شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه
  • ألقاب محمد عند قومه
  • طهارة الفكر ونظافة البدن عنه
  • بساطة حياة النبي
  • علاقة النبي بالله عز وجل
  • رفض النبي تعذيب النفس

__

إن حياة نبي الإسلام كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

للقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام.

بعد أن قمنا بعرض مختصر للأحداث البارزة في حياة النبيّ الأكرم ، نقدّم الآن محاولة لعرض الخطوط العامة للملامح التي تميّز سلوكه الخلقي. ولدينا في هذا الشأن شهادة قومه التي أقروا بها قبل دعواه بالنبوة، ففي تلك المرحلة كان معروفًا في قومه “بالصـادق” و”الأمين”. (ابن هشام)

ولا شك أن في كل عصر عاشت أعداد كبيرة من الناس دون أن يتّهمهم أحد بعدم الأمانة، وهناك أيضًا أعداد كبيرة من البشر لم يحدث لهم أن تعرّضوا للتجربة والامتحان، وكان سلوكهم في مجالاتهم العادية يتّسم بالأمانة والنّزاهة، ولكن لا يعتبر الناس أنهم يتميّزون بشيء خاص في هذا الصدد، إذ أن من يستحق أن ينال التميّز الخاص هم أولئك الذين تفيض حياتهم الشخصية بدرجة عالية من صفات الخلق السامي الكريم.

إن كل جندي يدخل المعركة يضع حياته في مهب الأخطار، ولكن ليس كل جندي بريطاني ينال وسام الملكة فيكتوريا، ولا يستحق كل جندي ألماني وسام الصليب الحديدي. وهناك مئات الألوف من الناس في فرنسا يعملون في وظائف تستدعي منهم استعمال العقل والتفكير، ولكن لا يفوز كل منهم بوسام الشرف. وعلى هذا فإن مجرد أن يكون الإنسان أمينًا أو صادقًا لا يدل على أنه يتميّز بشيء خاص عن سائر الناس، ولكن عندما يقوم شعب بأكمله بالإجماع على منح شخص لقب “الصادق” و “الأمين”، فإن هذا يدل على أنه بلغ في الأمانة والصدق مبلغًا عظيمًا، وأن له في الصدق والأمانة خواصًا استثنائية خارقة عهدها الناس عليه. ولو كان من عادة أهل مكة أن يمنحوا تميّزًا كهذا لشخص ما في كل جيل من الأجيال، فحتى حينذاك لا بد أن يكون ذلك الشخص قد بلغ شأنًا عاليًا في خصال الصدق والأمانة. ولكن تاريخ مكة، بل وتاريخ الجزيرة العربية كلها، لا يشير من قريب أو بعيد إلى أن العرب قد اعتادوا منح هذه الألقاب أو ما يشابهها في أيّ جيل من أجيالهم. ولكن على العكس من ذلك، إن تاريخ العرب يبين أنه لم يحدث أنهم أطلقوا لقب “الصادق” أو “الأمين” على أحد سوَى على الرسول ، مما يدل على أنه قد بلغ في هذا الشأن سموًا لم يبلغه أحد، ونال رفعة لم يصل إليها سواه، حتى إن ذاكرة قومه لم تعرف شخصًا يساويه في هذا المضمار، ولا رأت عيونهم إنسانًا يباريه في هذا المجال. لقد كان العرب معروفين بتوقّد الذهن، وإذا ما اختاروا شيئًا واعتبروه نادر المثال، فهو في الحقيقة إذن فريد نادر المثال.

ولكن عندما يقوم شعب بأكمله بالإجماع على منح شخص لقب «الصادق» و»الأمين»، فإن هذا يدل على أنه بلغ في الأمانة والصدق مبلغًا عظيمًا، وأن له في الصدق والأمانة خواصًا استثنائية خارقة عهدها الناس عليه.

وعندما دعا الله تعالى رسوله الكريم ليحمّله أعباء النبوة ومسئولياتها، فإن زوجه السيدة خديجة، رضي الله تعالى عنها، راحت تشهد بصفاته الخلقية الراقية، وهي حادثة سبق الإشارة إليها في سيرته التي أسلفنا ذكرها. وسوف نقدّم الآن بعضًا من صفاته الأخلاقية العالية، ليستطيع القارئ أن يقدّر رسول الله حق قدره في تلك المجالات التي لم يتمّ التعريف بها.

طهارة الفكر ونظافة البدن

يُروَى عن الرسول أنه كان نقيّ الحديث دائمًا، وأنه لم يكن يستعمل القسَم تلو القسَم لتوكيد كلامه، كما كان معاصروه غالبًا يفعلون. ولم يكن هذا بالأمر العادي بين العرب، ولا يعني هذا أن العرب في عصر الرسول كانوا يعتادون الكلام البذيء، ولكن مما لا شك فيه أنهم كانوا معتادين على الكلام الذي يشوبه الكثير من الأيْمان المغلّظة، وهي عادة تمكنت منهم حتى إلى أيامنا هذه. أما رسول الله فكان يحفظ لاسم الله تعالى وقاره واحترامه، ولم يحدث أبدًا أن تفوّه به إلا إذا كان هناك ما يبرر ذلك.

وكان دقيقًا في اهتمامه بالنظافة البدنية حتى في الشكليات الخارجية، فكان من عادته أن يستاك عدة مرّات في اليوم، وكان يشدّد على الاهتمام بهذه العادة حتى تكرر منه القول بأنه لولا خشيته أن يشق على أمّته لأمرهم بالسواك عند كل صلاة. كان يغسل يديه قبل الطعام وبعده، وكان يغسل فمه فور تناول طعام مطبوخ؛ وكان يرى أنه من المستحب لكل شخص أكل طعامًا مطبوخًا أن يغسل فمه قبل كل صلاة، ففيه استنارة للفم. (البخاري)

إن المسجد في الإسلام هو المكان الذي يُعقد فيه اجتماع المسلمين، ولذلك اهتم الرسول اهتمامًا خاصًا بنظافة المساجد، خاصة في الأوقات التي يزدحم المسلمون داخلها، ولذلك حث على إيقاد البخور في هذه المناسبات لتحسين رائحة الهواء (أبو داود). وأرشد المسلمين ألا يذهبوا إلى المساجد في الصلوات الجامعة بعد تناول الأطعمة التي تصدر عنه رائحة منفّرة (البخاري).

وأصر على أن تظل الشوارع والطرقات نظيفة من الأغصان والحجارة، وكل المواد والأشياء التي قد تعوق السير أو تثير الاشمئزاز. وكان يزيل الأذى من الطريق بنفسه إذا وجده، وكان من عادته التذكير بأن كل من يميط الأذَى عن الطريق محافظًا عليه نظيفًا فإنه يكتسب رفعة عند الله وقوة في الإيمان. ورُوي عنه أنه أمر ألا تُستعمل الطرقات لتعويق المارة، وألا يُلقَى في الطريق أي شيء أو مادة غير مرغوب فيها، وألا يُدنّس الطريق بأية صورة، فإن كل فعل من تلك الإساءات تُغضب الله تعالى.

وكان شديد الحرص على أن تُصان كل مصادر الماء التي يستعملها الإنسان نظيفة نقية. وعلى سبيل المثال هنا، فلقد حرّم إلقاء أي شيء في الماء الراكد حتى لا يفسد، ولا في أي خزّان ماء يُستفاد منه حتى لا يتلوث (البخاري ومسلم-كتاب البِر والصلة).

بساطة حياة النبيّ

كان طعامه وشرابه غاية في البساطة، ولم يشْكُ مطلقًا من سوء طبخ الطعام أو سوء إعداده. وكان يُقْدم على تناول طعام كهذا ليعفي الشخص الذي قام بإعداده من الحرَج، وأحيانًا كان الطعام لا يؤكل وحينئذ يكفّ عن تناوله، ولم يحدث أن عبر أبدًا عن رفضه لطعام. وكان إذا جلس لطعامه اتجه نحوه، وكان يُعلّم أصحابه أن لا يفرّقوا بين أنواع الطعام. وعندما يوضع الطعام أمامه، كان يشترك فيه مع الحاضرين. وفي مرة أهداه أحدهم تمرًا، فنظر حوله وقدّر عدد أصحابه الذين كانوا معه، ثم قسم التمر بينهم بالتساوي، فأعطى كل واحد منهم سبع تمرات. وقد روَى أبو هريرة أن الرسول لم يأكل حتى الشبع من طعام قط حتى ولا من خبز شعير (البخاري).

ومر يومًا على قوم بين أيديهم شاة مشويّة في وليمة، وعندما رأوا الرسول دعوه ليشاركهم فأبى، ولم يكن ذلك كراهية منه للّحم المشوي، ولكن لأنه لم يكن يرضَى أن يستمتع الناس بوليمتهم من الشواء في مكان مفتوح للمارة بحيث يراهم الفقير الذي لا يجد ما يأكل، فتنكسر نفسه. ورُوي عنه في مناسبة أخرَى أنه أكل اللحم المشوي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعًا حتى قُبض” (البخاري- كتاب الأطعمة). وكان يشدّد على ألا يذهب إنسان إلى بيت شخص آخر لطعام إلا إذا دُعي إليه. وفي مرة دعاه إنسان إلى طعام، وأذن له أن يصحب أربعة آخرين معه، وعندما وصل إلى منْزل المضيف وجد شخصًا سادسًا قد انضم إلى المجموعة، وخرج صاحب البيت إلى الباب ليلقَى الرسول وصحبه. فلفت نظره إلى الشخص السادس الذي انضم إليهم، وترك للمضيف حق قبول هذا الضيف الزائر أو رفضه، وقبل المضيف بطبيعة الحال هذا الشخص الزائر (البخاري كتاب الأطعمة).

وكان إذا جلس لطعام سمى بالله ودعا بالبركة، فإذا فرغ حمد الله بهذه الكلمات: “الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا”. والمعنى هو أن كل المحامد لله الذي أطعمنا، حمدًا فائضًا من قلب مخلص محض، حمدًا متزايدًا باستمرار، حمدًا لا يدع لدينا انطباعًا في عقولنا أننا حمدناه تعالى بما يكفي، بل حمدًا يخلق فينا إحساسًا أننا لم نقل بعد ما يكفي لحمد الله، حمدًا لا ينتهي بل يجعلنا نشعر دومًا أن كل أفعال الله تستحق الحمد، حمدًا يتضرع إلى الله أن يملأ القلب بهذه المشاعر اللائقة بتقديسه.

وأحيانًا كان يقول: “الحمد لله الذي كفانا وأروانا غير مكفي ولا مكفور”. والمعنى هو أن الحمد لله كل الحمد الذي أطعمنا وسقانا، اللهم اجعل قلوبنا دائمًا وأبدًا مشتاقة لحمدك لا تكتفي، ونعوذ بك أن تنكر قلوبنا نعمتك فلا تمتنّ لك.

وكان يُذكّر أصحابه عند الطعام ألا يملأ أحد بطنه بالطعام، وكان يقول إن طعام الواحد يكفي الاثنين. وكان إذا أُعِدّ في بيته طعام خاص أوصَى أن يُهدَى بعضٌ منه للجيران، وكانت عادته أن يهدي الطعام وغيره من الماعون إلى بيوت جيرانه (مسلم، كتاب الأدب والبخاري).

وكان دائمًا يحاول التفرّس في وجوه أصحابه ليتوسّم إن كان أحدهم في حاجة لمعونة ماسّة، وقد روَى أبو هريرة هذه الحادثة: “والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنتُ لأشُدُّ الحجَر على بطني من الجوع، ولقد قعدتُ يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل. ثم مر بي عُمر، فسألته عن آية من كتاب الله تعالى، ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل. ثم مرّ بي أبو القاسم، فتبسّم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي. ثم قال: أبا هرّ! قلت: لبيك يا رسول الله. قال: اِلحقْ، ومضى فتبعتُه، فدخل فاستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبنًا في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هرّ، قلت: لبيك رسول الله. قال: اِلحق إلى أهل الصُفّة فادعهم لي. قال أبو هريرة: وأهل الصُفّة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها. فساءني ذلك، فقلت في نفسي: وما هذا اللبن في أهل الصُفّة؟ كنت أحقّ أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوّى بها، فإذا جاءوا أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسَى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بُد. فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت فقال: يا أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يُروَى، ثم يرد عليَّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يُروَى، ثم يرد عليَّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يُروَى، ثم يرد عليَّ القدح. حتى انتهيت إلى الرسول وقد رَوَى القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسم، ثم قال: أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله. قال: بقيتُ أنا وأنت؟ قلت: صدقتَ يا رسول الله. قال: اقعد فاشرب فقعدتُ فشربتُ. فقال: اشرب، فشربت. فما زال يقول اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكًا. فقال: فأرني، فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة (البخاري، كتاب الرقاق).

ربما كان هدف الرسول من تكرار عرض اللبن على أبي هريرة آخر المجموعة هو أن يعلمه التحمل والصبر على آلام الجوع، وأن يجعل ثقته في الله تعالى، وألا يبالي بظروفه الخـاصة مهما كانت صعبة غير مواتية.

وكان يأكل دائمًا بيمينه ويشرب بها، ويتوقّف في الشرب ثلاث مرات ليتنفّس خلال شُربه، وربما كان السبب أن الشخص لو شرب الماء دفعة واحدة، لاستوعب منه ما يفيض عن حاجته مما يصيبه بعسر الهضم.

وكان نهجه في الطعام هو أكل كلّ حلال طيب، ولكن بعيدًا عن الأسلوب الذي فيه رائحة النهم، أو فيه حرمان لآخرين من نصيبهم المستحق. وكما سبق القول، فقد كان طعامه بسيطًا، ولكنه لم يكن يرفض طعامًا يهديه إليه إنسان، ولم يكن شديد التوْق إلى أطايب الطعام، وإن كان يفضّل العسل والتمر. أما عن التمر، فقد كان يقول إن هناك شبهًا بين المؤمن وبين النخلة، حيث يُستفاد من الثمر سواء الرطب منه أو الناضج، والسّعف والجريد واللحاء أو الليف، وحتى النوَى داخل الثمرة له فوائد عدة، فلا شيء في هذه الشجرة خال من الفائدة، وهكذا حال المسلم، يجب أن تكون كل حركاته وأفعاله ذات جدوَى، وأن تكون كل مساعيه من أجل خير الإنسانية كلها (البخاري ومسلم).

وكان يفضّل الملابس البسيطة، وكانت ملابسه تشمل إزارًا ورداء أو رداء وسروالاً. وكان يرتدي إزاره أو سراويله بحيث يغطي بدنه دون الكعبين. ولم يُجزْ كشف أي جزء من البدن فوق الركبتين إلا لضرورة قصوَى، كما لم يُجزْ استخدام قماش عليه صور بارزة أو مرسومة لأشخاص، سواء للملابس أو للستائر، خاصة إذا كانت هذه الرسومات كبيرة أو تمثل آلهة أو مما يُعبد من دون الله. ورأى ذات مرة في بيته ستارة عليها صوَر ذات حجم كبير فأمر بإزالتها. ولم يكن على كل حال يرى حرجًا من استخدام قماش عليه رسوم صغيرة أو رسوم لا تُفسر على نحو العبادة والتقديس. ولم يكن يرتدي الحرير ولم يسمح به لرجال المسلمين، ولقد اتخذ خاتمًا بغرض توثيق الرسائل التي يبعث بها إلى حكام وملوك العالم ليدعوهم للإسلام، لكنه أوصَى أن يصنع الخاتم من فضة لا من ذهب، لأنه نهى رجال المسلمين عن لبس الذهب. ومع أنه كان يسمح لنساء المسلمين بارتداء الحرير وحُلي الذهب، غير أنه كان يرى أن الإسراف في ذلك كريه مقيت. وفي إحدى المناسبات دعا إلى الصدَقة لإنقاذ بعض الفقراء، فنَزعت امرأة أساورها من يدها ووضعتها في حجر الرسول ، فقال لها إنّ من حقّ يدها الأخرى أن تنجو أيضًا من النار، فخلعت المرأة أساورها من اليد الثانية وقدمتها إليه. ولم يحدث أن امتلكت امرأة من نساء بيته حُليًّا ذات قيمة، ولا ملكت امرأة من النساء المسلمات على عهده تلك الحليّ الغالية إلا فيما ندر. وقد استنكر أن يكنِز أحد الذهب والفضة المسبوكة، وذلك حسب تعاليم القرآن المجيد. وكان يرى أن الاكتناز بوجه عام يضر بمصلحة القطاع الفقير من المجتمع، ويؤدّي إلى انهيار اقتصاد الأمة والوطن، لذلك كان يعتبر أن الاكتناز إثم من الآثام.

واقترح عُمر ذات مرة على الرسول أن يرتدي حلة ثمينة يستقبل بها سفراء الدول الكبرى في المناسبات الرسمية، فرفض مبيّنًا أن الله تعالى لا يرضَى عن ذلك، وأنه ينبغي له أن يقابل الناس بالملابس التي يرتديها عادة. وجاءته مرة هديّة من قماش حريري فبعث به إلى عُمر، فتساءل عمر كيف يرتديه وقد نهى عن ذلك، فقال له إن الهدية ليست دائمًا للاستعمال الشخصي، ومن الممكن أن تستعمل نساؤه ذلك القماش. (البخاري-كتاب اللباس)

وقصد الرسول بذلك أن عليًّا لا يجوز له أن ينسب إهمال صلاة الليل إلى إرادة الله تعالى، بادّعائه أن الله إذا شاء عدم نهوضه للصلاة فإنه لفوره يصبح عاجزًا عن التهجّد، ولكن واجب عليّ هو التسليم بضعفه عن أداء الأمر، وعليه أن يواجه نفسه ويلومها.

وكان فراشه كذلك بسيطًا. لم يستخدم الأسرَّة أبدًا أو المتّكآت، وكان ينام على حصير مفروش على الأرض، وكان فراشه هذا من جلد أو من نسيج من شعر الإبل. وروَت السيدة عائشة أن هذا الفراش كان ضيقًا، حتى إنها كانت تنام على جانب منه وهي متمددة الأقدام، فإذا قام الرسول ليلاً للتهجّد، فهبط للسجود؛ جمعت رجليها، حتى إذا قام ونهض.. مدتها، فإذا سجد انكمشت ثانية وهكذا. (مسلم والترمذي، والبخاري-كتاب الأطعمة)

وقد انتهج نفس البساطة في ترتيبات المسكن، فقد كان منْزله عادة يتكوّن من غرفة واحدة وفناء صغير، وكان هناك حبل معلق يقسم الغرفة إلى نصفين بحيث يعلق ستار من قماش على ذلك الحبل عندما يكون لديه زائر، فينفصل مكان لزوجه عن مكان الحاضرين الآخرين. كانت حياته بسيطة للغاية، وقد روَت السيدة عائشة أن طعامه بوجه عام طوال حياته معها، كان التمر والماء. وعندما مات لم يكن في البيـت يومها سوى بضع تمرات قلـيلة.

العلاقة مع الله عز وجل

لقد سيطر حبه لله تعالى وإخلاصه له على جميع مجالات حياته كلها، ولقد اصطبغت كل مناحي حياته بصبغة هذا الحب وذلك الإخلاص. ولقد كان يصرف الجزء الأكبر من وقته في الليل والنهار يصلي لله، ويسبح بحمده، رغم كل الأعباء الثّقال التي كان يحملها على عاتقه، والمسؤوليات الجسام التي كانت تُطوّق عنقه. وكان يهجر فراشه، ويكرّس نفسه لعبادة الله تعالى حتى يحين وقت الخروج إلى صلاة الفجر. وأحيانًا، كان يقف طويلاً في الصلاة من آخر الليل حتى تتورّم قدماه، وكل من شاهده على هذا الحال تأثّر له كثيرًا. وفي مرة قالت له السيدة عائشة: “يا رسول الله! لقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر”. فقال لها: “أفلا أكون عبدًا شكورًا” (البخاري- كتاب الجمعة).

ومعنى ذلك أنها كانت تقول له إن الله تعالى شرّفه بقربه، وأكرمه برضاه عنه، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلماذا يجهد نفسه هذا الجهد في الصلاة والعبادة، فيقول لها إن واجبه إزاء ذلك أن يزداد شكرًا، فإن زيادة الشكر تجلب مزيدًا من القُرب.

ولم يكن أبدًا يبدأ عملاً إلا بأمر الله تعالى، ولقد سبق أن ذكرنا في سيرته أنه لم يترك مكة إلا بعد أن تلقّى أمرًا سماويًا بذلك، على الرغم من خطورة وقسوَة الاضطهاد الذي كان يتعرض له من أهل مكة. ولقد رفض الهجرة مع أصحابه إلى الحبشة حين اشتدّ الاضطهاد عليهم، وأمرهم بالهجرة إليها ولم يستجب لرغبتهم في أن يصحبهم، لأن الله تعالى لم يكن قد أذن له بذلك. وفي الوقت الذي تشتدّ فيه الأزمات والمتاعب، يميل الناس عادة لاستبقاء أصدقائهم وأقربائهم على مقربة منهم، ولكن الرسول أمر أصحابه باللجوء للحبشة، بينما بقي هو نفسه خلفهم في مكة بسبب عدم تلقّيه توجيها من الله تعالى بمغادرتها.

كان قلبه يفيض تأثرًا، وتنحدر الدموع من عينيه كلما سمع كلمات الله تُتلى عليه، خاصة حينما تذكر تلك الكلمات مسؤولياته هو ومهامّه النبويّة. ويرْوي عبد الله بن مسعود أن الرسول سأله مرة أن يتلو عليه بعض الآيات من القرآن المجيد، فقال عبد الله: “يا رسول الله! كيف أقرؤه عليك وعليك أُنزل؟ (يقصد أن رسول الله هو الأعلم به) ولكنه رد عليه قائلاً: “إني أحب أن أسمعه من غيري”. فبدأ عبد الله يتلو من سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى:

  فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلآءِ شَهِيدًا (النساء: 42)،

 فقال له الرسول : “حسبك.. حسبك”. فنظر عبد الله بن مسعود إلى الرسول ليجد الدموع تنهمر من عينيه (البخاري، كتاب فضائل القرآن).

كان شديد الحرص على أداء الصلوات المفروضة، حتى في حالة مرضه الشديد الذي لا يمكنه معه الصلاة إلا في الفراش؛ كان يحرص على الذهاب إلى المسجد ليؤمّ المصلين بنفسه. وفي مرة لم يستطع القدوم إلى المسجد؛ فأمر أبا بكر أن يصلي بالناس، ولكنه حالما أحس ببعض القوة والتحسن في مرضه، طلب أن يسندوه ليَصل المسجد. واتّكأ على كتفي رجلين وهو بالغ الضعف حتى إن قدميه كانتا تجرّان على الأرض، وتصنعان خلفها خطوطًا كما ترْوي السيدة عائشة (البخاري).

إن التصفيق باليدين علامة شائعة للتعبير عن السعادة أو لجذب الانتباه إلى أمر ما، وقد تعَوّد العرب على ذلك أيضًا. ولكن الرسول لشدّة حبه لذكر الله، أحلّ الحمد والتسبيح وذكر الله محل التصفيق في مناسبات إظهار السرور أو لفت الانتباه.

في مرة من المرات شغله أمر هام عن حضور الصلاة لأوّل الوقت، فأناب أبا بكر ليؤم المصلين، ولكنه سريعًا ما فرغ من الأمر الذي كان بصدده، ثم بادر لفوره إلى المسجد وأبو بكر قائم يؤمّ الناس، ولكن جمهور المصلين شعر بوصول الرسول فبدأوا في التصفيق تعبيرًا عن سرورهم بوجوده، ولتنبيه أبي بكر لوجود شخص الرسول بينهم. فعند ذلك تراجع أبو بكر عن مقامه، وأفسح المكان للرسول ليؤمّ الناس. ولما انتهت الصلاة، سأل أبا بكر: “لماذا تراجعتَ وقد أمرتُك أن تؤمّ الناس”؟ فقال أبو بكر: “ما كان لابن أبي قحافة أن يؤمّ الناس ورسول الله قائم”. ثم وجّه الرسول كلامه إلى الناس فقال لهم إنه ليس من المستحب أن يصفّقوا في الصلاة، فإذا انتاب أحدهم في الصلاة أمر فليسبحوا اسم الله ويجهروا به بدلاً من التصفيق. (البخاري)

ولم يكن الرسول يقبل أن تكون عبادة الإنسان أو صلاته تعذيبًا لذاته، أو عبئًا ثقيلاً في إحساسه. وفي إحدى المناسبات دخل البيت، فرأى حبلاً ممدودًا بين عمودين، فسأل عنه فقيل إن زوجه زينب تتعلق به إذا نهضت في صلاتها عندما تتعب من طول التهجّد، فأمر بإزالة الحبل وقال إن على المرء أن يؤدّي صلاته طالما كان يشعر بالنشاط، فإذا فتر فليقعد، لأن الصلاة ليست عذابًا للنفس، وأنها تفقد قدرتها على تزكية النفس إذا أدّاها المرء وجسده منهك من التعب (البخاري، كتاب الجمعة).

وكان يمقت كل فعل وكل ممارسة تمتّ بأدنى صلة ولو بعيدة إلى أطياف الوثنية أو آثارها. وعندما اقتربت وفاته وأحس بسكرات الموت، كان يتقلّب من جانب إلى جانب وهو يحذّر من فعل اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم قبور أنبيائهم وأوليائهم مساجد. وكان يقصد أولئك الذين كانوا يخرّون ساجدين عند قبور أنبيائهم وأوليائهم، ويوجّهون الخطاب إليهم في الصلوات ويصلّون لهم. وقصد أن المسلمين لو فعلوا ذلك، وسقطوا في هذه الممارسات، فإنهم بذلك يتبرأون من نبيّهم، بدل أن يستحقوا صلواته عليهم.

ولقد سبق الحديث في السيرة عن غيرته الشديدة على تمجيد الله وشرف ذكره إلى أقصى الحدود. لقد حاول أهل مكة معه بكل وسائل الفتنة والإغراء، والترغيب والترهيب، ليكفّ عن معارضته لعبادة الأصنام (الطبرى). ولقد حاول عمه أبو طالب أن يقنعه ليعدل عن طريقه، وعبر له عن خوفه من موقف صعب، يجد فيه نفسه مخيرًا بين مرارة عداء قومه، وبين تسليمه لهم متخليًا عن حمايته، إذا أصر على موقفه في شجب الوثنية وتخطئة نهجها. وكان ردّ الرسول   الوحيد على ذلك هو: “والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه”. (الزرقاني)

وفي أُحُد، وعند سفح أحد التلال، بينما يحيط به الجرحى من المسلمين، والعدوّ قد تملّكه الفرح يعبر عن شماتته، وينفّس عنه شعوره بالانتصار على المسلمين بصيحات منكرة، وأبو سفيان قائدهم يصرخ: “أعل هبل، أعل هبل”، في هذا الظرف الدقيق، ورغم ما يهدد سلامته من خطر، ورغم أن العدد الصغير المحيط به من أصحابه ظلوا صامتين، فإنه لم يملك إلا أن يأمرهم بالردّ عليه قائلين: “الله أعلى وأجَلّ” (البخاري).

وكان من العقائد الشائعة عند أتباع الأديان المختلفة قبل الإسلام، أن الآيات الكوْنية في السماء والأرض تساهم في التعبير عن مشاعر الأنبياء والقديسين والصالحين حزنًا وفرحًا، بل إنهم يمكن أن يتحكموا بحركات الأجرام السماوية. وعلى سبيل المثال، فقد رُوي عن بعضهم أنه تسبّب في وقوف الشمس في مسارها، أو أن القمر قد توقّف، أو أن الأنهار قد توقّفت عن الجريان. وقد جاء الإسلام يعلّم الناس أنّ عقيدة كهذه لا أساس لها من الصحة، وأنّ ما جاء من ذلك في الكتب المقدسة السابقة كان أمثلة رمزية، تم تحويلها إلى تصوّر خرافي بدلاً من تأويلها على معناها الصحيح. ورغم ذلك فقد كان بعض المسلمين يميلون إلى نسبة بعض الظواهر الطبيعية إلى أحداث معيّنة في حياة الأنبياء. ولقد كُسفت الشمس عندما مات إبراهيم ابن الرسول في عامه الثالث. فروّج بعض المسلمين في هذا اليوم تلك الفكرة التي تقول إن الشمس أظلمت لموت إبراهيم كنوع من التعزية لمشاعر الرسول الكريم. وعندما بلغ الأمر الرسول ، عبر عن بليغ استنكاره وضيقه بهذه التصوّرات، فقال: “إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لحياة أحد ولا لموته”. وهكذا شرح لهم وبيّن للناس كيف أن الشمس والقمر وأجرام الكوْن السابحة يحكمها قانون الله تعالى وحده، وأن حركتها والظواهر المرتبطة بها لا تخضعان لموت أحد ولا لحياته (البخاري).

والجزيرة العربية بلد جاف، ولذلك يستقبل أهلها المطر بحفاوَة، وينتظرونه بشغف شديد. وكان العرب قد اعتادوا تخيّل أن الأمطار مرتبطة بحركة النجوم، ولكنّ الرسول كان يُظهر الامتعاض البالغ إذا ذُكر أمامه شيء من هذا القبيل، وكان ينصح قومه ألا ينسوا نعمة الله تعالى التي يتفضل بها عليهم، ولا ينسبوها إلى أيّ مصدر آخر غير الله عز وجل . وكان تعليمه هو أن المطر وكل ظواهر الطبيعة خاضعة لنظم الله تعالى وحده، وتأتمر بأمره، ولا تخضع لرغبة أحد أو سُلطته، ولا لحركة أيّ مخلوق آخر من دون الله جل جلاله. (مسلم، كتاب الإيمان)

ومهما كان من تراكم الظروف المعاكسة عليه، فقد كانت ثقته في الله لا تهتز إزاء ذلك. حدث ذات يوم أن رآه أحد الأعداء نائمًا، لا يحرسه أحد. فوقف عند رأسه، والسيف مسلول في يده وهدّد الرسول بالقتل لفوره، وقبل أن يهوي بسيفه عليه سأله قائلاً: “من يمنعك مني”؟ فرد الرسول في رباطة جأش: “الله”. ولقد تفوّه الرسول بهذه الكلمة بقوة وجلال ويقين، حتى إنّ قلب العدوّ الكافر لم يتمالك نفسه فأدرك على الفور أن الرجل الذي أمامه شامخ الإيمان والثقة في الله تعالى، ولا يمكن أن يكون كاذبًا. لذلك سقط السيف من يد الرجل، ووقف في هيئة صاغرة كمن ينتظر صدور الحكم عليه، بعد أن كان منذ لحظة يقف عازمًا على قتل الرجل الذي أمامه. (مسلم-كتاب الفضائل، والبخاري-كتاب الجهاد)

وعلى العكس من ذلك كان موقفه بالغ التواضع أمام الله تعالى، فكان يقف أمامه بكل خشوع ومذلة. وروَى أبو هريرة أنه سمع الرسول يقول إن أحدًا لن يدخل الجنة بعمله، فسأل أبو هريرة: “ولا أنت يا رسول الله”؟ فرد عليه قائلاً: “ولا أنا، إلاَّ أن يتغمدني الله برحمته”. (البخاري كتاب الرقاق).

ولقد ظل دائمًا يحضّ الناس أن يلتزموا في كل أعمالهم بالصراط المستقيم، وأن يبذلوا جهدهم في تحرّي الوسائل التي تقرّبهم من الله تعالى. وكان يعلمهم أن الإنسان لا يصحّ له أن يتمنى الموت، لأنه لو كان يسلك السلوك الحسن فلعله يستزيد منه، وإن كان سيئًا فلعله يتوب ويعود إلى فعل الخيرات. ولقد عبر عن حبه لله وإخلاصه له بطرق شتى، فمثلاً.. كان قد طال الجفاف، وطال أيضًا انتظار المطر، فلما بدأت القطرات الأولى تتساقط من السماء، أخرج لسانه يستقبل به قطرة من هذه القطرات، وهو يعبّر عن سعادته وامتنانه لله تعالى قائلاً ما يعني أن هذه أحدث نعمة تتنَزّل عليه من لدن الله تعالى. وكان دائمًا مشغولاً بدعاء الله ليغفر له ويرحمه، وكان ذلك يحدث كثيرًا خاصة في مجالس أصحابه كي يعلمهم أن يقوا أنفسهم من عذاب الله وأن يستكثروا من فضله. ولم يكن يغادره بتاتًا إحساسه بأنه دائمًا وأبدًا في معيّة الله تعالى، فكان إذا أراد النوم قال: “باسمك اللهم أحيا وباسمك اللهم أموت”، يقصد بذلك أنه يذهب إلى نومه واسم الله تعالى على شفتيه، ويستيقظ واسم الله على شفتيه.

فإذا استيقظ كان يقول: “الحمد لله الذي أحيانًا بعد ما أماتنا وإليه النشور” (البخاري). وكان يتُوق باستمرار لكل ما يقرّبه من ربه. ومن دعائه المتكرر قوله: “اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، واجعل لي نورًا” (البخاري). وفي رواية: “واجعلني نورًا”.

وروَى ابن عباس أنه قبل موت الرسول بقليل، قدِم مسيْلمة الكذّاب على عهد رسول الله فجعل يقول: “إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعتُه”. وقدم المدينة في عدد كثير من قومه، إذ كانت قبيلته أكبر القبائل العربية. فأقبل إليه رسول الله ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وكان في يد رسول الله قطعة جريد، حتى وقف على مسيْلمة في أصحابه فقال: “لو سألتني هذه القطعة (الجريد) ما أعطيتُكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنّك الله، وإني لأراك الذي أُريتُ فيه ما رأيتُ، وهذا ثابت ابن قيس يجيبك عني”، ثم انصرف عنه. قال ابن عباس: “فسألت عن قول رسول الله إنك ترى الذي أريت فيه ما رأيت”؟ فأخبرنى أبو هريرة إن رسول الله قال: “بينما أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما، فأُوحِيَ إليّ في المنام أن أنفخهما، فنفختهما فطارا، فأوّلتهما كذابيْن يخرجان بعدي”. (البخاري)

كان ذلك في أواخر حياة الرسول ، ولم تكن أكبر القبائل العربية قد آمنت بعد، وكان شرطها كي تتبعه هو أن يُعيّن زعيمهم خليفة له من بعده.

إن كثيرًا من الناس يحاولون أن يتقرّبوا إلى الله تعالى بالحرمان وتحمّل الآلام تطوّعًا منهم، والله يأبى ذلك. فليس رضا الله في الحرمان والعذاب، والفوز برضا الله لا يأتي عن طريق عذاب عبثي لا هدف منه، وحرمان للذّات لا فائدة منه إلا خداع الناس.

لم يكن للرسول ولد من نسله، ولا قريب طامح يقف أمام رغبة الرسول في توحيد الجزيرة العربية كلها إن قبل بهذا العرض. ولو كان مدفوعًا بأيّ دافع شخصي، لما وقف شيء ضدّ رغبته في وحدة العرب، بأن يعد فقط رئيس أكبر قبيلة فيها أنه سيكون خليفته. ولكنه لم يكن يرى نفسه متصرفًا في أي شيء في العالم مهما كان صغيرًا، ولم يكن يرى نفسه مالكًا لشيء. لذلك رفض التعامل مع مسيْلمة، ورفض عرضه بكل ازدراء. وكان ينظر إلى قيادة المسلمين لا كهدية يهديها هو إلى من يشاء، بل كأمانة إلهية مقدّسة يهبها الله تعالى لمن يستحقها ويناسبها. لذلك قال لمسيْلمة أن يدع عنه قيادة المسلمين جانبًا، فلن ينال منه ولا حتى قطعة جافة من الجريد.

كان إذا تحدث عن الله جل جلاله، بدا للناظرين وكأن وجوده كله يذوب في حبّ عميق لله سبحانه وتعالى، وينبض كيانه كله بنشوَة إخلاص فريد لله جل جلاله.

وكان يرى دائمًا ضرورة أن تكون العبادة بسيطة دون تعقيد. وكانت أرضية مسجده من الرمل والحصباء، ذلك المسجد الذي بناه وصلى فيه أكثر صلواته إمامًا، وكان سقف المسجد من الجريد والسعف الذي كان ينفذ منه ماء المطر إذا هطل. وفي بعض الأيام ابتل الرسول وصحبه في الصلاة بالماء، وأصابهم طين الأرض، ولم يمنعه ذلك من إتمام الصلاة للنهاية، ولم يؤجّل أية صلاة، ولم يغلق المكان لحين إتمام الإصلاحات التي تعمل على إحكام السقف ضد عوامل الجو (البخاري، كتاب الصوم).

وكان يراعي أحوال أصحابه مع الله تعالى. كان عبد الله بن عمر رجلاً حريصًا على التقوَى والتطهر، فقال عنه الرسول : “نِعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل”. وعندما بلغ ذلك عبد الله، لم يترك قيام الليل بعدها. وحدث مرة أن كان الرسول في بيت ابنته فاطمة، فسألها هي وزوجها عليًّا ما إذا كانا يصليان ليلاً، فقال له عليّ: “يا رسول الله! إنما أنفسنا بيد الله فإن شاء بعثها”. فتولى عنه الرسول وأخذ يضرب ركبته في الطريق ويكرر آية من القرآن وهي قوله تعالى:

  وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا (الكهف)،

 بمعنى أن الإنسان يتردّد في الاعتراف بخطئه، ويحاول تحميل أعماله الاختيارية على الله تعالى (البخاري، كتاب الجمعة).

وقصد الرسول بذلك أن عليًّا لا يجوز له أن ينسب إهمال صلاة الليل إلى إرادة الله تعالى، بادّعائه أن الله إذا شاء عدم نهوضه للصلاة فإنه لفوره يصبح عاجزًا عن التهجّد، ولكن واجب عليّ هو التسليم بضعفه عن أداء الأمر، وعليه أن يواجه نفسه ويلومها.

رفض تعذيب النفس

رفض الرسول رفضا باتًّا أن تكون العبادة أمرًا شكليًا، وأدان قيام الشخص بتعذيب نفسه بأيّة صورة، متصوّرًا أنه بذلك التعذيب يعبد الله تعالى ويتقرّب إليه. لقد وهب الله سبحانة وتعالى الإنسان ملكاته وحواسّه كي يحسن استخدامها وشكرها. ولقد علّم الرسول الناس أن العبادة الحقّة تكمن في الانتفاع الأمثل بتلك العين وذلك السمع وهذا الشم وذلكم التذوّق والإحساس. إن الله تعالى وهبنا العين لنرى بها، وإنه لمن الكنود لله أن نغلقها أو أن نقتلعها. وليس شكر نعمة الرؤية هو أن نعتبر الرؤية إثمًا، فالله وهبنا هذه الملكات ليس على أنها إثم نحمله، بل نعمة للتقدّم والرقيّ. وإنه لعقوق من جانب الإنسان أن يحرم نفسه من نعمة وهبها الله له كالسمع مثلاً، كما أنه من العقوق والإثم أيضًا أن يستخدم هذه الحاسّة في الاستماع إلى الأكاذيب والغيْبة. والامتناع عن تناول الطعام، (ما لم يكن صومًا مفروضًا أو عملاً تقتضيه الحكمة)، قد يؤدي إلى قتل النفس، وهو ذنب لا يُغتفر. وكما أن الإضراب التام عن الطعام والشراب إثم وعقوق، فإن من النكران والعقوق كذلك أن نأكل طعامًا محرّمًا أو نشرب ما لا يحل شربه. وهذه قاعدة ذهبية للحياة، أكّدها الرسول وشدّد على أهميتها. ولم يقم من قبل نبيّ آخر بغرس هذه القاعدة في التعليم والحياة.

إنّ الاستخدام الصحيح لملكاتنا الطبيعية، وحُسن استعمال الميول الحسّية، هو الذي يؤدّي إلى أن تترسّخ فينا الصفات الأخلاقية العليا. وإنه من الحماقة أن نُبطل عمل هذه الملكات الطبيعيّة التي فطرها الله فينا أو نلغيها، كما أنه من الحمق أيضًا أن نسفّهها بأداء سفيه. إنّ الإثم لا يكمن فيها، بل يكمن في سوء استخدامها، ولذلك فإنّ في حُسن استخدامها فضيلة مؤكّدة وخُلُقًا طيبًا. وهذه هي خلاصة التعاليم الخلقية التي أكّدها الرسول وشدّد على أهميتها، وكان عليها مدار حياته وزبدة أفعاله. رُوي عن السيدة عائشة أن الرسول الكريم لم يُخيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا أو شُبهة، فإنّه يكون أبعد الناس عنه (مسلم، كتاب الفضائل). وإن ذلك لهو النهج الأعلى والسبيل الأمثل الذي جعله الله تعالى للإنسان.

إن كثيرًا من الناس يحاولون أن يتقرّبوا إلى الله تعالى بالحرمان وتحمّل الآلام تطوّعًا منهم، والله يأبى ذلك. فليس رضا الله في الحرمان والعذاب، والفوز برضا الله لا يأتي عن طريق عذاب عبثي لا هدف منه، وحرمان للذّات لا فائدة منه إلا خداع الناس.

وهناك من البشر ممن ضعفت صفاتهم الخلقية، يحبّون أن يموّهوا بالتغطية على أخطائهم، ويريدون بتأثيرات وهمية أن يبدوا في عيون الآخرين كأنهم من أصحاب الفضائل وذَوي المكانة. أما النبيّ الأكرم فكان هدفه هو نوال الفضيلة حقيقة، وبلوغ رضا الله فعلاً، والفوز بقرب الله سبحانه وتعالى، لذلك كان خاليًا تمام الخلوّ من كل تظاهر وادّعاء.

وسواء عليه رأى الناس هذا الشيء حَسنًا أو رأوه سيئًا، فالأمر المهم عنده كيف يجده هو نفسه، وماذا يحسّ تجاهه من أعماقه، وكيف يحكم الله عليه. فإذا أضيف حكم الناس وتقديرهم إلى رضاه هو عن ضميره ورضا الله وقبوله، فإنه يشكرهم ويمتنّ لهم. ولكن إذا نظروا إليه بعين الإنكار أو الاشمئزاز، فإنه يأسف عليهم ولا يُلقي بالاً إلى رأيهم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك