- الاستهلاك بدافع البقاء هو الأصل، فماذا تغير في المعادلة؟!
- مفارقة نوفمبر العجيبة
- الاستهلاك النهم شيطان من شياطين العصر الحديث
_
الرغبة في البقاء غريزة لا تنفك توجد في كل الأحياء على الإطلاق، بل والأغرب أنها توجد في الجمادات كذلك، حتى إن علماء الطبيعة طلعوا علينا بقوانين طبيعية سارية كقانون بقاء الكتلة وقانون بقاء الطاقة. ولكن، فلنرغب كما نحب، فالرغبة شيء والواقع المفروض شيء آخر. وبقاء الخلق كلهم أو بعضهم محال، شئنا أم أبينا، وإنما جُعل حب البقاء دافعا لنا لأجل التكاثر لإنتاج المزيد ولتعمير العالم. ولكن يبدو أن المعادلة انقلبت لسبب ما.. هل يُعقل أن تكون رغبتنا في البقاء هي نفسها سبب فنائنا السريع؟! لقد تبينت هذه الحقيقة لنا أخيرا، وما كانت لتتبين لنا لولا التجربة والاختبار. ففي هذا العصر الذي يعتبر عصر الاستهلاك الجنوني، بدا بوضوح أن معدلات الاستهلاك المتزايدة أسفرت عن نتائج غير مستحبة، بدءا من نضوب الموارد الطبيعية على كوكب الأرض، وحتى نشوب الحروب واحتدامها على ما تبقى من موارد متجددة كالتوابل والسكر في العصور الوسطى، وموارد غير متجددة من ثروات طبيعية كالبترول وغيره في العصر الراهن. وعلى مستوى اجتماعي لوحظ تناسب عكسي بين الاستهلاك النهم ومعدلات الأعمار، إذ كلما قلَّت معدلات الاستهلاك في مجتمع ما يلاحظ تمتع أفراده بطول العمر، حتى إن من هؤلاء المعمرين من يتخطى حاجز القرن، وسرعان ما سيكتشف الممعن أن هؤلاء المعمرين سلكوا في حياتهم مسلك الاستهلاك المعتدل إلى حد الكفاف، الأمر الذي يوحي بأن الاستهلاك ليس مجرد استنفاد للمتاع المتاح، وإنما هو أيضا استنفاد للقدرات الروحانية وللأعمار كذلك. الموضوع برمته إذن منطو على جدلية معقدة، إذ كيف لما نراه سبب بقائنا كالطعام والشراب وغير ذلك أن يكون هو نفسه سبب فنائنا؟! فسبحان من لا بقاء لسواه، وهو الحي القيوم!في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام يحتفل قطاع عريض من الناس بباقة من المناسبات، يغلب عليها التناقض، فكثير من المسيحيين لا سيما في الولايات المتحدة يحتفلون بعيد الفصح (عيد الشكر) وهو عيد مكرس لشكر النعمة، وهو أمر محمود وواجب فطري بشكل عام، ولكن المفارقة العجيبة أن يلي هذا العيد مباشرة حدث تجاري أقل ما يمكن وصفه أنه فخٌّ بغيض، إنه يوم الجمعة السوداء (Black Friday) الذي ابتدع في كبرى البؤر الاستهلاكية العالمية لإدخال المواطن في دوامة استهلاك لا تنقطع، فقط بهدف تصريف الإنتاج المخزون وإحلال الجديد محله، وهكذا دواليك، فيدخل الإنسان بهذا إلى آلة ترس في ماكنة لا ينفك يدور بدوران ترسي العرض والطلب.. الآن اتخذت مشكلة نهم الاستهلاك بعدا آخر مع التطور التكنولوجي الرهيب، فمع هذا التطور أصبحت السلعة المراد شراؤها على بعد كبسة زر بواسطة شبكة هائلة من تطبيقات الشراء عبر الإنترنت، فماذا يُخبِّئ لنا المستقبل أكثر من هذا؟! أمن المنتظر أن تحضرنا السلع بمجرد التفكير فيها؟! من يدري؟! لقد صارت ممارسة عملية الشراء بواسطة تطبيقات الإنترنت هدفا للبعض في حد ذاتها، بغض النظر عن الحاجة إلى السلعة المشتراة، بتعبير آخر صار الاستهلاك في حد ذاته متعة، حتى إننا الآن كثيرا ما نسمع بهواية عُرِفت وشاعت مؤخرا، إنها هواية التسوُّق.
والشكر على النعم يتمثل أول ما يتمثل في استعمالها على الوجه الأمثل، فالشكر الواجب على كل امرئ يدفعه دفعا إلى ترشيد الاستهلاك في كل مجال، فالشكر إذن هو علاج وتعويذة من شيطان النهم الاستهلاكي، والشكر على شيء يتضمن القناعة به، فالشاكر الحقيقي يكون قنوعا بالضرورة. لقد علَّمَنا النبي أن التحلِّي بالقناعة يُعين على الشكر كذلك. والمؤمن أكثر الناس شكرًا لله، وينبغي أن يكون كذلك، فالذين يقولون بأفواههم إننا نشكر الله، لكنهم في الوقت نفسه يلهثون وراء متاع الحياة الدنيا في دوامة الاستهلاك والتكاثر هُم في الحقيقة واقعون في شَرَكِ حب الشهوات، ولا يقدرون على الشكر الحقيقي.
وعلى ذكر شكر النعم، هل هناك أعظم من نعمة بعث سيدنا محمد المصطفى رحمة للعالمين؟! أفلا تستوجب هذه النعمة الشكر الجزيل لله ؟! في عصر الحداثة المكدر بظلامات الغلاء واستغلال حاجة المعوزين والفقر المدقع في كثير من البلدان، تبرز للعيان هدايات نبوية تنير أمامنا طريق السير في هذا العصر، لندرك جيدا.وفي عددنا لهذا الشهر المحتَفَل فيه في مغرب الدنيا بمناسبتين متناقضتين، تولدت لدى فريق تحرير «التقوى» رغبة ملحة في مواكبة هذين الحدثين البارزين، على الرغم من أن كليهما ليس ضمن مناسبات التوقيت الإسلامي، إلا أن أولهما، أي عيد الشكر، يستحق منا الإشادة من حيث المبدأ، بينما يتوجب علينا إزاء الثاني، أي جمعة الاستهلاك السوداء، التيقظ لشيطان نهم الاستهلاك وحب التكاثر، وهو شيطان كامن في كثير من تفاصيل حياتنا اليومية، لهذا الداعي يتصفح قارئنا العزيز مقالا غنيا ذا صلة بهذا الموضوع، كما ويطلع على خطبة حديثة من خطب الجمعة لحضرة سيدنا أمير المؤمنين الخليفة الخامس (أيده الله تعالى بنصره العزيز) يتناول فيها ذكر طائفة من الصحابة البدريين الذين أعلنوا انتصارهم المؤزر على شيطان النهم الاستهلاكي، إنهم أصحاب الصُّفَّة، وما أدراك ما أصحاب الصُّفَّة! إنهم ثمار ناضجة من دوحة تعاليم سيد الكونين الذي وافق مولده قمريا شهر ربيع الأول، فكان هذا الميلاد المبارك إيذانا بربيع بعثته النبوية، وليكون شهر ربيع الأول له من اسمه حظ وافر، فإشارة إلى ذلك الحدث المبارك نُتحف قارئ «التقوى» بمنظومة شعرية في مدح خير البرية.كما نرجو أن يتمتع القارئ الكريم بالأبواب الأخرى المعروضة ضمن مواد هذا الشهر، راجين المولى أن يكلأنا بعنايته، ويلهمنا شكره، ويعيننا على ذكره، ولا يقيض لنا من الشياطين ما نعلم ولا ما لا نعلم، آمين.