أَمن العالم بين ثلاثة أَوامرٍ وثلاثة منهيات
  • ما العلاقة بين تلك الأوامر الثلاثة والنواهي الثلاثة ؟!
  • كيف يعدنا الشَّيْطَانُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُنا بِالْفَحْشَاءِ؟!
  • وصفة ناجعة لاجتناب الفحشاء والمنكر.
__

الخطاب النهائي الذي ألقاه أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام يوم 5|8|2018 في حديقة المهدي،
محافظة سري ببريطانيا بمناسبة الجلسة السنوية
.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين، آمين.

إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل: 91)

أمر الله تعالى في هذه الآية بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وقد تناولتُ هذا الموضوع في خطاباتي من زوايا مختلفة في السنوات الماضية، ولا يزال هذا الموضوع واسعًا جدا، ولإقامة الأمن في العالم ولجعْل الإنسان خلوقا ومؤدِّيا حقوق الآخرين وعابدا حقيقيا لخالقه لا بد من العمل بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ولا يمكن بيان هذا النموذج ما لم يرتفع مستوى الأخلاق والروحانية وما لم يتم تحديد مبادئ العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ضمن قيود وحدود معينة، لذلك فإن الله تعالى، الذي هو أعلم بنفسِيَّة الإنسان، قد ذكر المنهيات أيضا مع الأوامر فقال:

وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ .

ما العلاقة بين تلك الأوامر الثلاثة والمنهيات الثلاثة بعدها؟!
وما هي علاقة الأوامر بالنواهي؟ وما هي الحكمة والفلسفة وراءها؟ مع أنه في بادئ النظر لو أُقيم العدل وعُمِلَ بالإحسان وإيتاء ذي القربى كما ينبغي لما بقي هناك من سيئة، ولما بقيت سيئةٌ، فما الحاجة إلى ذكر النواهي؟! لقد ذكر المسيح الموعود علاقة الأوامر مع النواهي وحكمتها، فقال: كل هذه الحسنات إن لم توضع في مواضعها تصبح سيئات. فسيتحول العدل إلى فحشاء.. أي تجاوُز الحد إلى درجة يُستقبح فيها؛ وسيعود الإحسان منكرًا.. أي ما يرفضه العقل والوجدان؛ ويصبح «إيتاء ذي القربى» بغيًا.. أي أن ظهور عاطفة الشفقة في غير موضعها سيؤدي إلى مواقف مكروهة؛ ذلك أن البغي في الحقيقة هو المطر الذي يتجاوز الحد ويدمر الزروع، أو هو تجاوز الاعتدال في أداء الحق. وبالجملة فإن أي قسم من الأقسام الثلاثة إذا صدر في غير محله كان خُلُقًا سيئًا، ولهذا يُشترط أن يكون كل في محله. وينبغي ألا يغيبنّ عن الذهن هنا أن مجرد العدل أو الإحسان أو الشفقة التي هي كالشفقة بذوي القربى، لا يكون خُلُقا في حد ذاته، وإنما هي حالات طبْعية وملكات فطرية توجد حتى في الأطفال قبل نضوج العقل فيهم. وأما الخُلُق فهو مشروط باستخدام العقل، كما أنه مشروط بأن تستعمل كل قوة في موضعها. (فلسفة تعاليم الإسلام). فالإسلام قد وضع جميع الأحكام في حدود ومبادئ، والخروج عنها يؤدي إلى فساد.

تلك ماهية الفحش، فاجتنبوه
والآن سأبين بعض الأمور عن هذه النواهي من القرآن والحديث وأقوال المسيح الموعود ، لكي تعْلموا لحد ما أهميتها لتحسين حالتكم الأخلاقية والروحانية وتعلموا مضامينها ومعانيها. ما هو الفحش؟ نترجمه بالأردية بـ»عدم الحياء»، ولكن لا يُعلَم من هذه الترجمة سعة معانيه، عند اللغويين كل شيء جاوز حده فهو فاحشٌ، كما هو قول الله تعالى:

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ (البقرة: 269)

