في رحاب القرآن

 

وَمِنْـهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَـانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (البقرة: 79-80)

 

شرح الكلمات:

أمانيُّ: جمعُ أُمنية؛ وهي: البُغْيةُ؛ ما يُتَمنّى؛ الكذبُ؛ ما يُقرَأ (الأقرب).

التفسير:

من معاني الأُمنية (ما يُقرَأ)، وعليه فمفهوم الآية أن مِن اليهود مَن يقتصر علمهم على قراءة صحف بني إسرائيل فقط، وليسوا بقادرين على استيعابها جيدًا. وهذا يعني أن كلمة أُمِّيُّونَ هنا تفيد مفهوما محدودا -أي أنها تعني مَن يفهم المعاني الظاهرة البادية، ولا علم له بدقائق اللغة- ولا تفيد مفهومها العام وهو مَن لا يستطيعون القراءة والكتابة أصلاً. فالآية تدمغ اليهود بأنهم لا يجتهدون لدراسة كتبهم بعمق، وعندما يقرأون فيها كلمات ذات أوجهٍ يتمسكون بالتي تخالف سنة الله ومشيئته، تاركين التي تطابق سنته ومشيئته تعالى.

وإن في هذا الموضوع لعبرة للمسلمين اليوم، لأن حالهم مشابه لذلك. فمعظمهم لا يعرفون معاني القرآن الكريم، ومَن يعرفها فإنما إلى حد محدود جدًا. لا يهتمّون ولا يريدون أن يهتموا بما في القرآن من معارف كثيرة ومفاهيم غزيرة، بل مَن حاول ذلك رموه بالتأويل والكفر، ولأجل ذلك سُدّت أمامهم أبواب خزائن القرآن الكريم، وأصبح ماؤه الجاري راكدًا آسنًا لهم. أو لم يفكروا أن ما عابه القرآن الكريم على اليهود لا يمكن أن يكون ميزةً في المسلمين.

ومن معاني الأمنية: ما يتمناه المرء، ونظرًا إلى هذا المعنى ستكون كلمة أُمِّيُّونَ بمفهومها العام، أي مَن لا يستطيع القراءة والكتابة أصلاً، والمراد من الآية أن من اليهود من لا يستطيعون قراءة كتابهم، أو أنهم يستطيعون تلاوته من الذاكرة ولكن بدون معرفة معانيه، وعلمهم منحصر في بعض الأماني فقط، أي أنهم يظنون أنهم إذا قرأوا صحفهم هكذا أو سمعوها بلا إدراكٍ لمعانيها، كفاهم ذلك للنجاة. وكأن كتاب الله تعالى يولّد في قلوبهم أمنيةً فقط ولا يهبهم علمًا ونورًا.

وهذا هو أيضًا حال المسلمين اليوم، ولكنهم لا ينتبهون لخطئهم هذا، بل لا يريدون أن ينتبهوا. فالملايين منهم لا يقدرون على القراءة من المصحف، والملايين منهم يستطيعون قراءته ولكنهم لا يعرفون معانيه، وكلتا الفئتين تعوزها الرغبة في قراءة القرآن الكريم واستيعاب معانيه. يكتفون بقراءة القرآن بدون فهم معانيه، أو بسماع شيء من القرآن مِن غيرهم، ظانين أنهم قد سمعوا القرآن أو قرأوه، وأن هذا يكفيهم لنجاتهم. والواقع أنهم لم يسمعوا القرآن ولم يقرأوه، وإنما سمعوا أنغام القراءة ونظروا إلى رسم القرآن فقط. إن القرآن الكريم اسم للمفاهيم التي تنطوي عليه كلماته، ومَن لم يقرأ هذه المفاهيم مدركًا أن هذا هو المراد من هذه الكلمات، فلم يقرأ القرآن. ومَن لم يفهم هذا الكتاب الذي أنزله الله تعالى لهداية العالم فأنىَّ له أن يدّعي الإيمان بالدين الحق؟ أنا لا أقول إن الذي لا يعرف معاني القرآن فعليه ألا يقرأه، لأن هذه القراءة تذكِّره بغايته على الأقل؛ ولكني أقول: لابد له من أن يجد في قلبه رغبة لفهم معاني القرآن، وأن يسعى لتعلُّمها. وما دامت هذه الرغبة موجودة فيه وسعى لذلك باستمرار، فسوف يُعَدّ بريئًا عند الله ورسوله حتمًا. أما إذا كانت الرغبة مفقودة والمحاولة معدومة، فأنّى له أن يُرضي الله تعالى بمحض أمانيه؟

ومن معاني الأمنية الكذِبُ، وعليه فالمراد من الآية أن بين اليهود أميين لا يعلمون من كتبهم إلا بعض الأكاذيب والأباطيل. وهذا يعني أنه يكون بين القوم فئة لا يعرفون معاني كلام الله تعالى، ولكنهم يريدون أن يظن الناس أنهم يعرفونها، أي أنهم يريدون أن يُدْعَوا علماء مع جهلهم. يقول الله تعالى أيُّ خير يرجى من أمثال هؤلاء اليهود لأنفسهم أو لمن سواهم؟ وكيف يستحقون نزول فضل الله عليهم؟ إنهم أعداء دين الله. إنهم يسيئون إلى الله تعالى بَعَزْوِ جهلِهم إلى الله سبحانه وتعالى، ويُضلّون البسطاء بنشر جهالاتهم بينهم.

وللأسف أن أمثالهم كثيرون في المسلمين اليوم. فمنهم مَن لا يستطيع قراءة القرآن الكريم، ولكنه يقص على الناس ما سمعه من قصص وأساطير من هنا وهناك، ويوهمهم أنها كلام الله وسنة رسوله؛ ثم يلحّ عليهم أن يصدّقوها ويؤمنوا بها، بل ويعملوا بها. ومنهم من عنده إلمام بسيط بالعربية، ولكن ليس لديه من الكفاءة ما يساعده على فهم دقائق هذه اللغة، فيَضلُّ ويُضلّ غيرَه بعلمه الناقص بالقرآن الكريم. ومنهم من يستطيع تلاوة القرآن الكريم ويتباهى به على عامة الناس الذين لا يقدرون على التلاوة، ويتظاهر أمامهم بكونه خبيرًا في علوم القرآن. الواقع أن هؤلاء هم السوس الذي ينخر في أساس الإسلام. فلو أن المسلمين اهتموا بقراءة القرآن الكريم وسعوا لتدبر آياته وفهم معانيه فهمًا صحيحًا، ولم يتبعوا الكاذبين وتخلّوا عن الأماني الكاذبة، لما رأى الإسلام هذا اليوم الأسود الذي يُدمي قلب كل مسلم مخلص.

أما قوله تعالى وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فيعني أن كل هؤلاء الأصناف الذين مرّ ذكرهم ليس بأيديهم إلا الظن، لا العلم، سواء الذين ليس لديهم إلمامٌّ تامٌّ بالعربية ويعتمدون على الظنون، أو الذين ليس عندهم أدنى علم باللغة، وإنما يعُدّون ما يسمعونه من الناس كلامَ الله ويملأون به عقولهم، ثم يسعون ليضخّوه في عقول العامة، فهؤلاء ليس عندهم إلا الظنون إذ يحسبون أن ما سمعوه من الناس حق وصدق.

أما قوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ… فهو مثال لجمال الإيجاز القرآني البليغ، إذ تبدو هذه الآية وكأنها تعقيب يكمل الآيةَ السابقة، ولكنها في الواقع تتحدث عن صنف آخر من أهل الكتاب. وبيان ذلك أن الآية السابقة تتحدث عن أولئك اليهود الذين لا يعرفون العِبرية معرفة تامة، ولا علم لهم بما في أسفارهم من مفاهيم دقيقة، ويخدعون أنفسهم ويُضلّون الآخرين؛ أو عن اليهود الذين كانوا يعيشون في أمانيهم بأن ما قرأوه أو سمعوه من غيرهم من كلمات صحفهم يكفيهم للنجاة، أو عن اليهود الذين كانوا يقرأون صحفهم أو يحفظون شيئًا منها عن ظهر غيب بدون استيعاب معانيها، وإنما حفظوا شيئًا من تفاسير علمائهم وكانوا يذكرونها للناس في كل مناسبة مدعين أنهم يقدمون لهم التعاليم الحقة الموجودة في صحف بني إسرائيل. وهذا يعني أن الآية السابقة كانت تتحدث عن جهال اليهود فقط، وأما هذه الآية فلا تتحدث عن جهالهم بل عن علمائهم، وتخبر أن هؤلاء اليهود الذين يكتبون الكتب بأيديهم ثم يوهمون الناس أنها من عند الله تعالى، سوف يحل بهم العذاب.

قد يقال هنا إذا كانت هذه الآية تتحدث عن صنف جديد من اليهود، فلماذا بدأتْ بحرف الفاء الذي يفيد النتيجة؟ أي أن ما ذُكر هنا هو نتيجة للمذكور من قبل، وليس بموضوع جديد منفصل.

والجواب أن مهمة القرآن الكريم بيان مواضيع لا حصر لها، ولذلك قد أُنزل بعبارة هي الذروة في الإيجاز المعجز. وقد تحدثت الآية السابقة عن جهال اليهود الذين كانوا يَضلّون ويُضِلّون معتمدين على تفسيرات علمائهم الخاطئة، بينما تذكر هذه الآية علماءَ اليهود الذين خلت قلوبهم من التقوى وأضلوا الناس، ولو ذكر الله تعالى كلاً من الفريقين ذكرًا منفصلا لطالت العبارة، ومن أجل ذلك تحدثت الآية الأولى عن الجهال منهم، ثم بينت الآية الثانية أن ضلالَ هؤلاء الجاهلين هو نتيجة لتصرفات علمائهم غير السليمة، فهمْ (أولا) لم يعلّموهم الكتاب، و(ثانيا) علّموهم أمورًا باطلة عَزَوْها إلى الكتاب قائلين هذا هو المراد مما ورد في كتبنا. فعلماء اليهود هم المسؤولون عن هلاك جهالهم ودمارهم. وإن ضلال علمائهم يكمن في أنهم بسبب قلة تقواهم نسبوا أفكارهم إلى الله تعالى وعرضوها على الناس وعدّوها كتابَ الله. لا جرم أن الجهال سينالون العقاب، غير أن علماءهم سينالون -بالإضافة إلى عقابهم- نصيبَهم من عقاب الجهال أيضا، لأنهم هم المسؤولون عن ضلالهم. ومن أجل ذلك قال الله تعالى بعد ذكر الجهال فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .

فبهذه العبارة الوجيزة والكلمات المعدودة قد بين الله تعالى (أولاً) أنه يوجد بين اليهود علماء، ولكنهم يستغلّون علمهم أسوأَ استغلال، و(ثانيًا) أن علماء اليهود مسؤولون عن ضلال الجهال منهم، و(ثالثًا) أن جهالهم سينالون العقاب بلا شك، إلا أن علماءهم سينالون نصيبهم من عقاب الجهال أيضا لأنهم هم المسؤولون عن ضلالهم. فكل هذه المعاني قد ذكرها القرآن الكريم بإضافة حرف الفاء وبتأخير ذكر العلماء هنا.

أما قوله تعالى لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فبين الله تعالى فيه أن هؤلاء العلماء يفسدون دينهم لمكاسب مادية، ولا حرج عندهم لو ضاع الدين إذا سلمت لهم دنياهم.

وقد يتساءل أحد: كل كاتب يكتب بيده، فلماذا قال الله تعالى يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ؟

والجواب أن الله تعالى قال بِأَيْدِيهِمْ تأكيدًا بأن هؤلاء العلماء هم الذين كتبوا هذه الأباطيل، ذلك لأن من معاني الفعل (كتَب): أملى على الآخر ليكتب له. وقد ورد في الحديث عن الرسول أنه قال: “أكتُب لكم كتابًا لن تَضلّوا بعده أبدًا” (البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته)، مع أن الثابت من القرآن الكريم والتاريخ أن النبي لم يكن يعرف الكتابة. فقوله “أكتبُ لكم” إنما يعني أُملي على أحدكم. فقد زاد الله تعالى هنا كلمة أَيْدِيهِمْ تأكيدًا أن الحديث هنا هو عن علماء اليهود الذين يعرفون القراءة والكتابة، كيلا يظن أحد أن الكتابة هنا تعني الإملاء وأن الآية تتحدث عن جهّال اليهود الذين مرَّ ذكرهم من قبل.

ثم قال الله تعالى فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ يبين أن هؤلاء العلماء يستوجبون عذابًا مضاعفًا ثلاثةَ أضعاف: أولاً، لأنهم أضلّوا الجهال؛ وثانيًا، لأنهم نسبوا الأباطيل إلى كلام الله تعالى؛ وثالثًا، لأن الباعث على التحريف والتزوير لم يكن خيرًا، إنما هو متاع الدنيا القليل.

وتبيّن هذه الآية فلسفة هامة للثواب والعقاب. فالسيئات على نوعين: سيئة تُرتكب عن جهل وغفلة، وأخرى تُرتكب عن عمد. ثم تنقسم السيئة العمد أيضًا إلى قسمين: الأول ما يكون دافعُه فكرةً حسنة وإن كانت في حد ذاتها خاطئة؛ والثاني ما يكون دافعُه فكرةً شريرة قذرة.

وبيان ذلك أن يقتل المرء غيرَه خطأً أو جهلاً، فهذه جريمة شنيعة بلا شك، ولكن مرتكبها إما أن يُعفى من العقاب تمامًا أو يُعاقَب عقابًا خفيفًا، إذ قصّر في أخذ الحيطة والحذر. هذا مثال العمل السيء يُرتكب خطأً.

ولكن هناك شخصا آخر يقتل غيره متعمدًا، ظنًا منه أن هذا قد قتَل ولده أو أحدًا من صلحاء قومه، فهذه جريمة منكرة ولا شك، ولكن باعثها خير.

ثم هناك شخصٌ قتَل غيره ليسلب نقوده لينفقها على ملذاته الدنيوية، فهذه جريمة سيئة وباعثها أيضًا سيء، وبالتالي فقد ارتكب جريمتين: القتل والجشع، ولذلك فإنه يستحق عذابًا مضاعفًا.

وكذلك الحال للحسنات، فهي أيضًا على أنواع.

فبقوله أن علماء اليهود يُعذَّبون بسبب ما كتبت أيديهم، ويُعذَّبون أيضًا لأنهم فعلوا ذلك من أجل متاع الدنيا القليل، قد بيّن القرآن الكريم نكتة خُلقيةً رائعة ولطيفة، وفتح بها بابًا للعلم لمن أراد أن يتزود بالتقوى.

يستنتج النصارى من هذه الآية أن القرآن الكريم يعترف هنا بأن كتابهم المقدس كان محفوظًا في صورته الأصلية حتى زمن النبي ، ولولا ذلك لما اعترض القرآن على التحريف في كتاب كان محرَّفًا مبدَّلاً من قبل.

والجواب أولاً، أنني لم أفسر هذه الآية بأنها تتحدث عن تحريف الكتاب المقدس، لذلك فاستنتاجهم باطل وفي غير محله.

لكن هذا لا يعني أننا نقول بأن الكتاب المقدس كان سليمًا من التحريف والتبديل حتى زمن نزول القرآن الكريم. كلا، بل كان هذا الكتاب بحسب علمنا وتحقيقنا محرفًا عند نزول القرآن يقينًا، وإنما نعني بقولنا هذا أننا لم نفسر هذه الآية بهذا المعنى. والحق أن الكتاب المقدس قد صار محرّفًا حتى قبل زمن المسيح .

