- لقد شبه الله تعالى السماء المادية بالسماء الروحانية تارة وشبه أيضا الوحي بالماء لبيان التشابه بين تأثيراتهما.
- لقد شبه الله تعالى سيدنا محمد بأنه شمس العالم الروحاني والأنبياء والصالحين هم نجوم وشهب العالم الروحاني.
- في السماء المادية فساد النجوم يعني فساد تلك السماء كذلك في السماء الروحانية فإن أراد أحد إفساد النجوم الروحانية فإن الله يرجمه بالنار والحجارة وهي الشهب الروحانية .
- مما يؤكد أيضا بأن القرآن شبه النظام الروحاني بالنظام الشمسي قصة سيدنا يوسف عندما رأى أحد عشر كوكباً.
- الصحابة كالنجوم نستطيع الاستدلال بهم هم أيضا بدلالة حديث رسول الله صلى عليه وسلم.
يُقصد بمن استقرق السمع في هذه الآية هؤلاء الذين يسرقون الكثير من أفكار وتعاليم القرآن الكريم الجوهرية ويدعون أنها منهم.
شرح الكلمات:
استرقَ: افتعال مِن سرَقه ومنه الشيءَ: أخذه خفيةً مِن حِرْزٍ. والسرقة أخذُ الشيء في خفاء وحيلة. واسترقَ السمعَ: استمع مستخفيًا. واسترقَ الكاتبُ بعضَ المحاسبة: لم يُبرِزه. (الأقرب)
السمع: سمِع الصوتَ يسمَع سمعًا: أدركه بحاسة الأذن. السمع: حسُّ الأذن؛ ما ولَج فيها من شيء تسمع؛ الذِّكر المسموع. ويكون للواحد والجمع، لأنه في الأصل مصدر فيحتمل القلةَ والكثرةَ بلفظ واحد، وجمعه أسماع (الأقرب).
السمع: قوةٌ في الأذن به يُدرك الأصوات، وفعلُه يقال له السمعُ أيضًا. ويعبَّر تارةً بالسمع عن الأذن نحو: ختَم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وتارةً عن فعله كالسَّماع نحو: إنهم عن السمع لمعزولون، وتارةً عن الفهم كقولهم: لم تسمع ما قلت، وتارةً عن الطاعة (المفردات).
أَتبعَه: تبِع الشيءَ: سار في أثره. وتبِعه: مشى خلفَه، أو مر به فمضى معه. وأتبعه: تبِعه وذلك إذا كان سبَقه فلحِقه (الأقرب).
شِهاب: شعلة من نار ساطعة، أو كل مضيء متولد من النار؛ ما يُرى كأنه كوكب انقضَّ؛ وقد يُطلَق على الكوكب أو الدراري من الكواكب لشدة لمعانها. ويقال إن فلانًا شهابُ حرب، إذا كان ماضيًا فيها. وتُطلَق الشهبُ على ثلاث ليال من الشهر وهي الليالي البِيض (الأقرب).
فالشهاب يُطلَق مجازًا على الأشياء المضيئة، وكذلك على الناس النشيطين الماضين في الأعمال.
وجاء في المفردات: الشِّهاب: الشعلةُ الساطعة مِن النار الموقدة، ومِن العارض في الجو.
التفسـير:
البروج التي مفردها برج تعني – كما ورد في القواميس – منازل النجوم أي المدارات التي تتحرك فيها هذه الأجرام. كما تعني أيضًا القصور والقلاع. ولكن بعض المفسرين بما فيهم قتادة قالوا أن “البروج” هنا بمعنى الكواكب (البحر المحيط، الدر المنثور، وابن كثير). وقد أيد الإمام اللغوي الزجّاج هذا الرأيَ (تاج العروس). ودليل المفسرين هو قول الله تعالى في مكان آخر: إنّا زيّنّا السماءَ الدنيا بزينةٍ الكواكبِ (الصافات: 7).
ولكن استدلالهم هذا من قوله تعالى إنّا زيّنّا السماء الدنيا بزينةٍ الكواكبِ ليس مما يمكن الجزم به، إذ قد يكون قوله تعالى وزيّنّاها للناظرين حول موضوع آخر، وهو أننا قد جعلنا في السماء منازل كما جعلنا فيها النجوم التي تتحرك في هذه المنازل والتي تتسبب في زينة السماء. فما دمنا لا نستطيع الجزم بأن البروج هي سبب الزينة، فليس هناك ما يدفع إلى أخذ البروج بمعنى الكواكب.
على أية حال، فسواء أخذوا البروج بمعناها المتعارف وهو منازل النجوم أم بمعنى النجوم نفسها فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما هي العلاقة بين حماية القرآن أو الأسفار السابقة وبين حفظ السماوات، ولماذا أردف الله موضوعَ حفظ الوحي بذكر حفظ السماء؟
إن آراء المفسرين في هذا الشأن متضاربة، وبعضها لا يخرج عن كونه قصصًا وأساطير لا يقوم عليها دليل، ولا علاقة لها مطلقًا بكلام الله تعالى. وسوف أعلّق عليها وعلى الروايات الأخرى الواردة في هذا الصدد بعد قليل، أما الآن فأود بيان ما فهمتُه من هذه الآيات في ضوء السياق القرآني.
نعرف من دراسة القرآن الكريم أنه يؤكد بكل قوة وجودَ مماثلة كبيرة بين النظام المادي البادي لأنظارنا وبين النظام الروحاني، ولذلك لا ينفك يسوق أمثلة من العالم المادي لشرح العالم الروحاني. فتارةً يشبّه الوحيَ بالماء لبيان التشابه بين تأثيراتهما، وتارةً أخرى يتحدث عما يوجد بين السماء والأرض من صلات ليسلّط الضوء على العلاقة الموجودة بين الجسم والروح، وحينًا يستدل بالعلاقة الموجودة بين الضوء والعين على أن الحق وحده لا ينفع أحدًا بدون أن يستغل القدراتِ الكامنة في النفس البشرية. وبالاختصار.. فإن القرآن ينبّهنا مرة بعد أخرى لتلقّي الدروس الروحانية من ظواهر العالم المادي. وفي هذه الآية أيضًا يلفت أنظارنا إلى مماثلة كهذه.
إن أهل الأرض يرون فوق رؤوسهم سماء فيها الكواكب التي تعمل بحسب نظام المواعيد والمنازل المحددة لها. وليس هنا من قوة تستطيع تبديل هذا النظام، لأن الله قد تولى حفظه. وقد ضُرب مثال نظام السماء المادية هذا في القرآن مرة بعد أخرى تدليلا على نظام السماء الروحانية. وأرى أن هذه الآية أيضًا تشير إلى الأمر نفسه.. حيث يوضح الله تعالى أن نظام السماء الروحانية قائم على أسس متينة شأن نظام السماء المادية، كما أنه مقسوم مثله إلى عدة طبقات، وأن الطبقات العليا من السماء الروحانية محفوظة بطبيعة الحال من وصول أيدي العابثين إليها، وأما الطبقة الدنيا منها فهناك احتمال للعبث بها، فحفظناها بتزيينها بالنجوم. أي كما أن الطبقة الدنيا من السماء المادية عبارة عن نظام وعن أجرام تابعة له وحامية له.. كذلك الحال بالنسبة للطبقة الدنيا من السماء الروحانية.. فإنها أيضًا عبارة عن نظام وعدة نجوم تابعة له وحامية له. وكما أن السماء المادية قائمة بسبب النجوم المادية ..كذلك فإن السماء الروحانية قائمة بسبب النجوم الروحانية، بل وكما أن السماء المادية الدنيا لا تعني إلا مجموعة نجوم وهي التي تزينها.. كذلك فإن السماء الروحانية الدنيا لا تعني إلا مجموعة نجوم روحانية وهي التي تزينها. ثم كما أن النجوم المادية وسيلة لحماية السماء المادية الدنيا، إذ هي جزء منها وفسادها يعني فساد نظام تلك السماء.. كذلك فإن النجوم الروحانية سبب لحماية السماء الروحانية الدنيا، وفسادها يعني فساد تلك السماء، ولذلك حين ينوي أحد أن يفسد فيها فإن الله تعالى يرجمه بالأحجار والنار.. كما تشير إلى ذلك كلمتا (رجيم) و(شهاب).
وقد استعمل القرآن الكريم النارَ والأحجارَ بمعنى العذاب السماوي بكثرة، فقال فاتقوا النارَ التي وقودها الناس والحجارة أُعدّتْ للكافرين (البقرة: 25).. أي أن السبب الروحاني لإشعال تلك النار هم الآثمون من الناس، وأما السبب المادي لها فهي الأحجار المادية من صنم ووثن. كذلك عبّر هنا عن عذاب هؤلاء المفسدين في السماء الروحانية بكلمتي رجيم و شهاب .
والآن أسوق الأدلة على أن القرآن الكريم قد شبه العالم المادي بالعالم الروحاني. يقول الله يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا * وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا (الأحزاب: 46-47).. ومعنى السراج المنير هو الشمس المشرقة. وكما هو بيّنٌ من الآيات الأخرى فإن النبي هو بمثابة المركز لنظام النبوة شأنَ الشمس التي تُعتبر مركزا لنظامنا الشمسي. فقد نبّه الله بتسمية النبي بالشمس إلى وجود نجوم وأقمار أخرى تدور حوله في السماء الروحانية، وهذه النجوم والأقمار هم الأنبياء والرسل الآخرون الذين كانت نبواتهم إرهاصًا وتمهيدًا لبعثه ، والذين يطوفون حول الشمس المحمدية.
وكما أن النبي كان بمثابة شمس في السماء الروحانية الكونية نجومها الأنبياء الآخرون، كذلك كان شمسَ سماءٍ أخرى هي أصغر من الأولى، وكان صحابتُه هم النجوم فيها، كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف: “أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم” (المشكاة: الآداب، باب مناقب الصحابة). أي أن أصحابي هم بمنـزلة النجوم حول الشمس، وكما أن النجوم تهدي الناس ما دامت مرتبطةً بنظامها الشمسي، كذلك فإن أصحابي الذين سيظلون مرتبطين بنظامي سيعملون لكم عمل النجوم، وستهتدون باتباع أي واحد منهم، رغم الاختلاف الهامشي فيما بينهم.
ومما يؤكد أن النظام الروحاني قد شُبّه في لغة الوحي بالنظام الشمسي ما رآه سيدنا يوسف في رؤياه حيث جاء إذ قال يوسف لأبيه يا أَبَتِ إني رأيتُ أَحَدَ عَشَرَ كوكبًا والشمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجدين (يوسف:5). ثم ذكر القرآن تعبير هذه الرؤيا كالآتي: ورفَع أَبَوَيه على العرشِ وخَرُّوا له سُجَّدًا وقال يا أَبَتِ هذا تأويلُ رُؤياي مِن قبلُ قد جعَلها ربي حقًّا وقد أحسَنَ بي إذ أخرَجَني مِن السجنِ وجاء بكم مِن البَدْوِ مِن بعد أن نزَغَ الشيطانُ بيني وبين إخوتي إن ربي لطيفٌ لما يشاءُ إنه هو العليمُ الحكيمُ (يوسف:101). هذه الرؤيا، مع تعبيرها الذي بيّنه القرآن، توضح جليًّا أن النظام العائلي أو الديني يشبَّه بالنظام الشمسي في لغة الوحي. وهذا هو المراد عندي من الآية التي هي قيد التفسير.
بعد هذا الكلام التمهيدي أقول: حين أكد الله حمايته لما أنـزله على رسوله من الوحي، أتبَعَه بتمثيل النظام الشمسي.. ليبين لنا كيف ستتم حمايته. فقال: كما ترون هناك في العالم المادي سماءً أي مجموعة من النجوم.. كذلك توجد في العالم الروحاني مجموعة من النجوم وهي الأنبياء. وكما أن النجم يشكل في حد ذاته زينةً للسماء المادية، وسببًا لحمايتها عبر قانون الجاذبية وغيره من النواميس التي لم يطلع عليها البشر بعد.. كذلك فإن كل نبي هو زينة للسماء الروحانية وسببٌ لحمايتها. فما من نبي إلا وقد جاء عند الحاجة، وفي الموعد المناسب، وبغاية معينة ما كانت لتتحقق إلا بمجيئه؛ وقد ساهم في حماية السماء الروحانية، عاملاً على نشر كلام الله تعالى، وموضّحًا بشخصه وبأتباعه حقيقةَ الوحي وفضلَه وتأثيره، وهَزَمَ أعوان الشيطان الذين أرادوا أن يفسدوا كلام الله وأذلّهم وأخزاهم؛ وكأنه سقط عليهم كالنار والأحجار.
هذا، وقد أخبر الله تعالى في هذه الآية أيضًا أنه مما لا شك فيه أن الشياطين أي أهل السوء.. يملكون في العالم المادي بعض التصرف والسلطة في الأرض، ولكن لا سلطة لهم في السماء؛ فتجدونهم في الأرض يفسدون ويظلمون أهلها ويستولون على نعمها وخيراتها، بيد أنهم لا يقدرون على حرمان الناس من النعم التي تنـزل من السماء من هواءٍ وضوءٍ وتأثير للأجرام، كما لا سلطة لهم في السماء ولا تصرف لهم في شمسها وقمرها ونجومها. كذلك الحال في العالم الروحاني، إذ لا سلطة ولا تأثير للشياطين على الأنبياء وأتباعهم الكاملين، وهذا ما أكده الله في موضع آخر في هذه السورة نفسها بقوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (الحجر: 43). كما أنه من المستحيل أن يتصرفوا فيما ينـزل من السماء الروحانية من بركات كالوحي والآيات والمعجزات، بل يصون الله السماءَ الروحانية أي الأنبياءَ وتأثيراتهم مِن تدخُّل الشياطين كليةً. وكأن هذه الآية شرح لقوله تعالى إنا نحن نـزلنا الذكرَ وإنا له لحافظون .
الغريب أنه – بالرغم من هذه الآية القرآنية الصريحة – لا زال بين المسلمين من يعتقد أنه لم ينجُ أحد من مس الشيطان إلا عيسى وأمه مريم! (القرطبي، تحت الآية: وإني أعيذها بك وذريتَها…)؛ مع أن الله تعالى يعلن هنا حماية السماء الروحانية التي تشمل جميعَ الأنبياء والرسل من آدم إلى رسولنا الكريم – عليهم السلام – وأتباعَهم الكاملين.
وتقول الآية التالية: إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين .. وهي أيضًا تؤكد أن الله تعالى إنما يتحدث هنا عن السماء والنظام الشمسي على سبيل التمثيل لا على وجه الحقيقة، إذ لا علاقة بين السماء المادية وبين استماع الكلام سرًّا وخفيةً؛ كما لا وجهَ لورود كلمة الشهاب هنا موصوفة بصفة (مبين)، لو كان المقصود شهابًا ماديا، لأن الشهاب لغةً: “هو شعلة من نار ساطعة؛ أو كلّ مضيء متولد من النار وما يُرى كأنه كوكب انقضّ”. ووصف هذين الشيئين بصفة المبين هنا غير مستساغ وفي غير محله لو أخذنا الكلام على ظاهره.
ولكن لو اعتبرنا (السماء) سماء روحانية وأخذنا (الشهاب) بمعنى النبي الذي يأتي مؤيَّدًا من السماء بالآيات البينة، ويكشف زيف الذين يريدون العبث بكلام الله تعالى.. لوجدنا صفة (مبين) ملائمة جدًّا في هذا السياق، لأن الشهاب المبين يعني عندئذ الآية البينة، وسيكون مفهوم هذه الآية أن الوحي الإلهي يكون مصونًا ومحفوظًا تمامًا ما دام في السماء أو حينما ينـزل على أجرام السماء الروحانية.. أي الأنبياء.. ولكن بعد أن ينـزل إلى السماء الدنيا ويُعرَض على البشر، ويخرج من غطاء الغيب إلى حيز الحاضر المشهود، ويصير كلامًا مسموعًا تتناقله ألسنةُ الناس.. فإن الشياطين أي أعداءُ الأنبياء يسرقونه.. بمعنى أنهم يتلقونه بغير حق أي يأخذونه مأخذاً غير حقيقي ويحرّفونه، فعندئذ ينـزل عليهم العذاب بواسطة الأنبياء عقابًا على جريمتهم، أو أن الأنبياء وأتباعهم يكشفون زيف هؤلاء أمام الدنيا بتوضيح المراد الحقيقي من الوحي، فيقعون في عذاب مهين حينما يفضحهم نور الحقيقة ويهتك سترهم.
فالمراد من سرقة الكلام هنا أن هؤلاء يأخذون وحي الله بغير حق شأن السارق الذي يأخذ مال غيره بدون حق.. بمعنى أنهم لا يتلقونه بقصد فهمه والإيمان به، بل ليسيئوا استخدامه، ويحرّفوه ليصدّوا الناس عن الحق.
ومن معاني سرقة الوحي أيضًا أن المعارضين يختارون بعض تعاليم الأنبياء ويعزونها إلى أنفسهم إيهامًا للناس أنهم أيضًا قادرون على الإتيان بمثل تلك المعارف والعلوم، بل إنهم يتهمون الأنبياء أنهم هم الذين قاموا بسرقة تعاليمهم هم. ولكن كما أن الثوب المسروق يُعرف على الفور إذ لا ينسجم تمامًا مع جسم السارق.. كذلك فإن ما يسرقونه من تعاليم الأنبياء لا يتفق مع معتقداتهم الأخرى الخاطئة، وحينما يكشف الأنبياء وأتباعهم حقيقة الأمر يُفتضح هؤلاء أمام الناس.
ولطالما تعرضت تعاليم الأنبياء إلى السرقة بنوعيها المذكورَين أعلاه. فانتقى الناس أفضل تعاليم الأنبياء وحاولوا تقديمها إلى الدنيا على أنها من عندهم، ساعين الحطَّ من شأن الأنبياء وعظمتهم. وكان تعليم الرسول الكريم أكثر عرضةً لهذه الحملة الشعواء من تعاليم الأنبياء الآخرين. فكم من مرة يحاول الكتّاب المسيحيون والآريون الهندوس عرضَ تعاليم القرآن على الناس بصورة مبتورة ليُثبتوا أنها مسروقة من كتبهم السماوية، ولكنهم يرون خيبة الآمال ويُفتضحون حينما نكشف لهم النور الذي أتى به نبينا الكريم ، ونُثبت لهم أن ما يعترضون عليه هو حلقة من سلسلة طويلة من المعارف القرآنية الواسعة الكثيرة التي لم تخطر لهم على بال حتى في الحلم. وكان صاحب “ينابيع الإسلام” المسيحي أحد هؤلاء المهاجمين الشرسين إذ اختطف بكل جسارة ووقاحة كثيرًا من المعارف القرآنية، لكي يُثبت للناس أنها مسروقة من كتب الديانات السابقة. والحق أن تلك المعارف أُخذت مبتورةً عن السياق، وكانت جزءًا من كلٍّ لا يمكن أن يتجزأ، وحلقاتٍ منسلكة في سلسلة لا يمكن فكُّها منها وتركيبها في شيء آخر. ومن أراد التأكد من قولي فليرجع إلى تفسيري لسورة “الفاتحة” حيث فصّلتُ معارف البسملة التي يزعم صاحب “ينابيع الإسلام” أنها مسروقة من الكتب الزرادشتية. (انظر ينابيع الإسلام: الفصل الخامس ص 219)
فإن النبي هو بمثابة المركز لنظام النبوة شأنَ الشمس التي تُعتبر مركزا لنظامنا الشمسي. فقد نبّه الله بتسمية النبي بالشمس إلى وجود نجوم وأقمار أخرى تدور حوله في السماء الروحانية، وهذه النجوم والأقمار هم الأنبياء والرسل الآخرون الذين كانت نبواتهم إرهاصًا وتمهيدًا لبعثه ، والذين يطوفون حول الشمس المحمدية.
والنوع الثاني من سرقة الوحي، كما بينت من قبل، هو أن المعارضين يختطفون منه أجزاء مبتورة عن السياق ليَعرضوها على الدنيا بمفهوم محرَّف معاكس للمراد تمامًا.. وقد تعرض له أيضًا وحي سائر الأنبياء. فما من نبي إلا وعرض الأعداء وحيه على الناس بصورة مشوهة محرفة، ليثيروا مشاعر القوم ضده. يختطفون وحيه كاللصوص وينشرونه بين الناس بمفهوم محرف فاسد، إلى أن يأتي الله لنصرة نبيه بالآيات البينة والمعجزات الخارقة، فيبطل مطاعن المعترضين بالبراهين الساطعة، ومن جهة أخرى يؤيد رسوله بالآيات الدالة على قدرته وقهره، فيُهلك الأعداء ويحمي كلامه .
وأحيانًا ينحرف أتباع النبي أنفسهم عن دينه وتسُودهم اللادينية، فيُفسدون الدين الأصلي.. حيث يحرّفون معاني ما نزل على نبيهم من كلام الله تعالى، ويُخفون محاسنه تحت غبار التفاسير الخاطئة. وحينئذ ينـزل أحد من أتباع النبي كـ”شهاب ثاقب” أو “شهاب مبين” من السماء الروحانية مشرَّفًا بالوحي ومؤيَّدًا بالآيات البينات، لكي يُهلك هؤلاء الشياطينَ، ويعيد الأمور إلى نصابها؛ فيعود بالوحي السابق إلى مقامه الأصلي؛ وهكذا يحمي الله كلامه الذي أصبح عرضةً للضياع والتحريف، ويكشف للدنيا مفاهيمه الحقيقية ثانيةً.
يتضح مما سبق بيانه أن المراد من النجوم في هذه الآيات هم الأنبياء، وأن الشهاب المبين أو الشهاب الثاقب هو نبي العصر الذي يقع فيه التحريف. ذلك أن كل نبي نجمٌ روحاني لا يزال يتسبب في زينة السماء الروحانية، ولكن لا يبقى كل نبي بعد وفاته شهابًا، أي سببًا في هلاك الشياطين الذين يعيثون فسادًا في حديقة الدين، وإنما يقوم بهذا الواجب النبيُّ الموجود في عصر التحريف، أو النبيُّ الذي لا تزال نبوته بعد وفاته حيةً جاريةً وشريعته ساريةً صالحةً للعمل، فلو بُعث في أمته نبي آخر تابع له عند تطرق الفساد إلى تعاليمه فإنه يبقى مع ذلك “شهابًا”، لأن قوته القدسية لا تبرح عاملة عبر النبي التابع له. وبناء على هذا الشرح فإن موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء السابقين – عليهم السلام – لا يزالون نجومَ السماء الروحانية، ولكنهم ليسوا الآن شُهُبًا، لأن الله تعالى لا يستخدمهم اليوم لإهلاك الشياطين، غير أن محمدًا رسول الله لا يزال شِهابًا، لأن أظلاله ونوّابه من أتباعه سوف يستمرون في إسداء هذه الخدمة تجاه القرآن الكريم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.