العالم يحفر لحده .. أَين المفر؟!
  • لماذا نحرص على تنظيم هذا الحدث بشكل دوري؟!
  • ما الشغل الشاغل للنخب الحاكمة؟!
  • الهدف من وراء هذا الخراب هو تجارة الأسلحة الدولية.
  • كيف بدأ العالم يفيق أخيرا من وهم الإرهاب الإسلامي؟!
  • نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم)، وتجسيده النموذج الأمثل لإفشاء السلام في العالم.

__

لماذا نحرص على تنظيم هذا الحدث بشكل دوري؟! *
بدايةً، أود أن أشكر جميع ضيوفنا لانضمامهم إلينا هنا في ندوتنا السنوية للسلام.
لقد ظلت الجماعة الإسلامية الأحمدية على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، راعية منتدى السلام هذا من أجل تعزيز السلام العالمي. ربما يتساءل بعضكم عن جدوى تنظيم هذا الحدث كل عام، بالنظر إلى أن سلام العالم، سواء في البلدان الإسلامية أو في غيرها، لم يبدُ عليه أي تحسن كان خلال هذه الفترة؛ بل على العكس ازداد تدهورًا، وبات الانقسام المتزايد والكراهية والظلم المتفشي طابعا سائدا، وتكتلت قوى العالم في قطبين عسكريين، فاندلعت الحروب، مهددة الدول، واتسعت الفجوة بين البلدان النامية والمتقدمة.
وبالنظر إلى هذه الحالة، فإن تساؤلكم في محله تمامًا، ومع ذلك، فإن ديننا يحثنا على إفشاء السلام والعدل بين الناس في جميع أنحاء العالم، سواءًا كان هؤلاء الناس أغنياء أو فقراء، أقوياء أو مضطهدين، متدينين أو غير متدينين. وبالتالي فإننا سنواصل سعينا لجعل البشرية تدرك واجبها في احترام القيم الإنسانية الأساسية والوفاء بها. إن تعاليم الإسلام الأساسية هي: أداء حقوق خالقنا وأداء حقوق إخواننا البشر.
مع هذه المقدمة القصيرة، أود الآن أن أغتنم الفرصة لأتكلم عن بعض الأمور التي أراها على درجة كبيرة من الخطورة في هذه الأوقات المضطربة.

قضية التغير المناخي فرع من تهديد السلام العالمي
في عالم اليوم، طالما نرى القوى الكبرى والمؤسسات الدولية تخطط بغية تحسين حياة الناس في جميع أنحاء العالم. وفي الآونة الأخيرة، كانت إحدى القضايا التي ناقشها العديد من السياسيين والمفكرين مسألة تغير المناخ وبالتحديد تخفيض انبعاثات الكربون.
السعي إلى حماية البيئة والعناية بكوكبنا يمثل قضية ذات أهمية وغاية نبيلة حقا، ومع ذلك ينبغي في الوقت ذاته أن يدرك العالم المتقدم، شعوبه وقادته، أن هناك قضايا أخرى يجب معالجتها بنفس الإصرار.
إن سكان الدول الفقيرة لا تسترعي اهتمامهم البيئة ولا مستويات انبعاث الكربون بقدر ما يشغلهم من الغداة إلى العشيِّ شاغل إطعام أطفالهم. وإن محنتهم الاقتصادية تبعث على الأسى حقًا، ومستوى فقرهم لا يكاد يُتَصَوَّر. فمثلا، ثمة بلدان تعاني فقرا مدقعا في مصادر المياه النقية والصالحة للشرب، مما يضطر أهلها إلى استهلاك ماء المستنقعات الراكد بما يحمله من أوبئة. وحتى هذا الماء الراكد لا يبلغه هؤلاء الناس إلا بشق الأنفس؛ بحيث يتوجب على النساء والأطفال قطع الأميال كل يوم دون توقف التماسا لشربة ماء لهم ولعائلاتهم، فينقلنها إلى بيوتهم في أوعية كبيرة يحملنوها على رؤوسهم.

السعي إلى حماية البيئة والعناية بكوكبنا يمثل قضية ذات أهمية وغاية نبيلة حقا، ومع ذلك ينبغي في الوقت ذاته أن يدرك العالم المتقدم، شعوبه وقادته، أن هناك قضايا أخرى يجب معالجتها بنفس الإصرار.

يجب ألا نغض الطرف عن هذه المعاناة باعتبارها مشكلة الآخرين، بل يجب أن ندرك أن هذا الفقر تطال آثاره العالم أجمع، فتخل بموازين السلم والأمن العالميين. وحقيقة أن الأطفال ليس لديهم خيار إلا قضاء أيامهم في جلب المياه لعائلاتهم يعني أنهم لا يجدون فرصة سانحة في الذهاب إلى المدرسة، أو تحصيل أي شكل من أشكال التعليم. إنهم عالقون في حلقة مفرغة من الأمية والفقر، يبدو أنه لا نهاية لها وهي تدمر المجتمع بشكل كبير. واليوم، يتفاقم شعورهم بالبؤس والعناء مع وجود أدوات التقنية الحديثة ووسائل التواصل التي تنقل إليهم مظاهر ترف أهل البلدان المتقدمة. إن رؤية التفاوت الكبير في ظروفهم مقارنة مع غيرهم، يؤدي إلى الشعور بالإحباط، ويغرس بذرة الحقد، فيستغل المتطرفون هذه المشاعر السلبية، فيتصيدون في الماء العكر، فيمنون الفقراء بحياة أفضل. وكما يستغل المتطرفون مشكلة الفقر، فكذلك يفعلون مع الجهل،فيستهدفون الشباب غير المتعلم، مما يفتح لهم مجالا أوسع في تحويلهم إلى التطرف وغسل أدمغتهم. ويستغل المتطرفون مأساة خذلان حكام تلك البلدان لشعوبهم في معظم الأحيان.

الشغل الشاغل للنخب الحاكمة
مما يؤسف له أن النخبة الحاكمة في البلاد المحرومة أو التي مزقتها الحروب، لا يكون أكبر همها إلا الحفاظ على سلطتها وقوتها أكثر من المساعدة في التخفيف من معاناة شعوبها. فتكون النتيجة أن أولئك الذين لا يملكون شيئًا، يرمقون زعماءهم الفاسدين بازدراء، ويرون في القوى الكبرى في العالم عدوا لهم. ومع الأسف! نحن نرى الآثار المروعة لهذا في الدول الإسلامية أيضًا، وإنه وبعد رؤية الحالة اليائسة لبلدانهم الأصلية، فإن بعض المسلمين الذين نشأوا في العالم المتقدم قد وقعوا في شراك التطرف وارتكبوا هجمات إرهابية مروعة هنا في الغرب!
وبالتالي فإني أعتقد اعتقادا راسخا أننا إذا كنا نرغب حقا في حماية عالمنا وضمان أن نترك وراءنا إرثًا من الفرص لمن سيخلفوننا، فمن الضروري أن يتم بذل كل جهد ممكن لرفع مستوى العالم النامي. يجب ألا يُنظَرَ إلى الدول الفقيرة باستخفاف، بل يجب أن نعتبرها جزءًا من عائلتنا، إخواننا وأخواتنا. وبمساعدة الدول النامية على الوقوف على قدميها، ومن خلال منح الناس الفرص والأمل، سنساعد أنفسنا في الواقع، ونحافظ على مستقبل العالم. وإلا فإننا نرى بالفعل أن جوع العالم النامي يؤثر سلبا على سائر العالم أيضا .
علاوة على ذلك، ومع الهجمات الإرهابية الأخيرة وموجات الهجرة الواسعة النطاق إلى الغرب، كان هناك ارتفاع ملحوظ في النزعات القومية في العديد من البلدان الغربية، نتيجة استحضار مخاوف أيام الماضي المظلمة. ومما يبعث على القلق بشكل خاص أن الأحزاب اليمينية المتطرفة أمست أكثر جلافة، وقد شهدنا زيادة في مشاركتها في الحكومات وحققت مكاسب سياسية، هم أيضا متطرفون ويسعون إلى تسميم المجتمع الغربي عن طريق تحريض الجماهير ضد أولئك الذين يختلفون عنهم في اللون أو المعتقد.
بالإضافة إلى ذلك، أصبح خطاب بعض زعماء العالم النافذين أكثر عنصرية وعدائية، حيث تعهدوا بوضع حقوق مواطنيهم فوق حقوق الآخرين. لا ضير في اهتمام الحكومات بإيلاء مصالح شعوبها رعاية أكبر بالتأكيد، ما دامت تتصرف بعدالة، دون انتهاك لحقوق الآخرين، فإن محاولات تحسين حياة مواطنيها فضيلة عظيمة. ولكن السياسات المتصفة بالأنانية والجشع وعدم التورع عن مصادرة حقوق الآخرين هي سياسات خاطئة ووسيلة لزرع الخلاف والانقسام في العالم.

أي خير يرجى من وراء هذا الخراب؟!
أنتقل الآن إلى قضية أخرى، وهي تجارة الأسلحة الدولية. اليوم يعتبر العالم نفسه أكثر تحضرًا مما كان عليه في أي وقت مضى، ولكن يحدث في عام 2018 هذا أن دولا يتم هدمها وإبادة أهلها بأسلحة لا نجد لها وصفا أقل من أنها وحشية. في دول مثل سوريا والعراق واليمن، تقاتل القوات الحكومية وميليشيات المتمردين والمنظمات الإرهابية بعضها بعضًا، وعلى الرغم من مصالحهم المتعارضة، إلا أن بينهم جميعا قاسمًا واحدًا مشتركًا، وهو أن جُلَّ أسلحتهم، إن لم نقل كُلَّها، قد تم إنتاجها في الخارج، في العالم المتقدم. فبكل علانية وبكل فخر، تقوم القوى الكبرى بالاتجار بالأسلحة التي تُستخدم في قتل الأبرياء وتشريد ذويهم.
ومما يؤسف له أن حكومات الدول المتقدمة لا يشغلها سوى تعزيز اقتصادها وتعظيم رأس مال بلدها دون التوقف برهة للتفكير في العواقب. إنها تسعى سعيا حثيثا لإبرام أكبر عدد ممكن من عقود بيع الأسلحة التدميرية التي لا تفرق عند إطلاقها بين الأبرياء والمذنبين. وهم يبيعون بفخر أسلحة لا تستثني الأطفال أو النساء أو العجزة. إنهم يبيعون بتبجح الأسلحة التي تبتلع المدن والبلدات وتمحوها دون تمييز. إن تلك الدول والحكومات تجني مكاسب مادية قصيرة الأجل، إلا أن أيديها ملطخة بدماء مئات الآلاف من الناس. ويرى عدد لا حصر له من الأطفال أن آباءهم يتعرضون للقتل بأبشع الصور التي لا تمت إلى الإنسانية بِصِلَة، وكل ما يمكنهم فعله هو أن يتساءلوا: لماذا حُرِموا من أهليهم؟! ولماذا ترملت آلاف النسوة وأنهكهن الضعف والعجز؟! فأي خير يرجى من وراء هذا الخراب يا ترى؟!

أهناك من يعتقد أن القصف العنيف ليس له تأثير على الجو؟! وعلاوة على ذلك، إذا ساد السلام في البلدان التي مزقتها الحروب، فيجب إعادة بنائها من الصفر، وهذا بحد ذاته سيكون صناعة ضخمة ستؤدي إلى زيادة الانبعاثات الضارة والتلوث. وهكذا، فمن ناحية، نحن نحاول إنقاذ الكوكب، لكننا من ناحية أخرى، نقوم بتدميره بلا مبرر.

نار التطرُّف وقودها النشء البريء
لا أرى سوى جيل من الأطفال المدفوعين إلى أحضان أولئك الذين يسعون إلى تدمير سلام العالم. عندما يرى طفل صغير أو مراهق أنه حُرم من والديه بأكثر الطرق همجية، فمن يستطيع أن يلومه على الرد؟! لقد ذكرت آنفًا أن المتطرفين يستهدفون أولئك الذين يعيشون في الفقر ويستهدفون الأطفال أو الشباب الذين تعرضوا لوحشية الحرب. إنهم يجندون مثل هؤلاء الصغار لعلمهم أن عقولهم لم تنضج بعد، ويمكن ملؤها بسهولة بأي فكر فاسد، في السعي للانتقام الدموي من خلال الإرهاب. وبدلاً من التحاقهم بالمدرسة وتحصيلهم التعليم ليتحولوا إلى مواطنين محترمين ملتزمين بالقانون، فإن التعليم الوحيد الذي يحصل عليه هذا الجيل من الأطفال، هو كيفية إتقان استخدام القنابل اليدوية أو قاذفات الصواريخ، وكيفية القيام بهجمات انتحارية، وكيف يعيثون في العالم فسادا. وعلاوة على ذلك، فإن بعض البلدان تشترك دون داعٍ في صراعات تقع على بعد آلاف الأميال منها عن طريق نشر جنودها أو عن طريق قصف أراضي الآخرين جوًّا.
في العديد من الحالات، يبدو أن العالم لم يتعلم من أخطاء الماضي. والأمر المسلم بصحته على نطاق واسع هو أن حرب العراق عام 2003 لم تكن عادلة وكانت قائمة على أساس ادعاء زائف، كذلك سقطت ليبيا في هوة سحيقة من الفوضى وباتت مرتعًا للتطرف منذ أن بدأت القوى الغربية في اتخاذ الإجراءات هناك قبل بضع سنوات. ورغم ذلك، لم تتعلم القوى الكبرى درسًا من هذا. سُوِّيت المدن والبلدات بالأرض، وتحولت آلاف المباني إلى أنقاض.
في البداية، ذكرتُ أن التركيز الرئيس للمجتمع الدولي هو تغير المناخ والرغبة في الحفاظ على الهواء الذي نتنفسه نظيفًا. أهناك من يعتقد أن القصف العنيف ليس له تأثير على الجو؟! وعلاوة على ذلك، إذا ساد السلام في البلدان التي مزقتها الحروب، فيجب إعادة بنائها من الصفر، وهذا بحد ذاته سيكون صناعة ضخمة ستؤدي إلى زيادة الانبعاثات الضارة والتلوث. وهكذا، فمن ناحية، نحن نحاول إنقاذ الكوكب، لكننا من ناحية أخرى، نقوم بتدميره بلا مبرر. في ضوء كل هذا، أعتقد اعتقادا راسخا أن القوى العالمية على أبصارها غشاوات من قصر النظر والرؤية الضيقة.
أحد أبرز التبريرات التي قدمها أولئك الذين يؤيدون صناعة الأسلحة هي أن شراء الأسلحة هو وسيلة للردع والحفاظ على السلام. ولكن يتعين علينا فقط تشغيل أجهزة التلفاز ومشاهدة الأخبار لمدة دقيقة لنرى أن مثل هذه التبريرات محض تضليل، وتُجافي الصواب بشكل واضح. من المؤكد أن آلاف الأطفال الأبرياء ممن فقدوا ذويهم، أو فقدوا أطرافهم، لن يقتنعوا أبدًا بمثل هذا المنطق، وكذلك الحال بالنسبة لآلاف النساء اللاتي ترملن، أو ملايين الأشخاص الذين نزحوا عن ديارهم.

يبدو أن العالم لم يتعلم من أخطاء الماضي. والأمر المسلم بصحته على نطاق واسع هو أن حرب العراق عام 2003 لم تكن عادلة وكانت قائمة على أساس ادعاء زائف، كذلك سقطت ليبيا في هوة سحيقة من الفوضى وباتت مرتعًا للتطرف منذ أن بدأت القوى الغربية في اتخاذ الإجراءات هناك قبل بضع سنوات. ورغم ذلك، لم تتعلم القوى الكبرى درسًا من هذا. سُوِّيت المدن والبلدات بالأرض، وتحولت آلاف المباني إلى أنقاض.

ماذا يتوجب علينا للحيلولة دون دمار العالم؟!
إننا إذا أردنا أن نترك وراءنا إرثًا من الأمل لأطفالنا، وأن نترك عالمًا يسود مستقبله السلام لِخَلَفِنَا، فإننا وبغض النظر عن ديننا أو معتقداتنا، نحتاج إلى تغيير أولوياتنا على وجه السرعة. فبدلًا من أن نستنفدها في المطامع المادية والرغبة في السلطة، يجب على كل دولة، سواء كانت غنية أو فقيرة، أن تعطي الأولوية للسلام والأمن في العالم بأكمله قبل أي شيء آخر. وبدلًا من الانخراط في سباق تسلح يؤدي إلى الموت والدمار، يجب أن نتنافس في إنقاذ البشرية وحمايتها، وبدلًا من إغلاق الحدود والموانئ في البلدان المتحاربة مما يتسبب في ترك الأطفال الأبرياء يتضورون جوعًا ومحرومين من العلاج الطبي، يجب أن نفتح قلوبنا لبعضنا بعضًا ونهدم الجدران التي تفرق بيننا، ونطعم الجياع ونساعد الذين يقاسون المعاناة.
وفيما يتعلق بالتنافس السياسي، لا يزال النزاع بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية يهدد سلام العالم، وأي صراع بين الاثنين من شأنه أن يؤثر بشدة على بلدان مثل كوريا الجنوبية والصين واليابان. وبينما قيل في الأيام القليلة الماضية إنه كان هناك انفراج -لأن رئيس الولايات المتحدة قد أشار فجأة إلى استعداده للقاء الزعيم الكوري الشمالي – ومع ذلك، لا توجد ضمانات بأن يسود السلام. ليس من الواضح حتى تحت أي ظروف سوف يجتمعان، أو أين ومتى سيُعقد هذا الاجتماع. وحتى لو عُقد اتفاق، لا يعلم أحد سوى الله المدة التي سيطولها، حيث إن هناك قدرًا كبيرًا من الكراهية المترسخة لدى كلا المتخاصمين تجاه الآخر. والاتفاق النووي الإيراني الذي عُقد قبل بضع سنوات مثالٌ على ذلك، حيث تم التوصل إلى اتفاق تفاوضي بين إيران والغرب، ولكن الآن، بعد بضع سنوات فقط، تم تعليق الصفقة بخيط رفيع.
ومن ثم، هناك العديد من القضايا التي تبدو كنار تحت الرماد، ويمكن أن تضطرم جذوتها في أي وقت، بحيث لا يمكن تَصَوُّر عواقبها. ولكن، يعلّمنا الإسلام أنه لا يمكن تحقيق السلام إلا عندما يتم إزالة كل آثار سوء النية والحقد من قلوب الناس واستبدالها بالتواد والتعاطف والتراحم بينهم.

العالم يفيق أخيرا من وهم الإرهاب الإسلامي
غالبًا ما تلصَق بالإسلام تهمة التطرف والتحريض على العنف، ويقال أيضًا أن أعدادًا كبيرة من المسلمين غير موالين لبلدانهم، أو يسعون إلى زعزعة استقرار المجتمع. ولكني أرى أن هذه الادعاءات كاذبة وغير منصفة. على الرغم من أن الإرهابيين المسلمين المزعومين يدّعون العمل باسم الإسلام، إلا أنني لا أعتقد أننا نشهد حربًا دينية. وإنما الحروب التي تُخاض والفظائع المرتكبة هي فقط من أجل المكاسب الجيوسياسية. إن الإرهابيين المدعوِّين بالجهاديين، ورجال الدين المتطرفين، لا يقومون إلا بتشويه اسم الإسلام وتقويض جهود الغالبية العظمى من المسلمين الذين هم مواطنون مسالمون ملتزمون بالقانون. وبلا شك، منذ البداية، رفض الإسلام جميع أشكال التطرف، وآيات القرآن الكريم المَتْلُوَّة هذه الأمسية، تقدم دليلاً واضحًا على ذلك. تخبرنا هذه الآيات أن الحروب الإسلامية المبكرة قد خيضت من أجل حماية جميع الأديان والحفاظ على المبدأ المقدس لحرية المعتقد. وتذكر هذه الآيات بشكل قاطع أنه يجب حماية الكنائس والبِيَع والمعابد والمساجد.
قدّمتُ هذه النقطة مرارًا وتكرارًا، وأؤكد من جديد، أن كل من ينتهك القيم العالمية لحرية المعتقد وحرية الضمير، بعيد كل البعد عن الإسلام. حتى في وسائل الإعلام الغربية، هناك منشورات تقبل هذا، وأنا أثني عليها لدفاعها عن الحق والعدالة. على سبيل المثال، تم نشر عمود في الغارديان مؤخرًا قال فيه الكاتب:

«الإرهاب الإسلامي لم يكن أبدًا من أجل تعزيز الإسلام وأجزم أنه لا يزال كذلك. لقد كان دائمًا حول حقوق الأرض وسرقة الموارد الطبيعية والاقتصادية والسياسات النقدية العالمية التي تركت مجتمعات سكانية بأكملها في البلدان الإسلامية تعيش في حالة من الحرمان والعوز».

هذه الكلمات تصور بدقة واقع الإرهاب الذي يقوم به بعض من يُدعون بالمسلمين. علاوة على ذلك، في عمود نشر في صحيفة محلية، قدم الصحفي بيتر أوبورن أدلة دامغة على أن عددًا كبيرًا من المسلمين قد أصبحوا متطرفين، على الأقل إلى حد ما، نتيجة تدخل بعض وكالات الاستخبارات الغربية. وفي هذا الصدد، اقتبس الصحفي شيئا من كلام ضابط استخبارات بريطاني سابق جاء فيه:

«ليس من الصواب أن تقوم قوات الشرطة المحلية ببذل كل جهدها لحماية مجتمعاتنا بمواجهة الإرهاب من ناحية، بينما، من ناحية أخرى، تقوم عناصر في أجهزتنا الأمنية والأمريكية، بتسليح وتدريب هؤلاء الجهاديين والتورط في الإرهاب».

علاوة على ذلك، في مقال نشرته The Boston Globe، يقول البروفيسور جيفري ساكس، مدير مركز التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا:

«أطاحت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالحكومات في الشرق الأوسط في مناسبات لا تعد ولا تحصى. إلا أنه ثمة نزوع إعلامي إلى تجاهل فكرة تَوَرُّط الولايات المتحدة في حالة عدم الاستقرار تلك».

وعن تأييده الحلول السلمية متعددة الأطراف للصراع، كتب البروفيسور ساكس:

«يجب على الولايات المتحدة أن تنهي قتالها فورًا في الشرق الأوسط وأن تتحول إلى دبلوماسية مقرها الأمم المتحدة من أجل حلولٍ وأمن حقيقيين».

هناك العديد من الأعمدة الصحفية التي نشرت في الآونة الأخيرة من قبل غير المسلمين والتي تثبت حقيقة أن الجماعات الإرهابية مثل داعش ما كان لها أن تنشأ دون دعم خارجي. أنا لا أنفي ضرورة التدخل، لكن كل إجراء يجب أن يكون عادلاً ومتناسبًا ويجب تنحية المصلحة الخاصة جانبًا. تقول الآية 10 من سورة الحجرات من القرآن الكريم:

وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحب الْمُقْسِطِينَ

أي أن الهدف من كل تدخل يجب أن يكون دائمًا إقامة سلام طويل الأمد، وهي تأمر المسلمين بالعدل والقسط حتى مع خصومهم. وحيثما أذن الإسلام، كملاذ أخير، للمسلمين الأوائل بخوض حربٍ دفاعية، فقد أمرهم أيضا بالوفاء بمقتضيات العدل وأن لا يتأثروا أبدا بالمصالح الشخصية وأن لا يعتدوا بحجة إقامة السلام.

نبي الإسلام يُجسد النموذج الأمثل لإفشاء السلام في العالم
من المؤكد أن هذا المبدأ العميق مفيدٌ اليوم، سواء بالنسبة إلى المسلمين أو غيرهم على حد سواء، فحيثما يتطلب الأمر قوة لكف المعتدي عن الأذى، يجب أن تظل تلك القوة مناسبة لكف المعتدي عن أذاه، ولا تتطور إلى وسيلة للانتقام أو نهب ثروة المهزوم. وبمجرد أن يجنح المعتدي إلى السلم، لا يجوز حرمانه من حقوقه أو استغلاله بأي شكل من الأشكال.
لقد سعى نبي الإسلام طوال حياته إلى جمع الناس معًا في سلام، وكان على استعداد للتخلي عن حقوقه الشخصية لصالح الآخرين. كثير من الكتّاب والأكاديميين غير المسلمين، ممن درسوا الإسلام بعناية، يشهدون على حقيقة أن النبي محمد قد سعى إلى توحيد المجتمعات ودافع عن حرية المعتقد. على سبيل المثال، ذكر بيتر فرانكوبان، وهو باحث زميل مخضرم في جامعة أكسفورد، النبي الأكرم في كتابه «طرق الحرير»، وشرح المؤلف كيف سعى النبي محمد إلى الانسجام والحوار بين الأديان، وكيف عمل بشكل وثيق مع الطوائف المسيحية واليهودية في ذلك الوقت.

طوال حياته إلى جمع الناس معًا في سلام، وكان على استعداد للتخلي عن حقوقه الشخصية لصالح الآخرين. كثير من الكتّاب والأكاديميين غير المسلمين، ممن درسوا الإسلام بعناية، يشهدون على حقيقة أن النبي محمد قد سعى إلى توحيد المجتمعات ودافع عن حرية المعتقد.

ثم تحدث عن «الأرضية المشتركة» بين الطوائف الدينية في تلك الحقبة وكيف أن رسالة النبي الأكرم كانت رسالة «صلح». وفي مقطع من حديثه، أشار المؤلف إلى الفترة التي تم فيها تعيين نبي الإسلام كقائد إداري للمدينة، حيث كتب:

«تعهد يهود المدينة بدعم محمد مقابل ضمانات للدفاع المشترك، وقد وضع هذا في وثيقة رسمية فيها تعهد باحترام دينهم وممتلكاتهم الخاصة الآن وفي المستقبل من قبل المسلمين».

ثم كتب:

«ذهب محمد وأتباعه إلى أبعد مدى لتهدئة مخاوف اليهود والمسيحيين مع توسع السيطرة الإسلامية».

وهكذا، فإن الحقيقة هي أن الإسلام كان دائمًا معارضا تمامًا لأي شكل من أشكال الإرهاب أو التطرف. علاوة على ذلك، وفي حين أقبل أن الأعمال الشريرة لبعض المسلمين قد أضرت كثيرا بالمجتمع، فأنا لا أقبل أن المسلمين هم فقط يُشار إليهم بأصابع اللوم في تقلبات عالم اليوم. يقول العديد من المعلقين والخبراء الآن بشكل علني أن لأطراف غير مسلمة يدًا في تقويض السلام والتماسك الاجتماعي.
ما ذُكِر يبدو كافيا للقول بأن الإنسانية بدأت تُدرك أن المسلمين ليسوا وحدهم المسؤولين عن المشاكل في العالم.
علاوة على ما تقدَّم، حان الوقت أيضًا لأن يولي القادة اهتماما بالسلام والرخاء المستقبليين للإنسانية ، بدلاً من بدلا من وضع تقدم أحزابهم السياسية أو حكوماتهم على سلَّم أولوياتهم، هذا هو سبيل تحقيق السلام الحقيقي في العالم.
على المستوى الدولي الأوسع، يجب أن نعترف بحقيقة أن القوة قلَّما تجلب أية فائدة على المدى الطويل. وهكذا، عند التعامل مع كوريا الشمالية أو إيران أو أي بلد آخر، ينبغي على القوى الكبرى أن تتوخى الحذر والحكمة وتسعى لرعاية مصالح جميع الأطراف والاستماع لصوتها. وكما قيل في أحد الأعمدة التي ذكرتها، فإن على القوى العالمية أن تنتهج الدبلوماسية وتعطي الأولوية لتهدئة التوترات، عليهم أن يسعوا للتفاوض على صفقات واتفاقات سلام غير متحيزة لصالح جانب واحد وإنما تراعي مصالح جميع الأطراف. علاوة على ذلك، فبمجرد أن يتحقق السلام، يجب أن نترك أية أحقاد قديمة، ونمشي قدما بروح الاهتمام والاحترام المتبادل.

حان الوقت أيضًا لأن يولي القادة اهتماما بالسلام والرخاء المستقبليين للإنسانية ، بدلاً من بدلا من وضع تقدم أحزابهم السياسية أو حكوماتهم على سلَّم أولوياتهم، هذا هو سبيل تحقيق السلام الحقيقي في العالم.

بالتأكيد، إن قناعتي واعتقادي الراسخَين بأن المثال الأعظم الوحيد على الغفران والإحسان والرحمة في تاريخ البشرية هو المثال المبارك لمؤسس الإسلام، النبي محمد ، فلمدة ثلاثة عشر عاما، تعرض وأتباعه لاضطهادٍ وحشي لا يمكن تخيله وتم طردهم من منازلهم، واضطُرُّوا إلى الهجرة من مكة. وخلال تلك الفترة، تم إعمال القتل في المسلمين بوحشية، وعُذبوا جسديًا ونفسيًا وتعرضوا لأقسى أنواع الظلم الاجتماعي. ومنهم من أُلقي على الجمر الملتهب لفترات طويلة، ومن النساء المسلمات من ربطن من أقدامهن بجملَين فيُسَيَّر كل جمل في اتجاهٍ معاكس للآخر فتنفرق أجسادهن شِقَّينِ منفصلين. ومع ذلك، عندما عاد الرسول محمد إلى مكة منتصرًا، لم يرق قطرة دمٍ واحدة انتقاما. وبدلا من ذلك، ووفقا لأمر الله سبحانه وتعالى، أعلن العفو العام مباشرة عن كل من عذبوه وعن كل من عارض الإسلام بالعنف، وأعلن أن في ظل الحكم الإسلامي سيكون كل الناس أحرارًا في ممارسة دينهم ومعتقداتهم، دون أي تدخل أو سبب للخوف، وكان شرطه الوحيد أن يلتزم كل شخص في المجتمع بالسلام، وأعلن أن من حق الجميع، بغض النظر عن طائفتهم أو عقيدتهم أو لونهم، أن يتمتعوا بحقوقهم وأن يُعامَلوا باحترام في جميع الأوقات.
كان هذا هو المثال الخالد والرائع الذي ضربه نبي الإسلام ، وهذه هي روح الرحمة والمواساة التي يحتاج المسلمون وغير المسلمين إلى التحلي بها في العالم اليوم. هذه هي روح المغفرة والإحسان التي تحتاج كل الأمم إلى إظهارها، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، غنية أو فقيرة. عندئذ فقط يمكن تحقيق السلام على المدى الطويل.
من كل قلبي، أدعو أن يدرك الناس واجباتهم تجاه بعضهم البعض، بحيث يتذكرنا الذين يخلفوننا بفخر وامتنان. دعونا نتطلع إلى الغد ولا نَقْصِر نظرنا على اليوم فقط، دعونا ننقذ أجيالنا المستقبلية. أدعو الله أن يرزقنا الحكمة.
أشكركم مرة أخرى على انضمامكم إلينا هنا هذا المساء. شكرا جزيلا.»

* العناوين الجانبية من إضافة أسرة «التقوى»

Share via
تابعونا على الفايس بوك