وثانيا، لو فسرنا الآية بهذا المعنى أيضًا، أي أنها تَتَّهم اليهود بأنهم كانوا يحرّفون كتابهم فليس معنى ذلك أن كتابهم كان سليمًا من التحريف والتبديل حتى زمن نزول القرآن الكريم، وإنما يكون مفهوم هذه الآية أن اليهود يحرّفون الكتاب المقدس. وأي عاقل يمكن أن يستنتج من هذه الجملة أنهم ما كانوا يحرفون كتابهم وأنه كان سليما من التحريف حتى زمن نزول القرآن الكريم؟

نعم، يحق لهؤلاء الكتّاب المسيحيين أن يقولوا: إذا كان الكتاب المقدس محرفًا، فما الحرج في تحريفه وتبديله، ولماذا يزجر القرآن اليهود على ذلك؟

والجواب: الحق أن اليهود كانوا قد بدأوا بالتحريف في الكتاب المقدس قبل نزول القرآن الكريم، ولكن استمرارهم في هذا التحريف كان أمرا سيئا ومشينا. أما الكتاب المقدس فلا بد من التسليم بأنه كتاب سماوي ولكنه محرَّف مبدَّل. ولكن لو كان هناك كتاب مِن صنع البشر مئة بالمئة، وظَنَّهُ أحد خطأً أنه كتاب سماوي، ثم حرفّه رغم عقيدته هذه، فلا بد أن يُعَدّ من المجرمين، ليس بمعنى أنه يحرّف كتابًا سماويًا، بل لأنه يحّرف كتابًا يحسبه كتابا سماويا. فقد قال القرآن الكريم صراحة: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (المنافقون:2)، أي أن المنافقين يأتون رسول الله ويقولون نحلف بالله إنك لرسول الله، ويقول الله تعالى إنك رسول الله يقينًا، ولكن المنافقين كاذبون في دعواهم هذه. فقد عُدَّ المنافقون هنا كاذبين في ادعائهم أمرًا كان حقًا وقد شهد الله بنفسه على كونه حقًا وصدقا، ذلك لأنهم لم يكونوا يؤمنون في قلوبهم بما تشهد به ألسنتهم. فكما أن من النفاق والكفر أن يتظاهر المرء بالإيمان بشيءٍ حقٍّ لا يؤمن به قلبه، كذلك فإن إدخال المرء تحريفات في كتاب محرّف سلفًا رغم إيمانه بأنه كلام الله تعالى دليلٌ على كفره، ولا شك أنه حري بأن يُحّذره الله تعالى في كتابه بسبب جريمته.

لا تقتل الأم ولدها وهي واعية، ولكن لو أن امرأة قتلتْ ولدًا مع إيمانها أنه ولدها وهو ليس ولدها في الواقع، لأيقنّا أنها مخبولة العقل، لأنها قتلته مع يقينها أنه ولدها وإن لم يكن ولدها حقيقةً. وبالمثل لا شك أن التوراة لم تكن محفوظة في زمن الرسول ، بل كانت محرفة مبدلة، ولكن اليهود كانوا يؤمنون أنها محفوظة وغير محرفة، وأنها من بدايتها إلى نهايتها كلام الله تعالى، وبالتالي فإن إخفاءَهم لمضامينها أو تحريفَهم لها، مع هذا الإيمان، دليلٌ بيّنٌ على سوء إيمانهم وقبح فعالهم.

وليكن معلومًا أيضا أنّ التوراة حتى في شكلها الحالي تتضمن آلاف الحقائق، فلو حرَّفوها اليوم أيضًا لألحقوا بالحق والصدق ضررا كبيرا.

وهناك معنى آخر لهذه الآية، وهو أن اليهود موقنون بأن التوراة ضاعت عند غزو الملك البابلي بختنصر لأورشليم، ثم ألّفها النبي عزرا من جديد. وهذا يعني أن تاريخ اليهود أيضًا يؤكد أن التوراة الأصلية لم يعُد لها وجود، بل إن بعض الناس -وإن كانوا أنبياء- كتبوها وألفوها من جديد، فكانت إذنْ بمثابة الأحاديث النبوية عند المسلمين، وكما أن الأحاديث النبوية لا يمكن تسميتها كتاب الله، كذلك لا يمكن تسمية تلك التوراة كتاب الله، إذ أنها صارت عرضة لاحتمال الخطأ، ولا سيما أن اليهود لم تكن عندهم قط عادةُ حفظ التوراة عن ظهر غيب، كما أن الشهادات الداخلية للتوراة تؤكد أنها ليست بشكلها الأصلي، بل أضيف إليها كثير من الزوائد والتفاسير والروايات الخاطئة. وعليه فيمكن أن تعني هذه الآية أيضًا أن اليهود يعرفون بأنفسهم حسب شهادة تاريخهم أن كتابهم لم يسلم من أيدي العابثين، ومع ذلك يصرّون على أنه كتاب الله تعالى. لا شك أنه كان كتاب الله في بادئ الأمر، ولكن بعد تعرضه للزيادة والنقص بأيدي المحرفين، لا يجوز تسميتُه كلام الله ووضعُه بإزاء كتاب هو كلام الله الخالص، فإن ذلك ظلمٌ وعدوان.

أما النصارى فقد ذهبوا أبعدَ من اليهود. إن الأناجيل كلها تسمى عندهم كلام الله تعالى، ولكنك لو فتحت كتابهم هذا وجدت مكتوبًا فيه: إنجيل متى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، ورسائل بطرس، ورسائل بولس، ورسائل كيت ورسائل كيت. فكيف يمكن أن تكون أناجيل البشر ورسائلهم كلامَ الله تعالى؟ لا جرم أنه يوجد في الأناجيل كلام الله أيضا، ولكن هذا لا يعني أنها كتاب الله، لأن الحقيقة أن البشر قد ألّفوا بكلماتهم بعض الأمور التي لم يسمعوها من الله تعالى مباشرة وإنما سمعوها من نبيهم، أو لم يسمعوها من نبيهم؛ وإنما استنتجوها مما سمعه الآخرون من كلام نبيهم. ومثل هذه الأمور أيضا لا تشكِّل من كتابهم أكثرَ من اثنين أو ثلاثة بالمائة، أما ما عدا ذلك فهو من بنات أفكارهم أو من روايات غير محقَّقة. فمن الظلم العظيم اعتبار مثل هذه الكتب على أنها كتب الله، ثم تأسيسُ دين عليها، ثم وضعُها بإزاء كتابٍ هو كلام الله تعالى يقينًا.

كما يمكن أن تكون في هذه الآية إشارةً إلى عشرات الكتب الأخرى الموجودة لدى اليهود والنصارى التي يعُدّونها من وحي الله تعالى، أو بمنزلة الكتب السماوية، ولكنهم بأنفسهم يشكّون في صحتها. فقد نشَر النصارى مجموعةً هذه الكتب باسم (أبُوكْرِيفا Apocrypha)، ويعدُّها مؤلّفوها أو بعضُ الفِرق المسيحيّة كُتبًا إلهامية، ولكن النصارى في مجموعهم لا يعدّونها كتبَ الله ولا يعتقدون أنها أناجيل حقيقية.

فالأمة التي تعترف بنفسها بأن عندها أناجيل تُعَدّ أسفارًا سماوية مع أنها ليست كذلك في الحقيقة، ألا يستوجب أبناؤها اللومَ؟ ثم أليس من واجب القرآن الكريم أن يزجر هؤلاء المجرمين ويكشف للعالم خطأهم ويحاول إصلاحهم؟

 

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ   (البقرة: 81)

 شرح الكلمات:

يخلف: أخلفَه ما وَعَدَه: قال شيئًا ولم يفعله (الأقرب).

التفسير:

تتحدث هذه الآية عن طائفة من اليهود كانوا يعتقدون أنهم لن يعذَّبوا عذابًا خالدًا مهما ارتكبوا من الذنوب لأنهم أولاد أحباءِ الله تعالى. والحق أن اليهود قد حذفوا من التوراة عقيدة الحياة بعد الموت كلية، فلا مجال للثواب والعقاب! لو قرأ المرء العهد القديم كله لم يجد فيه مسألة الحياة بعد الممات والجزاء والعقاب مذكورة بصراحة كما ذكرها القرآن الكريم، بل يتطلب الأمر إعمالَ الفكر والجهد الشديدين لاستنباط هذه المسألة من العهد القديم. كانت أغلبية اليهود تسأل الثواب كله في هذه الدنيا، وترى أن العقاب كله أيضًا فيها. غير أنه قد وُجدَت بينهم فئة قليلة لم يتحرروا كليةً من عقيدة الثواب والعقاب والحشر والنشر، وكانوا هم الآخرون يعتقدون أنهم لن يعاقَبوا كثيرا لأنهم أحباء الله، ولو عُذبوا فلن يكون عذابهم إلا أيامًا معدودة. وكان من هذه الفئة مَن يرون أنهم ينالون العقاب أياما معدودة ثم يتحولون إلى رماد يوضع عند أقدام الصلحاء. بينما كان يرى البعض الآخر منهم أنهم ينالون الغفران بعد عقاب محدود.

وفيما يلي أفكار اليهود المختلفة حول هذه العقيدة:

يذكر سيل (Seale) في ترجمته للقرآن الكريم أن من مسلَّمات اليهود أن أحدهم، مهما كان شريرًا، وأيا كانت فرقته أو طائفته، لن يبقى في الجحيم أكثرَ من أحد عشر شهرًا أو سنة على الأكثر، ما عدا ” داثان ” و”أبيرام” أو الملحِدين، فهؤلاء يعذَّبون عذابًا أبدًيا. لقد تمرَّدَ ” داثان ” و”أبيرام” على موسىى وحاول كلٌّ منهما القضاء على حُكمه بجمع شرذمة معه (سِفر العدد 16)، فأهلكهما الله بعذاب خاص.

وورد في كتابهم (التلمود البابلي) أن كل اليهود، ما عدا الكفار و”جير” و”بوم”، لن يمكثوا في الجحيم إلا اثني عشر شهرًا، ثم يحرقون ويصبحون رمادًا يُذَرّ على أقدام الصلحاء.

وجاء في تلمود “بافا ميزيا” (Bava Metzia) أن كل اليهود سيدخلون جهنم ثم سيخرجون منها، إلاَّ الزناة والهاتكين لحرمة الجيران والمسيئين إليهم.

وجاء في تلمود “أيروبين” (Erubin): لن تمسّ نار جهنم اليهودَ الآثمين، لأنهم سوف يعترفون بذنوبهم على أبواب جهنم، فيرجعون إلى الله تعالى.

وجاء في تلمود “بيراخوث”  (Berachoth) أن المرتدين والروميين والإيرانيين هم الذين سيدخلون جهنم، أي أن عصاة اليهود لن يدخلوها أصلا.

كما ورد في هذا المصدر نفسه أن هناك خطرًا ضئيلا جدا على بني إسرائيل من دخول جهنم، غير أن المرتد من اليهود عليه خطر كبير من دخولها، وكذلك هناك خطر دخول النار على غير اليهود (الموسوعة اليهودية).

تبيّن هذه الفقرات أن معظم اليهود كانوا يعتقدون أنهم لن ينالوا إلا عقابًا محدودًا جدا، وهذا هو المراد من كلمة أَيَّامًا مَعْدُودَةً . وقد قال صاحب “البحر المحيط” في تفسير هذه الآية أن اليهود كانوا يرون أنهم عبدوا العجل أربعين يومًا، فيعاقَبون في النار أربعين يومًا. وقد استكثر بعض منهم عذاب الأربعين يومًا وقالوا: لن ندخل النار إلا سبعة أيام. وهذا دليل على وجود مثل هذه الأفكار عندهم حتى العصر الإسلامي أيضا.

فيقول الله تعالى للنبي : قل لهم هل أخذتم من الله عهدًا بهذا الشأن؟ إذا كان الأمر كذلك فلن يخلف الله عهده. اعلموا أن العقاب أو عدمه بيد الله تعالى وحده، وليس بأيدي كهنتكم ورهبانكم حتى يحكموا بما يشاءون. إذا كان الله تعالى قد عقد معكم عهدًا كهذا فلا بدّ أن يكون موجودا في التوراة، ويجب أن يعلنه موسى أو غيره من الأنبياء، ولكنهم كلهم ساكتون عنه، إنما يتكلم به علماء التلمود بحسب اجتهاداتهم أو أمانيهم وأهوائهم. أليس هذا يمثِّل إساءة بحق الله تعالى ودينه؟

ثم يقول: إذا لم يكن هناك عهد كهذا من الله تعالى، فهذا يعني أن علماءكم لفَّقوا هذه الأفكار من عند أنفسهم، والافتراء على الله معصية كبرى.

الواقع أن فساد شتى الأديان راجع إلى هذه المفتريات التي اختلقها الناس بناء على أفكارهم وظنونهم ونسبوها إلى أديانهم كذبًا وزورًا. والمسلمون أيضا في هذا العصر كلما اختلفوا فيما بينهم في أمر من أمور دينهم دعموا رأيهم بتلفيق شيء من عند أنفسهم ونسبوه إلى الإسلام. ولكنّ كلاً من القرآن والحديث لم يتطرقا ولو بإشارة من بعيد لما يدَّعي هؤلاء، ولكنهم لا يبرحون يرددون أن الإسلام يقول كذا وكذا. ندعو الله تعالى أن يوفق المسلمين لأن يتنبهوا إلى هذا العيب، فلا يتلاعبوا بالقرآن الكريم ولا يأخذوا في أيديهم ما هو حقٌّ لله وحده.

بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة: 82)

 شرح الكلمات:

بلى: حرفُ تصديقٍ مثلَ “نَعَمْ”، وأكثرُ ما تقع بعد الاستفهام، وتختصّ بالإيجاب، سواءٌ كان ما قبلها مُثبتًا أو منفيًا، نحو: أقام زيد؟ الجواب بلى، أي قام. وأَمَا قام زيد؟ والجواب بلى أي قام. (الأقرب)

كسَب: كسَب الشيءَ: جمَعه. كسبَ الإثم: تحمَّلَه. (الأقرب)

التفسير:

(بلى) حرفُ تصديقٍ لما بعده، سواء كان ما قبله إيجابا أو نفيًا. فمعنى قوله تعالى بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ : لا شك أن من ارتكب سيئة متعمدًا، ثم غلبت عليه خطاياه بحيث يضعف فيه تأثير الخير ويضيع منه، فإنه يدخل النار، ويبقى فيها مدةً طويلة.

ويشير كسبُ السيئة وإحاطةُ الخطيئة بفاعلِها إلى أن مجرد ارتكاب الخطيئة لا يُدخل صاحبَها النارَ، بل لا بد مِن ارتكاب الخطيئة مع توافر العلم والإرادة وغلبة الخطايا عليه. وهذا هو التعليم الحكيم الذي يرتاح إليه قلب الإنسان، أما عقيدة الكفارة المسيحية القائلة أن مَن آمن بالموت الصليبي للمسيح غُفرت له ذنوبه كلها؛ أو دعوى اليهود بالأفضلية على الآخرين التي ستحفظهم من العذاب في كل حال، أو عقيدة الهندوس بالنجاة المحدودة التي تلقي بالإنسان في دورة التناسخ غير المنقطعة؛ أو عقيدة الزرادشتيين عن التمايز النسلي، فهذه كلها معتقدات غير سليمة. يعلن القرآن الكريم أن الدين وسيلة للنجاة، ولا يعني إيمان المرء بالدين أنه قد نال بذلك حقوقًا خاصة، كلا، بل تتأسس النجاة على اعتقاد سليم ونية حسنة وسعي صادق. العقيدة تساعد على النجاة، ولكنها ليست ضمانًا للنجاة، بل إنها تتسبب في عقاب المرء أحيانًا؛ لأن من أخطأ عن علمٍ استوجب عقوبةً أشدَّ، ومَن ضلّ رغم توافر أسباب الهداية كانت جريمته أكبرَ. فلا تظنوا أنكم باعتناق الدين نجوتم من العقاب، وإنما يوجهكم الدين إلى أعمال وأفكار تساعدكم على النجاة، أما إذا لم يُصلح دينكم أعمالَكم وأفكاركم فهذا ليس مدعاةً للاطمئنان، بل هو مظنة للخطر.

