للأتقى لا للأقوى..
  • للبقاء سنن ثابتة في قانون الخليقة.
  • في خضم الصراعات يغفل المتصارعون عن إنسانيتهم وسبب بقائهم.
  • بقاء النوع رغبة مشتركة لدى جميع الخلائق، فكيف يمكن إشباعها؟!
  • البقاء، منه ما هو مادي ومنه ما هو روحاني.

__

كما أن المرء قد يحتاج إلى مزيد من الفرص كي يتعلم درسا ما، كذلك قد تمر على المجتمعات والشعوب سنون وسنون قبل أن تستوعب جملة من الدروس في حياتها، ولكن ينبغي عليها أن تتعلم تلك الدروس في نهاية المطاف على أية حال، وإلا حق عليها القول فدُمِّرَتْ تدميرا واستبدلت بمجتمعات وشعوب أخرى وفق السنة الكونية القائلة:

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (1)..

ولا يبرح العلم الإنساني يحاول تفسير السر الكامن وراء بقاء وانقراض الأنواع منذ بدء الخليقة الحية على هذه الأرض إلى الآن، وعلى الرغم من المحتوى المعرفي الضخم المتاح، إلا أن الإنسان لم يتمكن بعد من تفسير ذلك السر! لماذا اختفت أنواع وبقيت أنواع أخرى؟!وفي المواجهات الحامية بين أي خصمين، غالبا ما يغفل كلاهما عن ضرورات شتى، كمواساة الخلائق، كما تغفل الدول بمجتمعاتها اللاهية عن أن غياب شعور المواساة كان المحرك الأبرز لكافة حروب الجنس البشري عبر تاريخه المنسي والمكتوب. ولماذا نذهب بعيدا؟!

غير أن أكثر الناس لم يدركوا بعد جيدا أن البقاء ليس للأقوى، فقد هلك قبلنا من كانوا أكثر منا قوة، إنما البقاء للأتقى، والصلحاء المصلحون المتقون هم من يرثون الأرض بناء على القانون الأزلي: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ

أولم يكن منشأ الحرب العالمية الأولى التي راح ضحيتها أكثر من خمسين مليونا ما بين عسكري ومدني، ألم يكن منشؤها انعدام المواساة لدى النازي تجاه طائفة من مواطنيه؟! والذين كانوا من قبل مفتقدين بدورهم هذا الشعور تجاه مواطنيهم كذلك. أيعقل أن يكون درس المواساة صعبا إلى هذا الحد بحيث لا تكاد الإنسانية تستوعبه منذ أكثر من ستة آلاف عام، وعلى الرغم من أنها تُلقن هذا الدرس مرة تلو الأخرى؟! وطالما يردد إخوتنا المسيحيون كلمة جميلة حقا، غير أن التعامل معها بحَرْفِيَّة أفقدها جمالها المعهود، تلك العبارة القائلة: «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ»، نعم، إن مُلخَّص التقوى ومضمونها هو أن يتخلق الأفراد والأُسَر والمجتمعات والدول والشعوب بأخلاق الله تعالى، كلٌّ في نفسه وفي تعاملاته مع غيره، وهذا الأمر في حد ذاته كفيل بضمان بقائها وطول عمرها. ولننظر، ما من قرية أُهلِكت أو أمة فنت إلا ووراء ذلك الإهلاك أو الفناء تفريط ما في أمر التقوى. ولا يعتمد البقاء على مجرد توفر سُبُل البقاء المادية، من مال وغذاء ونحو ذلك، بدليل أن أغلب القرى الهالكة التي قصَّها علينا القرآن لم تهلك عن فاقة أو مجاعة، بل هلكت وفيها مُترفون، وأهلها غافلون، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل عن سبيل بقاء آخر أعظم شأنا، فالرغبة في بقاء النوع قاعدة طبيعية لا يشذ عنها مخلوق، حتى من أفراد الجنس والنوع الواحد المتصارعة فيما بينها إلى حد القتل، فهذه الرغبة قاسم مشترك بين كافة الخلائق. ولأن مُوْجِد الرغبة هو وحده القادر على إشباعها، كذلك فإن الله تعالى الخلاق العليم هو وحده مُشبع رغبة الإنسان في البقاء، فقط بتخلُّق الإنسان بأخلاق خالقه والتحلي بصفاته التشبيهية، غير أن أكثر الناس لم يدركوا بعد جيدا أن البقاء ليس للأقوى، فقد هلك قبلنا من كانوا أكثر منا قوة، إنما البقاء للأتقى، والصلحاء المصلحون المتقون هم من يرثون الأرض بناء على القانون الأزلي:

إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (2)

وأولئك المتقون هم من يستخلفهم الله تعالى ويبقي ذريتهم ويبارك فيها حتى لو كانت معطيات الواقع تقول بغير ذلك. لقد واسى إبراهيم ضيفه بالقِرَى حتى قبل أن يسألهم عن الخطب، فكتب الله له البقاء واستمرار الذرية على الرغم من بلوغه الكبر هو وزوجه التي كانت عجوزًا عقيما.. إذن، إن سر البقاء كامن في التقوى بكافة مظاهرها، والتي منها: إكرام الضيف، وأداء حق الجار قريب أو بعيد، والقول السديد.وتفصيلا للقول في سُبُل البقاء ننتقي للقارئ الكريم من كلمات سيدنا أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز) الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) خطابا ألقاه حضرته في اليوم الثاني من أيام الجلسة السنوية للجماعة الإسلامية الأحمدية في المملكة المتحدة، كان خطابا تربويا من طراز رفيع المستوى، أشار فيه حضرته إلى تدابير الإصلاح ومن ثم بقاء المجتمع الإنساني، بدءا من الأفراد والأسر الصغيرة، مرورا بالمجتمعات الكبيرة والدول، وصولا إلى العالم الإنساني ككل، في إشارة لطيفة من حضرته تكررت مرارا، بمناسبة انعقاد الجلسة السنوية بالمملكة المتحدة، إلى أن إكرام الضيف قيمة إنسانية عليا، يُكرِم الله تعالى من يعليها ويعظمها، كذلك ذكر حضرته في خطابه بعض الممارسات التي ينبغي الكف عنها اتقاء لله وحرصا على البقاء الكريم.. وبذكر البقاء الروحي لا يسعنا إغفال مسألة البقاء المادي، لذا فسيتصفح قارئ مجلة التقوى مادة مقالية عن الغذاء كونه ذريعة مادية من ذرائع البقاء، هذا إلى جانب باقة منوعة من المواضيع والأبواب الثابتة التي نرجو أن تحوز رضا القارئ الكريم.ندعو الله تعالى أن يجعلنا من المتخلقين بأخلاقه عز وجل، ويلهمنا سبل التقوى، فيُكتب لنا البقاء في الصالحين، آمين

1. (يونس: 13-15)
2. (اﻷعراف 128)
Share via
تابعونا على الفايس بوك