في عالم التفسير
ثُمَّ قَسَت قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (البقرة: 75)

 

شرح الكلمات:

قسَتْ: قسا قلبُه يقسو قَسوًا وقَساوةً: صلُب وغلَظ. قسا الدرهمُ: زافَ (الأقرب).

القسوة: الصلابة في كل شيء، وقسوةُ القلب ذهابُ اللين والرحمة والخشوع (اللسان).

الحجارة: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعدّتْ للكافرين).

يتفجر: تفجَّرَ الماء: سال وجرى (الأقرب).

الأنهار: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (وبَشِّرِ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار).

يشَّقَّقُ: أصلُه يتشقّق. وشقَّ الشيءَ: صدَعه وفرّقه. وتشقّقَ الحطب: تصدّعَ وتفرّقَ (الأقرب).

يهبِط: هبط من الخشية: تضاءلَ وخشَع (الأقرب). الهبوط: الانحدار (المفردات)

للمزيد راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوٌ).

فالمراد من قوله تعالى يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ 1- أن من القلوب ما يسقط من خشية الله مستغفرًا، 2- أن منها ما يخشع ويتواضع من خشية الله.

خشية: خَشِيَه يخشاه خَشْيةً: خافَه واتقاه. والخشية: الخوف. وفي “الكليات”: الخشية أشدّ من الخوف… والخشية تكون من عظمة المخشيِّ، والخوفُ يكون مِن ضعف الخائف (الأقرب).

وقال الإمام الراغب: الخشية خوفٌ يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علمٍ بما يُخشى منه، ولذلك خُصَّ العلماء بها في قوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ . (المفردات)

غافل: غفَل عنه غفْلة: تركَه وسها عنه. غفل الشيءَ: ستَره. وجمعُ الغافل: غافلون وغُفول وغُفْل (الأقرب).

الغفلةُ سهوٌ يعتري الإنسانَ من قلة التحفظ والتيقظ. (المفردات)

يقال: أنت غافل، أي لا تُعنى بشيء (اللسان).

قال أبو البقاء عن الغفلة: هو الذهول عن الشيء (التاج).

فقوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ يعني أن الله تعالى:

1- ليس ساهيًا عن أعمالكم، 2- ما كان ليستر أعمالكم على الدوام، 3- لا ينسى أعمالكم بل يرتب عليها النتائج، 4- يُعنى بأعمالكم.

التفسير:

قال الله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ . ويتضح من كلمة ثُمَّ أن مضمون هذه الآية ذو صلة بالتي قبلها، والمعنى: كان المفروض أن تلين قلوبكم برؤية الآيات الإلهية التي سبق ذكرها، ولكن ازدادت قلوبكم قساوة وشقاوة. والدليل على صحة هذا المعنى هو أن يهود بني النضير وبني قريظة قد تمادوا في شرورهم وفتنتهم أكثر من ذي قبل، رغم قتل كعب بن الأشرف وأبي رافع بن أبي الحقيق، وإجلاء بني قينقاع من المدينة.

وقوله تعالى فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً يعني أن قلوبكم صارت صلبة كالأحجار، بل أقسى منها. وقساوة القلب تُشبَّه بقساوة الحجارة في كل لغة تقريبا، والمراد من التشبيه الوارد في هذه الآية هو أن قلوبكم غير مستعدّة لقبول أحكام الله تعالى. إن بعض الأحجار يمكن أن تلين، ولكن قلوبكم لا تلين.

وحرف أَوْ هنا لا يدل على الشك، وإنما المراد أن قلوب بعضهم قاسية مثل الأحجار وبعضها أقسى منها.

وقوله تعالى وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ يعني أن هناك أحجارا تنشقّ من ضغط الماء الجاري وراءها، فيسيل منها غزيرًا كالأنهار. وهذه الظاهرة تُلاحَظ بكثرة في المناطق الجبلية حيث تنشق الأرض الحجرية بتأثير ضغط الماء المنحدر تحت وجه الأرض مِن قمم الجبال الثلجية، فتسيل المياه من الأرض غزيرة. ولكن اليهود قست قلوبهم لدرجة أنه قد سال ماء الكلام الإلهي، فلم تفسح له الطريق، وأنكروا آيات الله تعالى ظاهرًا وباطنًا.

وقوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ يعني أن من الأحجار ما يتصدّع بضغط الماء، فيسيل منه الماء، ولكنه لا يكون نبعًا كبيرا بل يكون ماء قليلا.

والمراد أن الخير يظهر من بعض الناس بقدر كبير، ومِن بعضهم بقدر يسير، فمنهم مَن يكون كالأحجار الصلبة التي تحجز وراءها عيون ماء كبيرة، أي أنهم يقاومون الحق بشدة في أول الأمر، ولكنهم يقبلونه ويفسحون له الطريق في النهاية، حتى يتدفق ماء الحق منهم بقوة. ومنهم من يقاومون الحق في البداية ويضطرون للإذعان له آخر المطاف، ولكن لا يكون إيمانهم بقوة النوع الأول. أما اليهود فأكثرهم ليسوا مِن هؤلاء ولا هؤلاء، بل هم أشد قسوة من الأحجار، فلا يفسحون الطريق للحقائق السماوية بأي صورة، لا ضيّقًا ولا واسعًا.

أما قوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فيمكن أن نفهمه كالتالي:

أولاً: بإرجاع الضمير في مِنْهَا إلى الحجارة، أي أن من الحجارة ما يهبط من خشية الله. ولا يعني ذلك أن الحجارة تعقل وتميّز وتشعر بخشية الله كالإنسان، بل لا بد هنا من تقدير محذوف كالآتي: إن مِن الأحجار ما يهبط من أسباب خشية الله تعالى من عواصف وزلازل وفيضانات وصواعق، وهذه الظواهر تتسبب في خشية الله وفي تردّي الأحجار أيضا. والمراد أنه تقع في الأرض والسماء انقلابات شديدة وتطورات عظيمة باستمرار، ولكن هؤلاء اليهود القساة القلوب والمتعصبين لا تميل قلوبهم إلى خشية الله، ولا تخرّ ساجدةً أمام الله تعالى.

وثانيًا: باعتبار الخشية بمعنى الإخشاء (البحر المحيط)، أي أن بعض الحجارة تسقط من إخشاء الأشياء التي تبعث خشية الله في القلوب من قبيل الأعاصير والفيضانات والصواعق والزلازل وغيرها. والمراد هو نفس ما ذكر من قبل، والفرق فرقُ الإعراب فقط، ففي الشرح الأول قدّرنا محذوفًا كالآتي: أن بعض الأحجار تسقط نتيجة أسباب خشية الله، أما في الشرح الثاني فاعتبرنا الخشية بمعنى الإخشاء، وفي الاثنين يُعَدّ مصدر الخشية والإخشاء بمعنى اسم الفاعل، مثل قولهم زيد عدل أي عادل (للمزيد انظر بحث المصدر بمعنى اسم الفاعل واسم المفعول في كتاب “الرضى”)

ثالثا: بإرجاع الضمير في مِنْهَا إلى القلوب، أي أن من القلوب ما تخرّ ساجدة من خشية الله. ولا يمكن الاعتراض على إرجاع الضمير إلى الاسم الأبعد (القلوب) بدل الاسم القريب (الحجارة)، لأن ظاهرة انتشار الضمائر هكذا أمر جائز وشائع في اللغة، ومثاله في القرآن الكريم قول الله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (الفتح:10)، فضمير (الغائب) في تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ عائد إلى الرسول ، أما في وَتُسَبِّحُوهُ فإلى الله تعالى.

ومثاله الآخر قول الله تعالى: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (البقرة:230)، فضمير المخاطب في تَأْخُذُوا يعود إلى الأزواج، بينما ضمير المخاطب في خِفْتُمْ راجع إلى الذين يصلحون بين الزوجين. فهذا الأسلوب شائع في العربية ويسمى “انتشار الضمائر”، ولا بأس به عند النحويين. (الجواهر الحسان للثعالبي)

أما قوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيؤكد أن هذه الآيات القرآنية تتحدث عن اليهود المعاصرين للرسول ، وتقول: إن أعمالكم الشريرة ضده ليست خافية على الله تعالى، ولسوف يعاقبكم عليها.

Share via
تابعونا على الفايس بوك