قال المفسرون أي الشيطان يأمركم بألا تتصدقوا، وعند البعض المراد من الفحش هنا هو البخل، ويقال للبخيل فاحشا، وفي لسان العرب: الفاحش سيئ الأخلاق المتشدد وشديد البخل، الفَحْشَاءُ والفَاحِشَةُ: ما عَظُمَ قبحه من الإثم، والبخل في أداء الزكاة، وعند البعض هو كل ما نهى الله عنه، والفُحْشُ والفَحْشَاءُ والفَاحِشَةُ: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، قال إسماعيل حقي وهو مفسر قديم: يَنْهى عَنِ الْفَحْشَاءِ، وهي الذنوب التي عظم قبحها قولا وفعلا مثل الكذب والبهتان وعدِّ الشريعة شيئا حقيرا والزنا والشذوذ الجنسي وكل ما يمنعك من الله تعالى ويقطع صلتك بالله ولو لبعض الوقت سواء كان المال أو الأولاد وغيرها من الأشياء فهي كلها من الفحشاء لأنه لا شيء أقبح من الانقطاع عن الله تعالى، وأسبابه أيضا تدخل في الفحشاء، فالذي يأخذ المرء إلى القبح هو أيضا قبيح، فتبيّن من ذلك أن المراد من الفحش والفحشاء كل قول وفعل يكون قبيحا أو يدفع إلى القبح ويمنع من أوامر الله. ويمكن أن يدّعي شخصٌ ملحد أيضا العدلَ في الأمور الدنيوية أو يمكن أن يعدل لحد ما في بعض الأمور وإن كان لا يستطيع أن يحقق جميع متطلبات العدل بحسب عقله ولكن لو كانت فيه بعض السيئات الأخلاقية وهو لا يؤمن بالله سلفا فلا نستطيع القول بأن مستوى عدله وفق ما يريده الله تعالى منا، يريد الله تعالى من المؤمن أن تكون حسناته الظاهرية أيضا حسنات حقيقية، ولا يمكن أن تصبح حسنات حقيقية ما لم يُعمَل بجميع أوامره وما لم يكن مستوى التقوى بحسب مرضاة الله تعالى، فمستوى العدل لدى المؤمن مجتنب الفحشاء هو أعلى بكثير من شخص دنيوي، لأنه يمكن لشخص دنيوي أن يعدل في الأمور الدنيوية إلى حد ما ولكنه لا يعمل بأحكام الله تعالى، لذا فعمَلُه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، إن كان يعمل بها، يكون خاليا من الروحانية، ولما كان خاليا من الروحانية لن ينشأ فيها الصفاء الذي يريده الله تعالى.

استخدم كلمة الحياء مقابل الفحش، وهذا يعني أن ابتعاد المرء عن الحياء يُقربه إلى الفحش..

ورد في رواية:

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ يَهُودًا أَتَوْا النَّبِيَّ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللهُ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْكُمْ قَالَ مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ. (صحيح البخاري، كتاب الأدب)

هذا هو المعيار لاجتناب الفحشاء ألَّا يدَع المرءُ أخلاقَه حتى عند إساءة العدو له واستهزائه به وسبِّه إياه، لم يكن جوابُ عائشة رضي الله عنها أيضا خارج دائرة العدل ولكن خَالَطه سُخط القلب وحين يخالط الأمرَ سخطُ القلب لا يعمل بالعدلُ بأعلى مستواه، لذا قال لها النبي : إِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ. استخدم هنا كلمة الفحش، وبحسب حكم الله تعالى لا يمكن إقامة العدلِ حقيقةً من دون اجتناب الفحشاء وإظهارِ الأخلاق العالية، لذا ردَّ النبي كلامهم عليهم بقوله: «عليكم». يجب أن نضع أمامنا هذه الأسوة حتى نُدرك هذا المستوى من العدل.
وكما قلتُ، المراد من الفاحش هو الشخص السيئ الأخلاق، ولكن كيف كان النبي يعامل مثلَ هذا الشخص؟ قالت عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:

اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ. قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلَامَ قَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ. (صحيح البخاري، كتاب الأدب)

فالفاحش الذي هو سيئ الكلام وسيئ الأخلاق الذي يتجنبه الناس ويتركونه بسبب فحشه وقسوة كلامه، قال النبي : إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ، أي لا يقتربون منه بسب أخلاقه السيئة وكلامه الفاحش ولكن النبي قال في رواية أخرى: مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا حتى أعامل بفحش هذا الشخص الذي جاء بيتي؟! انظروا إلى الدقة في الأخلاق العالية، وما لم يتيسر ذلك ما رسا العدلُ الحقيقي بل بسبب معاملة الآخرين يمكن أن يتأثر العدلُ.

ثم ورد في رواية أن النبي قال: مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ. (سنن الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله) هنا ، فالذين لا يحافظون على الحياء، رجالا كانوا أم نساء، ينجرّون إلى الفحشاء، وحين يتوجهون إلى الفحشاء تغلبهم أهواء النفس والذي تغلبه الأهواء لا يقدر على العمل بالعدل ولا الإحسان ولا إيتاء ذي القربى، فقول النبي هذا عميق للغاية.

ثم ورد في رواية:

أن جَابِر بْن سَمُرَةَ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا فِي مَجْلِسٍ فِيهِ رَسُولُ اللهِ وَأَبِي سَمُرَةَ جَالِسٌ أَمَامِي فَقَالَ رَسُولُ اللهِ إِنَّ الْفُحْشَ وَالتَّفَاحُشَ لَيْسَا مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ وَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ إِسْلَامًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا. (مسند أحمد، كتاب أول مسند البصريين) وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله : إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ. (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب)

فكما هو واضح من المعنى اللغوي هنا أن بذاءة اللسان أيضا من سوء الخُلق. ثم قال النبي ناصحا باجتناب الفاحشة وعدم الحياء: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا.

كيف يعدنا الشَّيْطَانُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرنا بِالْفَحْشَاءِ؟!
فكل ما ذُكر في هذا الحديث أنواع من الفحش وتقود إلى الذنوب أو هي ذنوب بحد ذاتها. ومن اجتنبها في هذه الدنيا بحسب أمر النبي سيجتنب ظلمات يوم القيامة. وقد جاء في القرآن الكريم بهذا الشأن:

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

فكما يتبين من المعنى اللغوي أن المراد من الفحش هو كل سيئةٍ ظاهرة. كذلك البخل أيضا يُعدّ فاحشة. والشيطان يخوِّف بالفقر ويأمر بالبخل. والبخل شيء مستنكَر لا يحبه الله تعالى. إذًا، الشيطان يخوِّف بالفقر ويأمر بالبخل وذلك لتقترفوا السيئات بدلا من الحسنات، ويحثكم على التفكير مثلا في أنكم لو ساعدتم الفقراء ودفعتم التبرعات كيف تنفقون على أنفسكم. أما إذا كان الإنفاق على اللغو واللعب فيأمر بالإنفاق فيها. ينفق الناس كثيرا في هذا المجال ولا يبخلون. هذا ما نرى عليه الناسَ الماديين ولكن الله تعالى يقول أنكم لو أنفقتم في سبيل الله لورثتم أفضال الله تعالى. وهذا ما جرّبه عدد لا يُحصى من أفراد الجماعة الإسلامية الأحمدية بفضل الله تعالى فلا يواجهون الفقر بل يرزقهم الله سعة وفضلا.

ثم يقول الله تعالى في القرآن الكريم:

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

من الواضح أن الإنسان عندما يقترف سيئة فسيقول ما ينافي أوامر الله تعالى وسيتمادى في سيئات مختلفة. المراد من السيئات المذكورة في

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ

تلك السيئات التي تضر صاحبها مثل سوء الظن والغفلة، والجبن والوقاحة والكبر وما شابهها من السيئات التي يعود ضررها على مرتكبها أكثر من غيره. الذي يسيء الظن فإنه يظل قلبه يحترق كمدا ويواجه قلقا دائما وهذا يضر نفسَه. وقد رأيت كثيرا من الناس على هذا الحال. ثم خذوا الغفلة مثلا، فإن صدر من المرء غفلة في أمر ما فهي تضر الغافل نفسه. وهناك ذنوب أخرى إذا ظل الإنسان يتمادى فيها ولم ينتبه إلى إصلاح نفسه تصبح سيئات تضر الآخرين أيضا، وهذا ما يعبّر عنه بالفحشاء. وكذلك الخيانة، فسواء كانت الخيانة في العمل أو المال فهي تضر الآخرين. فمثلا هناك بعض الناس يَعْرِضون أمام الحكومة ظروفهم بصورة خاطئة وهكذا ينالون من الدوائر الرسمية منافع مادية، فهم أيضا يرتكبون الفحشاء. وهناك من يتهم غيره ويحاول تشويه سمعته، فهذا أيضا فحشاء. وهناك من يقوم بالخديعة، فالخديعة والانحياز غير المبرر إلى أحد، وتحقيق المرء هدفه بإلحاق الضرر بغيره بتقديم الرشوة كما يحدث في باكستان وفي كثير من البلاد في العالم الثالث أيضا فحشاء. كل هذه الأعمال تقود مرتكبيها إلى الفحشاء والمنكر، وتجعل المرء يقف مقابل الله تعالى، وإن كان يدّعي الإيمان به . فإذا كان الحال على هذا المنوال تتفشى السيئات تلقائيا، وعندما تتفشى السيئات ويتلاشى الشعور عند المرء بإصلاح النفس، لأنها يمكن أن تتحول إلى سيئات قومية ومضرة بالآخرين، فلا يبقى العدل والإنصاف قائما في المجتمع. ونرى هذه الحالة سائدة في البلاد التي تتلاشى فيها القيم الأخلاقية وغيرها.

معنى المنكر.. وسبب ارتكاب الناس السيئات
وبعد النهي عن الفحشاء نهى الله تعالى عن المنكر. سأذكر لكم الآن معاني كلمة، «منكر» التي وردت في معاجم مختلفة. يقول الإمام الراغب: «الإنكار ضد العرفان… والمنكر كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه». وجاء في لسان العرب: المُنْكَرُ وهو ضد المعروف وكلُّ ما قبحه الشرع وحَرَّمَهُ وكرهه فهو مُنْكَرٌ. وفي أقرب الموارد: ما ليس فيه رضى الله من قول أو فعل»، ويقول العلامة الآلوسي: المنكر: ما يُنكر على متعاطيه من الإفراط في إظهار القوة الغضبية.
ويقول العلامة جلال الدين السيوطي رواية عن ابن عباس ما مفاده: المراد من المنكر هو التكذيب، وهو أقبح الأمور.
وكما قلتُ من قبل إن الله تعالى نهى عن المنكر بعد الفحشاء. ويتبين من التفسير الذي أوردته أنه إذا ساد الفحشاء والمنكر لا يقوم العدل وإذا بلغت الفحشاء حد المنكر وأصر مرتكبوها عليها وكذّبوا الصدقَ فلا يُتوقع منهم الإحسان. فالمنكرون هم من ابتعدوا عن الحسنات، وغلبت عليهم النفس وتمادوا في جلب المنافع الشخصية ويكذّبون رسالة الله تعالى بالظلم. هذا ما يفعله بعضُ الناس وبعض الأحزاب والحكومات مع الأحمديين في هذه الأيام. لقد جاء في حديث أن النبي قال:

إِنَّ اللهَ لَيَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقُولَ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَ الْمُنْكَرَ أَنْ تُنْكِرَهُ فَإِذَا لَقَّنَ اللهُ عَبْدًا حُجَّتَهُ قَالَ يَا رَبِّ رَجَوْتُكَ وَفَرِقْتُ مِنَ النَّاسِ.

هذه مأساة يواجهها المسلمون في هذه الأيام وقد حذّرهم النبي منها ومع أن هذه الآية تتُلى كل يوم جمعة ويتم التذكير بها مرارا، مع ذلك يخشى البعضُ الناسَ أكثر من خشية الله تعالى وبسبب ذلك يتمادون في ارتكاب السيئات.

وجاء في رواية أخرى عن عبد الله بن مسعود ما مفاده: جاء رجل إلى النبي وقال: كيف أعلم ما إذا كان ما أقوم به حسنة أم سيئة؟ فقال : إذا سمعتَ جيرانك يقولون: أحسنتَ فاعلم أنك قمتَ بالحسنى، وإذا سمعتَهم يقولون: أسأتَ، فاعلم أنك لم تحسن الصنع.

إذًا، إذا سعى المرء لأداء حقوق الجيران وتَجَنَّبَ إيذاءَهم وحاول رفع المصائب عنهم وسعى لإراحتهم قدر الإمكان عندها يُعدّ عاملا بأوامر الله تعالى، وإذا كان الجار راضيا عن سلوك جاره يرضى عنه الله أيضا وإلا سيسخط عليه الله ويُعَدّ من المنكرين.

بأية مزية يجب أن يتحلى المؤمن؟!
ماذا يجب أن تكون مزيَّة المؤمن وسلوكه؟! وماذا يريد الله من المؤمن؟! يقول المسيح الموعود في بيان ذلك: «من خصائص المؤمنين أنهم يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لكن من واجب الإنسان، قبل أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أن يُثبت بعمله أنه يملك هذه القدرة، لأنه قبل أن يؤثِّر في الآخرين يجب أن يجعل حالته مؤثِّرة، فلا تكفّوا اللسان عن الأمر بالمعروف والنهْي عن المنكر أبدا، إلا أن مراعاة الظروف أيضا ضرورية، وينبغي أن يتّسم أسلوب بيانكم باللين والرفق. وكذلك فإن التفوه بما ينافي التقوى إثم كبير».
إذًا، لا شك أن من صفات المؤمن أنه ينهى عن المنكرات وعما ليس في محله، ولكن من واجبه قبل نهيه الآخرين أن يجعل سلوكه جديرا بالتأثير فيهم ويحسِّن حالته العملية، لأن حسن العمل هو الذي يقدر على التأثير في الآخرين. كذلك لا بد من الانتباه إلى أن الكلام يجب أن يراعي المحل والمكان. لا شك أن النهي عن المنكر مستحسن، ومن ينهَ الآخرين عن المنكر يُنقذ من بطش الله تعالى. ولكن يجب أن يفعل الإنسان ذلك مراعيا المحل والمناسبة، فمثلا إذا رأى أحد عيبا في غيره فلا يجوز له أن يبدأ في بيانه ونشره بين عامة الناس، أو انتقاده، أو أن يبدأ بالحديث ضده على المنصة إذا كان يَتَبَوَّأ منصبا في الجماعة.
باختصار، من المستحسن جدا أن الناهين عن المنكرات ينقذون الناس من السيئات والذنوب وبالتالي من بطش الله تعالى، إذا نصحوهم بأسلوب صحيح. وأضف إلى ذلك أن سلوك الذين ينهون عن المنكر يصبح إحسانا أيضا، ولكن الشرط الضروري لذلك هو أن يكون سلوك الناصح حسنا أولا ثم يجب أن ينصح مراعيا المناسبة والمحل، وبكلام ليّن، وبالتقوى. هذا هو الأسلوب الجميل الذي من شأنه أن ينشر الحسنات في العالم بالتواضع.

وصفة ناجعة لاجتناب الفحشاء والمنكر
لقد وصف الله تعالى للمؤمنين وصفة لاجتناب الفحشاء والمنكر، ولو استخدمها المرء استخداما سليما تجنبَ الفحشاء والمنكر بل نجّى منها ذريته أيضا، بل صار قدوة للدنيا وأنقذها من السقوط في هوة الدمار. يقول الله تعالى

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (العنكبوت: 47)

وفي آيات أخرى قد أمر الله تعالى المؤمنين بالصلاة مع الجماعة، لأن المراد من إقامة الصلاة أداؤها جماعةً، وأداءُ الصلاة جماعةً يزيد المؤمنين حبًّا ومودة، كما ينهى الإنسان عن الفواحش والمنكرات، لأن المرء إذا صلى جماعة قضى كثيرا من وقته في العبادة وهكذا نجا من التفكير في المنكرات. فلا جرم أن العبادة لو قام بها المرء مع شروطها فإنها تنجيه من الفحشاء والمنكر والسيئات. أما الصلاة التي لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر- وهذا يحدث أحيانا إذ يَكِنُّ الناس رغم حضورهم المساجد الحقد والضغينة للآخرين ويتكلمون ضدهم، وإذا خرجوا من المسجد يتقاتلون في الشوارع ويتفرج عليهم الناس، فمثل هذه الصلوات تجعل أصحابها آثمين، كما يُنَفِّرون بها من الدين الناسَ الماديين، مع أن المفروض أن يعرضوا عليهم الدين. لقد ورد في الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلا بُعْدًا.

فالصلاة الحقيقية التي تؤدَّى لوجه الله خالصةً تنهى عن الفحشاء والمنكر حتما، ولكن إذا شابت الصلاةَ شوائبُ الدنيا، كما نرى ذلك عند البعض وفي بعض البلاد الإسلامية حيث يتبادل المشايخ في مساجدهم فتاوى التكفير ويهذون بكلمات نابية، فإن هذه الصلوات لا تنهى أصحابها عن الفحشاء والمنكر، بل تزيدهم إثما على إثم.

صفة الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر
يقول المسيح الموعود عليه السلام وهو يصف الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر وتجعل صاحبها يفوز برضا الله تعالى:
إن اللذة والمتعة في الصلاة إنما تتيسر نتيجة الاتصال بين العبودية والربوبية. فما لم يطرح العبد نفسه أمام الله تعالى معتبرا نفسه كالمعدوم تمامًا أو شِبْهَ معدوم كما هو مقتضى الربوبية، فلا ينـزل عليه فيضها ولا ظلُّها.

أي لا بد للمرء في الصلاة من منتهى التواضع والانكسار واعتبار نفسه كالمعدوم، ولا بد من السعي للعمل بأحكام الله تعالى لكي يذيقه الله طعم الصلاة الحقيقية التي ينزل بها عليه فيض الله وظله. ثم يقول حضرته عليه السلام:
ولو تيسّر للمصلي ذلك لنال متعة ما بعدها متعة. في هذا المقام حين تصبح روح الإنسان كالمعدوم تماما، فتسيل إلى الله تعالى كعين جارية، وتنقطع عمّا سوى الله انقطاعا تاما (أي لا يبقى أمامه شيء سوى الله تعالى)، وعندها تنزل عليه محبة الله تعالى، وباتصال هذين الهِياجينِ، هياج الربوبية من الأعلى وهياج العبودية من الأسفل، تتولد كيفية خاصة اسمها الصلاة، وتلك الصلاة هي التي تحرق السيئات وتجعلها رمادًا، وتترك وراءها نورًا ولمعانًا ينفع السالك كمصباح منير عند أهوال الطريق وصعوباته، وتُطلِعه على كل ما يعترض طريقَه من عوائق مِن عشب وشوك وحجر عثرة، وتقيه منها. هذه هي الحالة التي يصدق عليها قول الله تعالى:

إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ

إذ لا يكون سراج منير في يده بل يكون في قلبه. وهذه الدرجة إنما تُنال بالتذلل الكامل والفناء الكامل والتواضع الكامل والطاعة الكاملة، وأنى له، و الحال هذه، أن يخطر الإثم بباله؟! كلا بل يستحيل أن يتولد عنده الإنكار والعصيان ويرتفع بصره إلى الفحشاء. باختصار، تتيسر له لذة ومتعة لا أظن أني قادر على بيانها.

إن اللذة والمتعة في الصلاة إنما تتيسر نتيجة الاتصال بين العبودية والربوبية. فما لم يطرح العبد نفسه أمام الله تعالى معتبرا نفسه كالمعدوم تمامًا أو شِبْهَ معدوم كما هو مقتضى الربوبية، فلا ينـزل عليه فيضها ولا ظلُّها.

ويقول المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام: إن الصلاة أيضا وسيلة لاجتناب الذنوب. من مزايا الصلاة أنها تنهى عن الإثم والمنكر. فابحثوا عن صلاة مثلها، واسعوا لتجعلوا صلاتكم على هذا المنوال. الصلاة روح العبادات، وتأتي ألطاف الله تعالى بواسطة الصلاة نفسها. فأدّوها بكل شروطها لترثوا نعمة الله تعالى.

ثم قال عليه السلام: قال الله تعالى (إن الحسنات يذهبن السيئات)، وقال في آية أخرى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)، على الرغم من أننا نرى البعض يصلون ومع ذلك يعملون السيئات، لماذا؟! الجواب أنهم يصلّون، ولكن ليس بالروح والصدق (أي لا يصلون بطريقة سليمة إذ تخلو صلاتهم من الروح التي هي ضرورية لأداء الصلاة)، وإنما ينقرون نقرات تقليدًا وعادةً فحسب، وروحهم ميتة. والله تعالى لم يسمّ صلاتهم حسنات. لقد قال الله تعالى هنا «الحسنات» ولم يقل: «الصلاة»، مع أن المعنى واحد، ذلك ليشير إلى مزية الصلاة وحسنها وجمالها وليبين أن الصلاة التي تتّسم بروح الحق وفيض التأثير تُذهب السيئات يقينا. الصلاة ليست اسما للقيام والقعود، بل الحق أن مخّ الصلاة وروحها هو ذلك الدعاء المقرون بلذة ومتعة.

فعلينا أن نسعى لأداء مثل هذه الصلوات، وعندها ينجو المرء من الفواحش والمنكرات والمعاصي، ويصبح نافعًا للناس، وتصبح أدعيته ظلاًّ ظليلاً للبشرية. مثل هذه الصلوات والدعوات التي يجب أن نقوم بها من أجل الإحسان إلى العالم في هذا العصر لكي تخرج الدنيا من الفحشاء والمنكر.

البغي، وسبب النهي عنه
والأمر الثالث الذي نُهينا عنه في هذه الآية هو البغي. والبغي معناه طلبُ المرء تجاوُزَ حدِّ الاعتدال، سواء تجاوزَه أو لم يتجاوزه، فتارةً من حيث القدر أي الكمية وتارة من حيث الكيفية أي الوصف. وبغيتُ الشيء وابتغيتُه: إذا طلبت أكثرَ مما يجب؛ قال الله تعالى: يبغونكم الفتنة. والبغي قسمان: محمود ومذموم. ومن معاني البغي: تجاوُزُ الحد، والظلمُ، والفساد، والحسد، واضطراب الحصان ونفوره، ونزول المطر أكثر من اللازم.

وقال جلال الدين السيوطي عن ابن عباس: البغي: التكبر والظلم. وقال العلامة إسماعيل حقي: البغي: الظلم والاستيلاء على الناس والتطاول عليهم بلا سبب وتجسُّسُ عيوبهم وغيبتُهم والطعنُ عليهم والتجاوزُ من الحق إلى الباطل.

ومع أن البغي استُعمل بالطريقتين مذمومًا ومحمودًا، إلا أنه ورد في القرآن الكريم بالمعنى المذموم أكثر، كقول الله تعالى: (يبغون في الأرض بغير الحق)، أي يثيرون الشر في البلاد بغير الحق. وقوله تعالى: (إنما بغيُكم على أنفسكم)، أي وبال شروركم يقع على أنفسكم. وقوله تعالى (ثم بُغِيَ عليه لينصرُنّه الله)، إذا اعتُديَ عليه فإن الله تعالى سيعنيه. وقوله تعالى (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم)، أي اعتدى عليهم.

والآية التي استهللت بها خطابي قد نهى الله فيها أيضا عن البغي، وقد ورد فيها أيضا بالمعنى المذموم.
هناك رواية عن ابن عمر أن رسول الله سئل: «أي الناس خير؟ قال: نقيُّ القلب صادق القول. فقيل يا رسول الله: نعلم صادق القول، لكن من هو نقي القلب؟ قال : التقي النقي الذي ليس في قلبه إثم ولا بغي ولا حقد ولا ضغن ولا حسد. وفي رواية أن رسول الله قال: ما من ذنبٍ أجدرُ أن يعجِّل اللهُ لصاحبه العقوبةَ في الدنيا مع ما يدخّر له في الآخرة مثلُ البغيِ وقطيعةِ الرَحِم.

فالبغي وقطع الرحم ذنبان يعاقب الله عليهما في الدنيا عاجلاً كما يدخر العقوبة عليهما في الآخرة أيضا. فقطيعة الرحم وعدم الحفاظ على القرابات بسبب أمور تافهة إثمٌ كبير ويندرج تحت البغي، فبعض النساء خاصة يكتبن لي أن أزواجهن يضطرونهن إلى قطيعة الرحم على أتفه الأسباب، أو يقطعون بأنفسهم صلات القرابة.
وهناك رواية عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي قال: «إن أسرعَ الخير ثوابًا البرُّ وصلةُ الرحم، وأسرعَ الشر عقوبةً البغيُ وقطيعة الرحم.
إن هذا إنذار شديد جدا.

وفي حديث:

عَنْ وَاثِلَةَ بن الأَسْقَعِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ، يَقُولُ:الْمُسْلِمُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَعِرْضُهُ، وَمَالُه. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، وَالتَّقْوَى هَهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْقَلْبِ، وَبِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ.

وبعبارة أخرى مَن تجاوز الحد في هذه الأمور صار باغيا. وما يفعله المسلمون بإخوانهم اليوم يندرج تحت فتوى الرسول هذه، وإنهم يستوجبون عليه عقاب الله تعالى.
ماذا كانت أسوة الرسول ؟ وكيف كان يدعو الله تعالى ليتجنب كل ظلم وعدوان؟ هناك رواية بهذا الصدد:

عن أم سلمة قَالَتْ كلما خَرَجَ النَّبِيُّ مِن بيته قَالَ اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ من أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ.

فهذا يشمل جميع الأمور لاجتناب شر النفس والضلال وارتكاب الظلم وشر الظالم واجتناب كل سيئة.

عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى (أي منطقة خاصة يُمنع الدخول فيها) أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ (أي أن ارتكاب ما نهى الله عنه بغي وبمنـزلة الدخول في حماه ويترتب عليه العقاب) أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ.

فحين تَفسد قطعة اللحم هذه، أي القلب، يستولي على الإنسان الفحشاء والمنكر والبغي، ولا يستطيع اجتناب ذلك إلا بفضل خاص من الله . أي يمكن أن يجتنبها بالاستعانة بالله والإنابة إليه. أما في العصر الراهن فهذه الأشياء متفشية في كل مكان، وهي تغري الإنسان باقتحام حِمى الله. والشيطان يشن هجماته بكل قوة. فهناك وسائل شتى تسوق المرء أولا إلى الفحشاء وتبعده عن أسمى الخلق والدين، حيث ينشأ لديه الاعتراض على بعض أمور الدين، مع أن الإسلام دين يلائم الطبع الإنساني. وحين يترك الإنسان أمورا صغيرة خضوعا للدجال واستجابةً للشيطان يرتكب ما نهى الله عنه من الكبائر أيضا. ثم يثير الاعتراض على بعض الأمور ويبتعد عن الدين أكثر. ثم ينشأ لديه البغي والابتعاد عن الدين ويعتبر الدين وزْرًا، ويبدأ في التمرد عليه. ويبدأ في الاعتراض على أوامر الله أو أحكام الدين، ثم يتمادى في البغي حتى ينكر وجود الله في نهاية المطاف.

وباتصال هذين الهِياجينِ، هياج الربوبية من الأعلى وهياج العبودية من الأسفل، تتولد كيفية خاصة اسمها الصلاة، وتلك الصلاة هي التي تحرق السيئات وتجعلها رمادًا، وتترك وراءها نورًا ولمعانًا ينفع السالك كمصباح منير عند أهوال الطريق وصعوباته، وتُطلِعه على كل ما يعترض طريقَه من عوائق مِن عشب وشوك وحجر عثرة، وتقيه منها.

وهذا هو سبب انحراف الناس عن الدين حصرا، فهناك كثير من المسلمين الذين حين لا يفقهون أحكام الدين يظنون أن الدين لا يناسب العصر الحديث وثمة حاجة إلى التعديل فيه. بل يقولون صراحة أنهم يسمَّون مسلمين بالاسم فقط أو بسبب انتمائهم إلى عائلة مسلمة. وإلا فلا إيمان لهم بالإسلام. فأمثال هؤلاء المسلمين يقابلونني أحيانا. ففي مثل هذه الأوضاع يجب على الأحمدين أن يبذلوا الجهود الحثيثة ويتمسكوا بعهد إيثار الدين على الدنيا ومراعاة حمى الله والإنابة إليه أكثر من ذي قبل، ففي رواية عن ابن عباس نجد دعاء النبي : رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ الْهُدَى لِي وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ. رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مُطِيعًا، إِلَيْكَ مُخْبِتًا، إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا. رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي وَأَجِبْ دَعْوَتِي وَاهْدِ قَلْبِي وَسَدِّدْ لِسَانِي وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي.

يجب المداومة على هذا الدعاء لتقوية الإيمان، فهو دعاء شامل. يقول سيدنا المسيح الموعود ناصحًا أبناء جماعته:
يجب أن تكون مواساة البشر جميعا مبدأكم. واحمُوا أيديكم وألسنكم وأفكاركم وقلوبكم من كل كيد خبيث وطرقِ فسادٍ وخيانة. اتقوا الله واعبدوه بقلوب نقية. واجتنبوا الظلم والاعتداء والغصب والرشوة وهضم الحقوق والحوز غير المشروع. اجتنبوا الصحبة السيئة واحفظوا الأعين من النظرات السيئة، وأنقذوا آذانكم من سماع الغيبة. ولا تنووا الإساءة إلى أحد أو إيذاءَه أيا كان دينه وقومه أو فئته؟ كونوا ناصحين أمناء لكل واحد. يجب ألا تجالسوا المفسدين والأشرار والوقحين وذوي السلوك السيئ. اتقوا كل سيئة واسعوا جاهدين لكسب كل حسنة. ينبغي أن تكون قلوبكم نقية من كل خديعة، وأيديكم بريئة من كل ظلم، وأعينكم منزَّهة عن كل رجس، ويجب ألا تتطرق إليكم السيئة والبغي أبدا. ينبغي أن تسعَوا بكل ما في وسعكم لمعرفة الله، فالتمسك به عين النجاة، والوصول إليه هو الاستقلال بعينه. إن ذلك الإله يتجلى على الذي يبحث عنه بصدق القلب والحب. إنه يتجلى على الذي يصبح له كله. إن القلوب الطاهرة هي عرشه عز وجل، والألسن النزيهة من الكذب والشتائم والهذيان هي محل وحيه. وكل من يفنى في رضاه يصبح مظهرا لقدرته الإعجازية.

وقال حضرته في موضع آخر:
يا أبناء جماعتي، كان الله معكم، وأعَدَّكم ذلك القادر الكريم لسفر الآخرة كما أُعِدَّ أصحابُ النبي الأكرم . اعلموا جيدا أن الدنيا ليست بشيء، وملعونة تلك الحياة التي هي من أجل الدنيا فقط، وشقي ذلك الشخص الذي يكون كل همه وغمه من أجلها. إن شخصا كهذا ليس من جماعتي قط، وإنما ينسب نفسه إليها عبثا، فهو كغصن جاف لن يثمر.

أيها السعداء، انكبّوا على التعليم الذي أُعطِيته من أجل نجاتكم، اتخذوا الله واحدا لا شريك له ولا تشركوا به شيئا لا في السماء ولا في الأرض. لا أمنعكم من الأخذ بالأسباب، ولكنه مشرك مَن يهجر الله تعالى ويعتمد على الأسباب فقط. لقد قال الله تعالى منذ القِدم أنْ لا نجاة دون صفاء القلب، فكونوا أصفياء القلوب وتخلَّوا عن الضغائن والغضب. في نفس الإنسان الأمارة أنواع عدة من النجاسة، ولكن أسوأها نجاسة الكبِر. لولا الكبر لما بقي أحد كافرا، فكونوا متواضعين، وواسُوا بني البشر بشكل عام. إنكم تعظونهم للفوز بالجنة، ولكن كيف تكون موعظتكم في محلها ما لم تكونوا لهم من الناصحين في هذه الدنيا الفانية. اعملوا بفرائض الله بخشية قلبية، لأنكم ستُسألون عنها. أكثروا من الدعاء في الصلوات ليجذبكم الله إليه ويطهِّر قلوبكم، لأن الإنسان ضعيف، ولا يمكن أن يتخلص من أية سيئة إلا بقوة من الله تعالى، وما لم ينل الإنسان قوةً من الله، فلا يقدر على التخلص من السيئة. ليس المراد من الإسلام أن يُقال عن أحدٍ إنه ينطق بالشهادة عادةً فقط، بل حقيقة الإسلام أن تخِرَّ أرواحكم على عتبة الله تعالى، وأن تقدموه وأوامره على دنياكم في كل أمر.

نسأل الله أن ينضم كل واحد منا إلى الذين لا يقتحمون حمى الله بحسب ما أمر النبي ويجتنبون الفحشاء استجابة لأوامر الله . ولا نكون أبدًا من المنكرين، ولا يخطر ببالنا أبدا معصية الله في أوامره. وهذا هو الهدف الذي من أجله قد بُعث المسيح الموعود . وهذه هي الغاية التي لتحقيقها قد بايعناه، فقد قال في عدة مواضع: إن ما يُهمني أكثر هو تصحيح الإيمان وتحسين الأخلاق. فلا فائدة من مجرد إكثار العدد، إن لم يكن هنالك تقدُّم في الإيمان والأخلاق الفاضلة. نسأل الله تعالى أن يحرز كل واحد منا المستوى الذي يريده المسيح الموعود منا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك