي زمننا هذا أيضًا استخدم المعارضون هذه المكيدة الشيطانية نفسها ضد مصلح هذا الزمان ولا يزالون. أما الناس فيقرأون كل هذه التحذيرات الإلهية في القرآن الكريم ولا يتدبرون فيها، ولا يفكرون لدى تحريض هؤلاء المفسدين لهم ضد سيدنا الإمام المهدي أن الأمة كانت قد تفرقت وتمزقت وحدتها من قبل بعثته، فكيف فرّقها وشتتها هو كما يدّعون. إذا كان بناء الأمة من جديد هو التفرقة فما هو معنى الهدم إذن؟
التفسـير:
قوله أسِحرٌ هذا يعني أن ما جئتُ به من تعاليم لموجودةٌ بين أيديكم، تعرفون تفاصيلها وتحسّون بأنفسكم بتأثيرها، فكيف تسمّونها إذن سحرًا وخداعًا؟ كيف يكون سحرًا وكذبًا ذلك الشيءُ الذي يشجُّ هامة الكذب ويدمغه؟
صرّح الله بقوله ولا يفلح الساحرون بأن الذين يلجأون إلى الكذب والخداع لا يقدرون على تحقيق الأهداف المنوطة بأنبياء الله عليهم السلام. إن الأنبياء يأتون لتغيير أحوال الشعب دينيًا وأخلاقيًا ومَدنيًا وسياسيًا، إما عاجلاً أو آجلاً. ما من نبي إلا وبُعث لهذا الهدف. فسيدنا موسى يقول لهم: أنتم ترون بأم أعينكم أنني أحقق هذه الأهداف شيئًا فشيئًا، وسوف يكتمل إنجازها على يدي في يوم من الأيام، فكيف إذن ترمون بالكذب والخداع مَن ُيحدث هذه التطورات المدهشة؟
شرح الكلمات:
لِتَلْفِتنا: لَفَتَ الشيءَ يلفت لفتًا: لواه وصرفه إلى ذات اليمين والشمال. ولفت فلانًا عن رأيه: صرفه (الأقرب).
الكبرياء: العظمةُ، التجبّرُ. وفي اللسان: العظمةُ والمُلك. وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود ولا يوصف بها إلا الله تعالى (الأقرب). وكأنها إذا استُخدِمتْ للإنسان جاءت بمعنى سيّء وإذا استُخْدِمت في حق الله تعالى كانت بمعنى حَسَن.
التفسـير:
هذه الآية شرح للاعتراضين اللذين سبق ذكرهما بإيجاز شديد في كلمة سحر مبين . كان الاعتراض الأول إنه جاء ليفسد علينا ديننا، وقد شرحته الآية في شطرها الأول على لسان كبراء القوم: أجئتِنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا . ولما كان معظم الناس يظنون أن ما يتبعه آباؤهم هو الدين الحق، فكأنهم قصدوا بقولهم هذا أنه يريد إغواءنا عن الدين الحق، ولكنهم ذكروا هذا الأمر ذكرًا يحدث هيجانًا عنيفًا في قلوب العامة ضد نبيهم.
وكان الاعتراض الثاني هو: إنه يريد تشتيت شمل الشعب، وقد شَرَحَتْهُ الآية في الشطر الثاني: وتكون لكما الكبرياء في الأرض .. أي أن موسى وهارون يريدان الحكم على بلادنا. والبديهي أن الوصول إلى السلطة يتم بإحداث الفرقة والخلاف بين أفراد النظام الحاكم.
التفسـير:
لاحظوا كيف أن الخطأ الواحد يدفع الإنسانَ إلى أخطاء أخرى. لقد رموا نبيًا كريمًا كموسى بالسحر والخداع، فحُرموا بسبب هذا الاتهام من أن يبحثوا أمره بحثًا موضوعيًا، وهكذا وقعوا في الفخ الذي نصبوه له حيث بدأوا بأنفسهم يبحثون عن السحرة لمبارزته.
التفسـير:
عندما نزل السحرة في ساحة المبارزة أبدى موسى كراهية واستغناءً عن مبارزتهم فقال: افعلوا ما أنتم فاعلون، أما أنا فأراه لغوًا وعبثًا. يظن الناس عمومًا أن موسى كان استعد لمبارزتهم فورًا، ولكن هذا خطأ، لأنه كان يدرك جيدًا أنهم سحرة وأن ما يأتون به سيكون لغوًا لا حقيقة فيه، فأبدى كراهيته واستغناءه عن التصدي لهم، ولكنه لم يرفض مواجهتهم على الفور صراحةً ربما لأنه فكر أن الحقيقة سوف تنكشف تلقائياً لدى المواجهة العملية، وعندها سوف يخبرهم برأيه صراحةً. وهذا ما حصل فعلاً حيث قال لهم عند انكشاف أباطيلهم: ما جئتم به السحر .
شرح الكلمات:
لا يُصلح: أصلحَه: ضد أفسَدَه. أصلحه بعد فساده: أقامه. أصلح بين القوم: وفّق. أصلح إليه: أحسن إليه، يقال: أصلح إلى دابته إذا أحسن إليها وتعهدها، ويقال: أصلح الله له في ذريته وماله (الأقرب).
التفسير:
عندما يقف الحق في مواجهة الباطل تنكشف الحقيقة للعيان. فأعمال المفسدين لا تؤول إلا بالفساد والشر، إذ يستحيل أن يأتي أحد بأعمال فاسدة ثم يجني منها خيرًا وصلاحًا. فالله تعالى يشير إلى هذه الحقيقة قائلاً: إننا لا نَدَعُ أعمال المفسدين لتأتي بما يرجون، بل إننا نجعلهم يتقلبون ويغيّرون حالتهم من حين لآخر فلا ينجحون في مراميهم.
التفسـير:
لنعلم أن “كلمات الله” تعني البشارة والوعيد، لأنه تعالى يُثبت الحق بهما.
يبين سيدنا موسى هنا كلمة حكمة رائعة، حيث يقول: إن الله عزّ وجل ليس بحاجة إلى اللجوء إلى الكذب والخداع لنشر دينه، بل كل شيءٍ خاضع لأمره، ولذلك فإنه ينشر دينه بأمره وقدرته.
لقد علّمنا الله عزّ وجل هنا درسًا عظيمًا في الأخلاق، ألا وهو: أن صدق الهدف أو صحة المبدأ لا يسمح للإنسان باللجوء إلى طرق غير مشروعة لتحقيقه، بل يجب اتخاذ وسائل مشروعة وفاضلة لتحقيقه مهما كان ساميًا وهامًا. ولكن للأسف أن أكثر الناس في عصرنا يجهلون هذه الحقيقة، وهذا الوباء في انتشار متزايد حيث يستسيغون الكذب لتوطيد الحق. ما قيمة الحق الذي لا يستطيع أن يزدهر وينتصر دون الاستعانة بالكذب والخداع؟
شرح الكلمات:
آمن: آمَنَه: أمّنه. آمن به: صدّقه ووثق به. آمن له: خضع وانقاد. (الأقرب).
ذريّة: الذريّة: أصلها الصغار من الأولاد، وإن كان قد يقع على الصغار والكبار معًا في التعارف، ويُستعمل للواحد والجمع وأصله للجمع (المفردات).
على: حرفُ جرٍّ له عدة معان منها التعليل (الأقرب).
يفتن: فتَنَه يفتن فَتنًا وفُتونًا: أعجبَه. فتن المال الناسَ: استمالهم. فتنت المرأة فلانًا: ولّهته. فتن زيدٌ عمرًا: أوقعه في الفتنة ففُتن أي وقع. فتن فلانًا فتنةً ومفتونًا: أضلّه. فتن الرجل إلى النساء: أراد بهن الفجورَ. فتن الشيءَ فتنًا: أحرقه، ومنه: يومَ هُمْ على النار يُفتَنون (الذاريات: 14). فتن فلانًا عن رأيه: صدّه. فتن الصائغ الذهبَ والفضة فتنةً: أذابه بالبوتقة وأحرقه بالنار ليبين الجيدَ من الرديء ويعلَمَ أنه خالص أو مَشوب، وهو أصلُ، معنى الفتنة (الأقرب).
عالٍ: علا الشيءُ: ارتفع. علا فلان في الأرض: تكبر وتجبر. علا فلاناً: غلبه وقهره (الأقرب).
المسرفين: أسرف فلان: جاوز الحد وأفرط؛ أخطأ؛ جهل؛ غفل (الأقرب).
التفسـير:
أي.. لم يُطع موسى إلا أفراد من قومه، بينما رفض الآخرون دعوته خوفًا من أن يضطهدهم فرعون وعلية قومه أو يحرقوهم. وهذا يبين أن الناس يستيقنون في قلوبهم بصدق الأنبياء، ولكنهم لا يصدّقونهم بلسانهم ولا يعلنون إيمانهم خشية اضطهاد القوم.
وإنّه لحقٌّ أن أصحاب المساوئ والجرائم يُحرمون من الإيمان بسبب جرائمهم، كما إنه لحقٌّ أيضًا أن إنكار الحقائق يضر بتقوى الإنسان ضررًا فادحًا، وإن كان في قلبه شيء من خشية الله من قبل فإنه يتلاشى منه فورًا أو تدريجيًا بسبب إنكاره لتلك الحقائق.
يكون في الدنيا ملوك جبابرة ولكنهم يملكون من الذكاء والفطنة ما يمنعهم من مضايقة الرعية حتى لا تتمرد عليهم، فمثلاً كان قوم نوح يعارضونه، ولكنهم اكتفوا بالسخرية منه ومن أتباعه دون أن يعذبوهم ويمحو أثرهم. ولكن فرعون كان غبيًا، فعاملهم بقسوة دفعتهم إلى الخروج عليه.
كان بنو إسرائيل في صف موسى، فخاف فرعون أن يتعاظم شأنهم ويتفاقم خطرهم فيضعف حكمه ويذهب سلطانه، لذلك كان يعذّبهم. وكان هذا غباءً شديدًا منه، لأن العنف والعدوان دونما مبرر يقوّي أسباب التمرد ولا يجدي نفعًا.
ويبدو من الآية أنه ما آمن بموسى جميع قومه، وإنما جزء منهم، كما هو ظاهر من قوله تعالى إلا ذرية من قومه ، أما الآخرون من قومه فكانوا معه بسبب الدوافع السياسية.
وهناك من قال بأن الضمير في قوله تعالى (من قومه) عائد على فرعون لا على موسى، والمعنى عندهم أن أفرادًا من قوم فرعون أيضًا صدّقوا بموسى (القرطبي). ولكني أرى أن المعنى الأول أقرب إلى الصواب.
كما اختلف المفسرون في ضمير الغائب في قوله تعالى (ملأهم)، فقال البعض: هم أسياد من بني إسرائيل، لأن الحديث هنا عن الإسرائيليين. ويرى غيرهم أن الضمير يرجع إلى أسياد الإسرائيليين من قوم فرعون، وقد سُمّوا أسيادًا لهم لكونهم حاكمين عليهم.
غير أنني لا أرى داعيا لإرجاع الضمير إلى فئة معينة من الشعبين، لأن السيادة لا تُعرف فقط بناءً على انتماء أحد لشعب حاكم بل أيضًا بما يتمتع به أحد من حكم وسلطة. فالحق أن كبار رجال الحكومة الفرعونية – سواء كانوا من الفرعونيين أو الإسرائيليين – قد سُمّوا ملأً لبني إسرائيل، إذ كان فرعون يستعين بالمسؤولين الكبار من الشعبين لاضطهاد الإسرائيليين.