ما أقربَ هذه النظريةَ إلى الفطرة الإنسانية، وما أسماها عن أي اعتراض!

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة: 83)

التفسير:

قد ذكر الله تعالى من قبل أحوال أصحاب النار، أما الآن فذَكَر أحوال أصحاب الجنة، وبيّن أنه كما أن هناك شرطًا يوجب عقاب النار، وهو ارتكاب السيئة مع العلم والإرادة وغلبة الشر على الخير، كذلك فإن هناك شرطًا يوجب نعيم الجنة أيضًا، وهو الإيمان والعمل الصالح بحسبه.

لقد ذكرتُ من قبل أن اعتناق دين أو عقيدة ليس ضمانًا للنجاة، وإنما يساعد ذلك على تحقيقها، وفي هذه الآية قد بيّن الله تعالى أن الذين يؤمنون ويعملون عملاً صالحًا يدخلون الجنّة.

وقد يتساءل هنا أحد: هل يعني هذا أن العمل الصالح لا ينفع الإنسانَ بدون الإيمان؟

والجواب أنه ليس صحيحًا القول أن العمل الصالح بدون الإيمان لا ينفع، وإنما الصحيح أن العمل الصالح لا يتأتى بدون الإيمان. فإن إعمال الفكر سيكشف لنا أن العمل لا يعني فقط فعل شيء بالجوارح، بل إن نشاط العقل أيضًا عمل. فلو أن الإنسان أراد بأحد سوءًا أو خيرًا، فإن نيّته هذه أيضا عملٌ في حد ذاتها، وإن لم يخرج إلى حيّز التنفيذ. فمثلا لو كان قلب الإنسان مليئًا بأفكار شريرة أو نوايا سيئة ضد الآخرين، فمثلا يحسد الناسَ ليل نهار ويريد بهم الشر، فلا يمكن أن نبرئه من سوء العمل، وإنما نقول أنه لم يتمكن من تنفيذ شره بيده وجوارحه، ولكنه كان ذا عمل سيئ فعلاً.

والحق أن القرآن الكريم يبين أن التعريف الصحيح للعمل الصالح لا يكون إلا بمعونة الله ورسوله، وعليه فبدون الإيمان لا يستطيع الإنسان معرفة العمل الصالح. ولكن هذا لا يعني أن القيام بالعمل الصالح ولو بقدر ضئيل مستحيل بدون الإيمان، كلا، بل هناك مئات الأنواع من العمل الصالح التي يمكن أن يفعلها الإنسان بدون الإيمان، ولكننا نتحدث هنا عن التعريف الكامل للعمل الصالح، ولا جرم أن التعريف الصحيح الكامل للعمل الصالح محال بدون الإيمان.

ثم إن القرآن الكريم يذكر نتيجتين للعمل الصالح: إحداهما أن الإنسان ينال ثمار أعماله الصالحة في هذه الدنيا، وكذلك الحال بالنسبة للأعمال السيئة. فالصادق يُذاع صيتُه، والكاذب تسوء سمعته. والصادق يثق به الناس، والكاذب يفقد الثقة عند القوم. والأمين يُقرِضه الناس بل يتركون عنده أماناتهم فينتفع بها. والمجتهد ينال العمل والوظيفة بسهولة وينال راتبًا أعلى، ولكن الخائن لا يؤتمن ولا يقترب منه أحد. باختصار، هناك أعمال حسنة كثيرة ينال المرء في هذه الدنيا جزاءها، ولكن آيتنا هذه لا تتحدث عن الثواب الدنيوي أو النتيجة الدنيوية، وإنما تتحدث عن نيل الجنة. وينشأ هنا السؤال: ما دام الإنسان قد نال في الدنيا الجزاء على عمله الصالح، فلِمَ ينال ثواب الجنة أيضًا؟ إذًا، لا بد لنيل الجنة مِن أن يكون قد قام مع عمله الحسن بعمل آخر طاعةً لله تعالى، وهذا العمل الآخر هو الإيمان، ولأجل ذلك كان الرسول يؤكد ضرورة الإيمان كلما ذكر عملاً يُدخل الجنة قائلا: مَن فعل كذا إيمانًا واحتسابًا. ومعنى ذلك أن الإنسان ينال الأجر الدنيوي على عمله في هذه الدنيا، أما نيل الأجر الأخروي فلا بد له مِن عمل زائد، وهو الإيمان. إن الذي يصدق في كلامه ينال الأجر الدنيوي صيتًا حسنًا ونجاحًا وازدهارًا، ولكنه لو صدق في قوله إيمانًا بالله وطاعةً له فقد عَمِلَ عملينِ: قولُ الصدق، والسعيُ لإرضاء الله تعالى بطاعته. وقد نال الجزاء الدنيوي على عمله هذا، ولكنه لم ينل في الدنيا جزاءه على قيامه بهذا العمل طاعةً لله وابتغاءَ مرضاته تعالى، ولذلك سينال هذا الجزاء في الآخرة في صورة الجنة.

عندما يقوم المرء بعمل صالح لوجه الله تعالى، فإن عمله هذا ينفع الناس، فيعطونه جزاءه المحدود بحسب وسائلهم المحدودة في هذه الدنيا، ولكن هذا الجزاء المحدود لا يمكن أن يسمى جزاءً على عمله هذا الذي قام به لوجه الله تعالى، بل إن جزاءه هذا على الله تعالى، ولأن وسائل الله تعالى غير محدودة، فيعطيه جزاءه هذا بجنة غير محدودة.

فشرط الإيمان الذي جعله الله هنا مع العمل الصالح لا يقلّل من قيمة العمل الصالح، وإنما يبين أن العمل الصالح إذا صار مقرونًا بالإيمان زادت قيمته، فلا يُجزَى عليه المرء في هذه الدنيا فقط، بل ينال جزاءً ثانيًا في الآخرة أيضًا. فثبت خطأ الذين يقولون أن الإسلام يقلل من قيمة العمل الصالح بجعله مشروطًا مع الإيمان. إن الإنسان يعمل العمل الصالح مع الناس، فيردون له صنيعه هذا في نطاق استطاعتهم في الدنيا، ولكن القرآن الكريم يتحدث عن العمل الصالح الذي يتم لوجه الله تعالى. لا يقول القرآن الكريم أن العمل الصالح يجب أن يكون بدون جزاء ما لم يكن مقرونا بالإيمان. كلا، بل يركز القرآن الكريم على أن الأعمال الصالحة التي يعملها المرء مع الناس مِن واجبهم أن يجزوه عليها، كما أن نواميس الطبيعة أيضا تدبّر له جزاء مناسبا، ولكن الآية قيد التفسير وغيرها من الآيات تبين أمرًا إضافيا، ألا وهو أن الإنسان إذا كانت نيته عند قيامه بعمل صالح أنه يفعله إرضاءً لله تعالى، واضعًا في الحسبان صورة واضحة للعمل الصالح نتيجةَ إيمانه بالله ورسوله ونور تعاليمه، فلا بد أن تكون مكافأته أعظمَ مِن مكافأةِ شخص يعمل العمل الصالح لخير الناس فقط، ويجب ألا ينال الأول جزاءَ عمله في الدنيا فحسب، بل يجب أن يناله في الآخرة أيضًا، لأنه ربط العملَ الصالح بالإيمان وبرضا الله تعالى، لذا فلا بد أن تزداد مكافأته كميةً وزمنًا.

العمل الصالح: كلما ذكر القرآنُ الكريم العملَ أشاد بالعمل الصالح، أي العمل المناسب للظرف، مثلاً الصلاة في وقتها، والصوم في حينه، والزكاة في وقتها، والجهاد في حينه. فالعمل الحسن وحده لا يكون نافعًا، إنما العمل الحسن الذي يكون ملائما للظرف هو ما يكون نافعًا.

كما نبّهنا القرآن الكريم بذكر العمل الصالح أن العمل الحسن يصبح سيئًا في بعض الظروف، كالرحمةِ في موقف يقتضي الانتقام، والانتقامِ في ظرف يقتضي الرحمة. فمع أن الرحمة أمرٌ حسن، ولكنها لا تكون عملاً صالحا في موقف يقتضي الانتقام، بل تصبح عملاً غير محمود. أو خذوا الصلاة مثلا، فهي عمل حسن، لكن المرء لو بدأ الصلاة وقت القتال فلن تكون عملاً صالحا ولن تكون نافعة.

وقد أشارَ القرآن الكريم بذكر (أصحاب الجنة) بعد ذكر (أصحاب النار) إلى أن كلاً من أهل النار وأهل الجنة نوعان: فمن أهل النار مَن يعذَّب عذابًا مؤقتًا، ومنهم مَن يعذَّب عذابًا طويلاً؛ ومِن أهل الجنة من ينال نعيمًا عارضًا، ومنهم مَن ينال نعيمًا أبديًا، ذلك لأن كلمة (أصحاب) تدل على معنى الدوام، فهناك أناس تكون فترة مكثهم في الجحيم أقلّ من الأولين، أو فترة مكثهم في الجنة أقلَّ من المذكورين أولا. ويتبين من القرآن الكريم أن أهل العذاب المؤقت أو أهل الجنة المؤقتة سوف ينالون قسطًا من العذاب أولاً، ثم بعد ذلك يشملهم الغفران الرباني فيدخلون الجنة الأبدية.

فـأصحاب الجنة هم قوم يدخلونها من أول يوم، وإلاَّ فكل إنسان سوف يدخل الجنة آخر الأمر.

ولكن تعاليم الآرية الهندوس هي على عكس ذلك؛ فهم يظنون أن الله تعالى سوف يعذب الناس أولاً، وقبل اكتمال العذاب على ذنوبهم كلها يبدأ في الإنعام عليهم، ويستمرّ في الإنعام بعض الوقت، ثم يبدأ في عقابهم ثانية على ما استبقاه من ذنوبهم، فيعذبهم بخلقهم بصورة مخلوق آخر. وهذا التعليم ينمّ عن بُغض وحقد، وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك