تحت سلسلة السيرة المطهرة يتناول الكاتب سيرة حضرة ميرزا غلام أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود
مُبرزًا الوقائع والأحداث الهامة من حياة حضرته المطهرة
ذكرنا في الحلقة الماضية مدى الحب والاحترام والتقدير الذي كان يشعر به سيدنا أحمد تجاه سيده وسيد الخلق أجمعين.. سيدنا محمد المصطفى ، وكيف أنه كان يُرجع كل فضل ناله وكلَّ خير أصابه إلى طاعته لله تعالى وإلى تأسّيه الكامل بهذه الأسوة الحسنة. لقد انسكبت مشاعره في كلمات وأبيات شعرية تعبر عن حب صادق وتقدير عارم لهذا النبي الأعظم . وقد نشرنا تحديا لمعارضي الأحمدية أن يقرأوا أبياته الشعرية لعل قلوبهم تدرك صدق إحساسه، ووجدانهم يهتز لعمق مشاعره، أو يقرأوا الأبيات التالية التي اقتطفناها من قصيدة أخرى.
إِلَهِي أَغِثْنَا وَاسْقِنَا وَاحْمِ عِرْضَنَا
بِسُلْطَانِكَ الأَجْلَى وَإِنَّكَ أَقْدَرُ
.
تَعَالَيْتَ يَا مَنْ لا يُحَاطُ كَمَالُهُ
لَكَ الحَمْدُ حَمدًا ليْسَ يُحْصَى ويُحْصَرُ
.
فَخُذْ بِيَدِي يَا رَبِّ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ
وَأَيِّدْ غَرِيبَاً يُلْعَنَنْ وَيُكَفَّرُ
.
وَأَنْتَ الْمُهَيْمِنُ مَرْجِعُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ
وَأَنْتَ الْحَفِيظُ تُعِينُني وَتُعَزِّرُ
.
وَمَا غَيْرُ بَابِ الرَّبِّ إلّا مَذَلَّةٌ
وَمَا غَيْرُ نُورِ الرَّبِّ إِلّا تَكَدُّرُ
.
وَعُلِّمْتُ مِنْكَ حَقَائِقَ الدِّينِ وَالْهُدَى
وَتَهْدِي بِفَضْلِكَ مَنْ تَرَى وَتُنَوِّرُ
.
وَإِنَّ إمَامِي سَيِّدُ الرُّسُلِ أَحْمَدُ
رَضِينَاهُ مَتْبُوعَاً وَرَبِّي يَنْظُرُ
.
وَلَا شَكَّ أَنَّ مُحَمَّدَاً شَمْسُ الْهُدَى
إِلَيْهِ رَغِبْنَا مُؤْمِنِيْنَ فَنَشْكُرُ
.
لَهُ دَرَجَاتٌ فَوْقَ كُلِّ مَدَارِجٍ
لَهُ لَمـــَعَاتٌ لَا يَلِيهَا تَصَوُّرُ
.
أَبَعْدَ نَبِيِّ اللهِ شَيْءٌ يَرُوقُني
أَبَعْدَ رَسُولِ اللهِ وَجْهٌ مُنَوَّرُ
.
عَلَيْكَ سَلَامُ اللهِ يَا مَرْجَعَ الْوَرَى
لَكُلِّ ظَلاَمٍ نُورُ وَجْهِكَ نَيِّرُ
.
وَيَحْمَدُكَ اللهِ الْوَحِيدُ وَجُنْدُهُ
وَيُثْنِي عَلَيكَ الصُّبْحُ إِذْ هُوَ يَجشُرُ
.
مَدَحْتُ إمَامَ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّهُ
لَأَرْفَعُ مِنْ مَدْحِي وَأَعْلَى وَأَكْبَرُ
.
دَعُوا كُلَّ فَخْرٍ لِلْنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
أَمَامَ جَلاَلَةِ شَأْنِهِ الشَّمْسُ أَحْقَرُ
.
وَصَلُّوا عَلَيْه وَسَلِّمُوا أَيُّهَا الْوَرَى
وَذَرُوا لَهُ طُرُقَ التَّشَاجُرِ تُؤْجَرُوا
.
وَوَاللهِ إِنِّي قَدْ تَبِعْتُ مُحَمَّدَاً
وَفِي كُلِّ آَنٍ مِنْ سَنَاهُ أُنَوَّرُ
.
وَفَوَّضَني رَبِّي إِلَى رَوْضِ فَيْضِهِ
وَإِنِّي بِهِ أَجْنِي الْجَنَى وَأُنَضَّر
.
وَلِدِينِهِ فِي جَذْرِ قَلْبِي لَوْعَةٌ
وَإِنَّ بَيَانِي عَنْ جَنَانِيَ يُخْبِرُ
.
وَرِثْتُ عُلُومَ الْمُصْطَفى فَأَخَذْتُهَا
وَكَيْفَ أَرُدُّ عَطَاءَ رَبِّي وَأَفْجُرُ
.
وَوَاللهِ إِنِّي جِئْتُ مِنْهُ مُجَدِّدَاً
بِوَقْتٍ أَضَلَّ النَّاسَ غُولٌ مُسَخَّرُ
.
وَعَلَّمَني رَبِّي عُلُومَ كَتَابِهِ
وَأُعْطِيتُ مِمَّا كَانَ يُخْفَى وَيُسْتَرُ
.
وَأَسْرَارُ قُرْآنٍ مَّجِيدٍ تَبَيَّنَتْ
عَلَيَّ وَيَسَّرَ لِي عَلِيمٌ مُيسِّرُ
.
أَلَا لَيْسَ غَيْرَ اللَّهِ شَيْءٌ مُدَوَّمٌ
وَكُلُّ جَلِيسٍ مَا خَلَا اللهَ يَهْجُرُ
.
وَآَخِرُ دَعَوْانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّذِي
هَدَانَا مَنَاهِجَ دِينِ حِزْبٍ طُهِّرُوا
(حمامة البشرى، الخزائن الروحانية، ج 7 ص 329-335)
ما أصدق هذه الكلمات، وما أعظمَ هذا التقديرَ.. إنه يمدح إمام الأنبياء، ولكنه يشعر أنه مهما مدح ذلك النبي الأعظم، فإنه لأرفع من كل مدح، وأعلى من كل شأن، وأكبر من كل مقام.
وحيث إنه من أتباع إمام الأنبياء الذي أضاءت أنواره أرجاء هذا العالم، فقد أصابه هو أيضًا ذلك النور وصار يُنير بفضل سناه في كل آن. ومن أجل هذا النور الذي ملأ كيانه فقد صار في أعماق جنانه وفي أغوار فؤاده وفي جذور قلبه لوعة لدين المصطفى ، لا يخبر عن حقيقة أمرها سوى صدق بيانه، كما يقول:
مَدَحْتُ إمَامَ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّهُ
لَأَرْفَعُ مِنْ مَدْحِي وَأَعْلَى وَأَكْبَرُ
.
وَوَاللهِ إِنِّي قَدْ تَبِعْتُ مُحَمَّدَاً
وَفِي كُلِّ آَنٍ مِنْ سَنَاهُ أُنَوَّرُ
.
وَلِدِينِهِ فِي جَذْرِ قَلْبِي لَوْعَةٌ
وَإِنَّ بَيَانِي عَنْ جَنَانِيَ يُخْبِرُ
.
هذه بعض الأمثلة مما كتبه سيدنا أحمد نثرًا وشعرًا في اللغة العربية فقط ولكن ليُعبر عن سمو مقام رسول الله العظيم، وعن مدى محبته له، فتجيش نفسه حبًّا، ويفيض قلبه غراما، ويذوب فؤاده هياما، وتنساب الكلمات الصادقة معبرة عن الاحترام والتقدير، ويخط قلمه أبياتا تنبئ عن الود والتوقير. وحقًّا لقد صدق حين قال: وَإِنَّ بَيَانِي عَنْ جَنَانِيَ يُخْبِرُ
ولكن كم كان يحزنه ألّا يدرك المسلمون عظمة ذلك النبي الذي علا مقامه فوق كل مقام، فكان يرى في قعودهم عن نصرة دين نبيهم توهينا لشأن خاتم المرسلين، ولم يكن ليكتفي منهم ببضع كلمات يُتَمْتِمُونَ بها في الصلاة، أو بعض المظاهر التي يتحلّون بها كإطلاق اللحى وحفّ الشوارب، بل كان يرى أن المحبّة الحقيقة هي في الذود عن كرامة المصطفى والدفاع عن دينه وملته، والجهاد المستمر للتصدي لأولئك الذين كانوا يتطاولون على شرف سيد الخلق ويطعنون في صدقه وصداقته.
وقال بهذا الصدد باللغة العربية:
“ونَحَتُوا للرسول الكريم بهتاناتٍ، وأَضلُّوا خَلقًا كثيرًا بتلك الافتراء. وما آذى قلبي شيءٌ كاستهزائهم في شأن المصطفى، وجَرحِهم في عِرْضِ خيرِ الورى. وواللهِ، لو قُتِّلتْ جميعُ صبياني، وأولادي وأحفادي بأعيني، وقُطّعت أيدي وأرجُلي، وأُخرجتِ الحَدَقَةُ من عيني، وأُبْعِدتُ من كلِّ مرادي وأَوْني وأَرَني.. ما كان عليّ أشَقَّ من ذلك.” (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج 5 ص 15)
هذه المشاعر الجياشة التي كان يحملها لسيده ومولاه رسول الله لم يُعبر عنها باللغة العربية فحسب، بل كتب الكثير والكثير باللغة الأردية والفارسية، ورغم أن ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى تُفقده معناه وموسيقاه ووزنه وقافيته والكثير من تأثيره، غير أننا نود أن نقدم للقارئ ترجمة لمنظومة نظمها باللغة الفارسية، وتتميز أبياتها بأنها تنتهي جميعًا باسم حبيبه محمد . يقول ما ترجمته:
إن النور في نفس محمد لأعجب الأنوار
وإن أروعَ الجواهرِ لجواهرُ معدنِ محمدٍ
وتتطهر من جميع الظلمات.
قلوب أولئك الذين يصيرون من طائفة محمد
إنني لأستغرب لأولئك الجاهلين
الذين يُعرِضون عن مائدة محمد
لا أرى أحدًا في كلا العالَمَينِ
يبلغ سمو وعظمة محمد
إن الله بريء من ذلك
الصدر الذي يُكنّ العداوة لمحمد
سيُحرق الله تلك الدودة الخسيسة
التي تصير من أعداء محمد
إذا أردتَ التخلص من سكرات النفس
فهلم إلى السكارى بعشق محمد
وإذا أردتَ أن يُثني عليك إلهك الحق
فكن أنتَ ممّن يمدح محمد
وإذا طلبتَ دليلا على صدقه فكن من عُشاقه
لأن وجوده هو أكبر دليل على صدق محمد
إن رأسي فداء غبار أحمد
وقلبي فدىً في سبيل محمد
بل أنا فداء شَعر رسول الله
وأنا فداء وجه محمد
إنني وإن أُقتَلُ في هذه السبيل وأُحرَق
فلن أُوَلّي دُبري عن إيوان محمد
إني لا أخشى أحدا في سبيل الدين
لأني مصطبغ بصبغة إيمان محمد
ما أسهلَ الانقطاعَ عن الدنيا كلها
مِن أجلِ ذكرِ حُسنِ وإحسانِ محمد
إن كل ذرّة من كياني فدىً في سبيله
لأنني قد شاهدت أخفى محاسن محمد
إنني لا أعرف أحدا من الأساتذة
فقد تعلمتُ في مدرسة محمد
مالي ولحبيب آخر
إني قتيل رَوعة وجمال محمد
أتوق إلى نظرةٍ من عين محمد
وليست أرضي إلا رياض محمد
لا تبحثوا عن قلبي الملتاع في جنبي
لأنني قد شددته بأذيال محمد
أنا من طيور القدس السعيدة
التي اتخذت أعشاشها في بستان محمد
يا نفسَ محمدٍ قد نوّرتِ نفسي بعشقك
فدىً لكِ نفسي يا نفسَ محمد
إنني ولو فديتُ بمائة نفس في هذه السبيل
لما كان ذلك أيضا لائقا بعظمة محمد
ما أروعَ الهيبةَ التي وهبها الله لهذا الفتى
إذ لا يجرؤ أحد على المبارزة في ميدان محمد
اِحذَرْ أيها العدو الجاهل الغبي الضال
وَخَفْ من السيف الصارم لمحمد
إن صراط الله المستقيم الذي ضل عنه الناس
التمِسوه في آل وأعوان محمد
لا شك أن الكَرامات والخوارق قد اختفت من عالم اليوم
غير أنك تستطيع أن تراها عند غلمان محمد
إن المجال ليضيق هنا عن ذكر مشاعر الحب، وأبيات الود والهيام التي صاغها سيدنا أحمد ، سواء كان ذلك في حب الله تعالى رسوله ، وإلا فإن هذا الكتاب لن ينتهي أبدًا. ونود في الصفحات القليلة أن نقدم للقارئ لمحة أخرى تُبين مدى الحب والاحترام والتقدير الذي كان سيدنا أحمد يشعر به تجاه القرآن الكريم.. كتاب الله العزيز. لقد أوقف حياته كلها لخدمة ذلك الكتاب والدفاع عنه، وصد الهجمات التي كان يشنها عليه أعداء الإسلام. وكان مما أوحى الله تعالى إليه: “الخير كله في القرآن”، ولذلك فقد اتخذ من ذلك الكتاب العزيز خير أنيس، وجعل من كلماته نبراسا لحياته، ومن آياته هدى ونور في كل خطوة من خطواته. كان يقول إنه قبل أن يقوم بأي عمل.. مهما كان عظيمًا أو تافهًا .. كان يُسائل نفسه: هل يَرضى اللهُ تعالى حسب تعاليمه التي أنزلها في القرآن المجيد عن هذا العمل أم لا؟ فإذا وجد من القرآن أنه لا يعارض ذلك العمل، قام به، وإلا امتنع عنه.
لقد كان القرآن الكريم بالنسبة له بمثابة الكعبة المشرفة التي يحج إليها في كل آن، ليستشرق النور الذي يهتدي به، وكان المورد الصافي الذي ينتهل منه في كل لحظة حتى يستمد منه الحياة، وكان المائدة السماوية التي تحفل بجميع أطايب الطعام غذاء لروحه وقلبه ووجدانه. حقًّا لقد كان عاشقا متيّمًا بحب القرآن، حتى قال في إحدى قصائده باللغة الأردية مخاطبا الله تعالى ما تعريبه: في قلبي أمنية واحدة وهي أن أقبّل صحيفتَك كل حين، ولا أكفّ عن الطواف حول القرآن فإنه كعبتي.
كان يعتبر القرآن المجيد كنزًا يحوي من المعارف ما لا يُحصى، وكان يرى أن معانيه لا تنفذ، وجواهره لا تنتهي، ولآليه لا تفنى، وأنواره تبدد الظلمة دائما في كل عصر وفي كل حين. ومالي أنا أصف ما قاله هو عن القرآن الكريم.. إنّ أبلغ الكلمات كلماته هو، التي تنبض بما في قلبه من حب وتقدير وتعظيم لهذا الكتاب الجليل، ولا تنسى ما ذكره في إحدى قصائده المذكورة عاليه حين قال: “وإنّ بياني عن جَناني يُخبِرُ.” يقول :
ثم يقول في مكان آخر:
وفي مكان آخر كتب يرد على المبشرين النصارى الذين صوّبوا سهام نقدهم للقرآن فقال:
“قد كتبنا من غير مرة أن القرآن الكريم، قد جمع التعاليم، وأكمل التفهيم، وأنه مشتمل على علوم الأولين والآخرين. وهو بعلوّه كأبحر لا كحياض، وفاق كل لجة، بذيل فضفاض، وفيه نور أصفى من نور العين، ونقي من الدرن والشّيْن. صحف مطهرة فيها كتب قيمة، وحكم معجبة مع حسن بيان، وبلاغة ذي شأن، تسر الناظرين. وهو إعجاز عظيم بفصاحة كلماته، وبلاغة عباراته، ورفعة معارفه، وباكورة نكاته. ولكن النصارى وأتباعهم أنكروا هذا الكمال، ونحتوا الشكوك وزيّنوا الأقوال، وجاءوا بمكر مبين. فقال بعضهم إن القرآن فصيح ولا ننكر الفصاحة، ولا نختار الوقاحة، ولكن تعليمه ليس بطيب ونظيف، ولا يوجد فيه من وعظ لطيف، بل هو يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، وكل ما علّم فهو سقط كالمريض الماؤف، ولا يصلح للصالحين.
أقول: كل ما هو قلتم فهو كذب صريح، ولا يقول كمثله إلا الذي هو وقيح، أو من المفترين. إنكم لا تستطلعون بعيون الصدق والسداد، ولا تسلكون إلا مسالك العناد، وما تعلمون إلا طرق الاعتساف، وما غذُّيتُم بلبان الإنصاف، وما أراكم إلا الظالمين. أعرفتم حقيقة القرآن، مع كونكم محرومين من علم اللسان، و مُبْعدين مِن سكك العرفان؟ أتظنَّيتم البحر سرابًا مستورًا، مع كونكم عُميًا وعُورًا؟ لا تعلمون حرفًا من العلوم العربية، ولا تملكون فتيلا من البساتين الأدبية، بل أراكم كأخي عَيْلة، الماشين في ظلام ليْلة، ثم تلك الدعاوي مع مفاقر الجهل والضلال، والإنكار من شمس العلوم بأنواع المكائد والاحتيال؟ كبرٌ عظيم، وفسق قديم، فسبحان ربنا كيف يُمهِل الفاسقين!
أيها الجهلاء.. أنتم تصولون على كلام قد أُودعت سرَّ المعارف أسِرَّته، ومأثورةٌ سمعته وشهرته، ومشهورة عصمته وطهارته، وسلّم نضاره ونَضرته، واشتهر تأثيره وقوّته، فلا يُنكره إلا من فسدت فطرته. وألا ترون إلى قصر شاده القرآن، وإلى علوم أكملها الفرقان، وإلى أنوار أترع فيه الرحمن؟ ووالله لا نظير له في إحياء الأموات، ونفخ الروح في العظام الرُّفات. جاء في وقت انقراض حِيَلْ الصلحاء، وظهر بعد اكفهرار الليلة الليلاء، ووجد الخلق كمعروق العظم وأخ العَيْلة، أو كنائم في الليلة. فنوّر وجه الناس ولا كإنارة النهار، ونَاوَلَهم مالا كثيرا من درر العلم وأنواع الأنوار، فانظر هل ترى مثله في تأثير، ثم ارجع البصر هل ترى من نظير؟ “(نور الحق، الجزء الأول، الخزائن الروحانية ج 8 ص 178-180)
وكتب يرد على أحد علماء المسلمين الساقطين في فخ المبشرين المسيحيين، فارتد عن الإسلام واتبع سبل الشياطين، واحتفظ باسمه الإسلامي فكان يطلق على نفسه اسم القسيس عماد الدين، وألّف كتابا سماه “توزين الأقوال”، لينشر به الفساد والكفر والضلال، ويضل به عامة المسلمين، فتصدى له أسد الله، وكتب يقول:
“… ثم إنك ظننتَ أن القرآن ليس في بلاغته إلى حد الإعجاز، بل يوجد فيه رائحة التكلف والارتماز، ولا يُميّز رقيق اللفظ من الجَزْل، والجد من الهَزْل، وفيه ألفاظ وحشية، وكلمات أجنبية، وليس بعربي مبين.
أما الجواب فاعلم أن هذا القول منك ومن أمثالك أعجب العجائب، وأعظم الغرائب، ولا يرضى به أحد من المنصفين. ألا تعلم يا مسكين أنك رجل من الجهال، ولا تدري إلا مكائد الضلال، ولا تعلم أساليب لسان العرب وطرق بلاغة المقال، بل أظن أنك لا تعرف حرفا من العربية، فكيف اجترأت على هذه الغزمرة الكريمة؟ أتصول أيها الجاهل الكاهل على الذي أفحم أكابر بلغاء الزمان، وأتمَّ الحجة على فصحاء أهل اللسان، وخضعت له أعناق الأدباء، وآمن به نوابغ الشعراء وجاءوا خاضعين مُقرّين؟ أأنت أسبق منهم في معرفة موادّ الأقاويل، وتمييز الصحيح من العليل، أو أنت من المجنونين؟ ألا تعلم أنهم كانوا أهل اللسان، وقد غُذّوا بلبان البيان، وكانوا يُصبون القلوب بأفانين العبارات، ومُلَح الأدب ونوادر الإشارات، وكانوا في هذه السلك وعلم محاسنها في الماهرين؟ ألستَ تعلم أن القرآن ما ادّعى إعجاز البلاغة إلا في الرياغة، فإن العرب” في زمانه كانوا فصحاء العصر وبلغاء الدهر، وكان مدار تفاخرهم على غرر البيان ودرره، وثمار الكلام وزهره، وكانوا يُناضلون بالقصائد المبتكَرة والخطب المحبَرة، ولكن ما كان لهم أن يتكلموا في اللطائف الحكَمية، وما مَسّتْ بيانهم رائحةُ المعارف الإلهية، بل كان مسرَحُ أفكارهم إلى الأبيات العشقية، والأضاحيك الملهية، وما كانوا على ترصيع مضامين الحكَم قادرين؟ وكانوا قد مرَنوا من سنين على أنواع النظم والنثر ولطائف البيان، وسُلّموا وقُبِلوا في الأقران، وكانوا أهل اللسان وسوابق الميادين. فخاطبهم الله وقال:
وقال:
فَعَجَزَ الكفار عن المقابلة وَوَلَّوا الدبر كالمغلوبين. ولما عجزوا عن النضال في البيان، مالوا إلى السيف والسنان، متندمين مغتاظين. وكثير منهم أسلموا نظراً على هذه المعجزة، كلبيد بن ربيعة العامري صاحب المعلقة الرابعة، فإنه أدرك الإسلام، وتشرّف به وأرى الإخلاص التام، ومات سنة إحدى وأربعين. وكذلك كثير منهم أقرّوا بأن القرآن مملوّ من العبارات المهذَّبة، والاستعارات المستعذّبة، والأفانين المستملحة، والمضامين الحكميّة الموَشحة، بل مَنْ أمعَنَ منهم النظر فسعى إلى الإسلام، وحضر ودخل في المؤمنين…”
(المرجع السابق في ص 144_147)
إن من يحب القرآن الكريم هذا الحب، ويُكرّس حياته للود عنه، فإن الله تعالى يفتح أمامه سبل العرفان، ويؤتيه كنوز معارف الفرقان، فيكون أقدر الناس على فهم هذا الكتاب العظيم، فإنه كتاب لا يعلم تأويله إلا الله ولا يمسّه إلا مطهرون بيد الله، وهو وحده الذي يستطيع أن يؤتي ذلك التأويل الصحيح، لمن شاء من عباده الذين ملأ بحبّ القرآن قلوبَهم، وأنار بنوره الوضّاء ظاهرهم وباطنهم. وقد رأينا في الفصول السابقة كيف أنه تحدى العلماء في البلاد العربية وغيرها، أن يكتبوا تفسيرا لسورة الفاتحة في سبعين يوما، وكتب هو تفسيرا لهذه السورة الجامعة، فكان التفسير ظلا لكلام الله تعالى، بما احتواه من معان لم يُشرْ إليها أحد من قبل في كافة التفاسير المنشورة. وإليكم نبذة من ذلك التفسير، الذي ينضح منه كيف أنه يستنتج المعاني العميقة، من الكلمات التي نقرأها في الصلاة عديدا من المرات، دون أن يفطن أحد إلى أنها تحتوي على تلك اللآلىء من المعاني وكنوز الحكم. يقول في تفسير البسملة:
“… وههنا سؤال عضال نكتبه في الكتاب مع الجواب، ليُفكر فيه من كان من أولي الألباب.. وهو أن الله اختار من جميع صفاته صفتيّ الرحمن والرحيم في البسملة، فالبسملة أحق وأولى بهذا المقام والمرتبة، وقد نُدب لها عند كل أمرٍ ذي بال كما جاء في الأحاديث النبوية، وإنها أكثر وِرْداً على ألسُن أهل الملّة، وأكثر تكرارا في كتاب ذي العزّة. فبأي حكمة ومصلحة لم يُكتب صفاتٌ أخرى مع هذه الآية المتبرّكة؟
فالجواب أن الله أراد في هذا المقام، أن يذكر مع اسمه الأعظم صفتين هما خلاصة جميع صفاته العظيمة على الوجه التام، وهما الرحمن والرحيم، كما يهدي إليه العقل السليم. فإن الله تجلى على هذا العالم تارة بالمحبوبية ومرة بالمحبّية، وجعل هاتين الصفتين ضياءً ينْزل من شمس الربوبية على أرض العبودية. فقد يكون الرب محبوباً والعبد مُحباً له وجاعلَه كالمطلوب.
ولا شك أن الفطرة الإنسانية التي فُطرَتْ على الْمَحبة والخلة ولوعة البال، تقتضي أن يكون لها محبوبا يجذبها إلى وجهه بتجليات الجمال والنعم والنوال، وأن يكون له مُحبّا مُواسيا يتدارك عند الأهوال، وتشتت الأحوال، ويحفظها من ضيعة الأعمال، ويوصلها ما اقتضتْها ويُتمّ عليها نعَمه بجوده العميم، فتجلّى عليها بصفتيه الرَحمن والرحيم *. ولا ريب أن هاتين الصفتين هما الوصلة بين الربوبية والعبودية، وبهما يتم دائرة السلوك والمعارف الإنسانية، فكل صفةٍ بعدهما داخلة في أنوارهما، وقطرة من بحارهما.
ثم إن ذات الله تعالى كما اقتضت لنفسها أن تكون لنوع الإنسان محبوبة ومُحِبّة، كذلك اقتضت لعباده الكُمّل أن يكونوا لبني نوعهم كمثل ذاته خُلُقاً وسيرة، ويجعلوا هاتين الصفتين لأنفسهم لباسا وكسوة، ليتخلق العبودية بأخلاق الربوبية، ولا يبقى نقص في النشأة الإنسانية. فخَلَقَ النبيين والمرسلين فجعل بعضهم مظهرَ صفتِه الرحيم ليكونوا محبوبين ومحبين ويُعاشروا بالتحابب بفضله العظيم. فأعطى بعضهم حظًّاً وافرا من صفته المحبوبية، وبعضاً آخر حظّاً كثيرا من صفته المحِبّية، وكذلك أراد بفضله العميم، وجُودِه القديم.
ولما جاء زمن خاتم النبيين، وسيّدنا محمد سيد المرسلين، أراد هو سبحانه أن يجمع هاتين الصفتين في نفسٍ واحدة، فجَمَعَهما في نفسه عليه ألف ألف صلاة وتحيّة. فلذلك ذكر تخصيصا صفة المحبوبية والمحِبّية، على رأس هذه السورة، ليكون إشارةً إلى هذه الإرادة. وسمّى نبيّيا محمداً وأحمَدَ كما سمّى نفسه الرحمنَ والرحيمَ في هذه الآية. فهذه إشارة إلى أنه لا جامع لهما على الطريقة الظلية، إلا وجود سيدنا خير البرية. وقد عرفتَ أن هاتين الصفتين أكبر الصفات من صفات الحضرة الأحدية، بل هما لُبّ اللباب وحقيقة الحقائق لجميع أسمائه الصفاتية، وهما معيار كمال كُلّ مُن استكمَلَ وتخلَّقَ بالأخلاق الإلهية. وما أُعطيَ نصيبا كاملا منهما إلا نبينا خاتم سلسلة النبوّة، فإنه أُعطي اسمين كمثل هاتين الصفتين.. أوّلهما محمد والثاني أحمد من فضل رب الكونين.
أمّا “محمد” فقد أرتدى صفة الرحمن، وتجلّى في حُلل الجلالة والمحبوبية، وحُمِّد لِلِبرِّ منه والإحسانِ. وأمّا “أحمد” فتجلّى في حُلّة الرحيمية والمـُحِبيّة والجمالية، فضلاً من الله الذي يتولى المؤمنين بالعون والنصرة، فصار أسماء نبينا بحذاء صفتي ربنا المنان، كصورٍ منعكسة تُظهرها مِرآتانِ متقابلتان.
وتفصيل ذلك أن حقيقة صفة الرحمانية عند أهل العرفان.. هي إفاضة الخير لكل ذي روح من الإنسان وغير الإنسان، من غير عمل سابقٍ بل خالصًا على سبيل الامتنان. ولا شك ولا خلاف أن مثل هذه المنّة الخالصة، التي ليست جزاءَ عملِ عاملٍ من البريّة، هي تجذب قلوب المؤمنين إلى الثناء والمدح والمـَحْمَدة، فيحمدون المحسن ويُثنون عليه بخلوص القلوب وصحة النية. فيكون الرحمن مُحمّدًا يقينًا من غير وهمٍ يجرّ إلى الريبة فإن المنعم الذي يُحسن إلى الناس من غير حق بأنواع النعمة، يحمَده كلُّ من أُنْعمَ عليه.. وهذا من خواص النشأة الإنسانية. ثم إذا كمل الحمد بكمال الإنعام.. جذب ذلك إلى الحب التام، فيكون المـُحسن مُحمّدًا ومحبوبًا في أعين المحبين، فهذا مآل صفة الرحمن ففكر كالعاقلين. وقد ظهر من هذا المقام لكل من له عرفان، أن الرحمن محمدٌ وأن محمدًا رحمن. ولا شك أن مآلهما واحد، وقد جهل الحق من هو جاحد.
وأمّا حقيقة صفة الرحيمية وما أُخفي فيها من الكيفية الروحانية، فهي إفاضة إنعامٍ وخَيرٍ، على عملٍ من أهل مسجد لا من أهل دَيْرٍ، وتكميل عمل العاملين المخلصين، وجبر نقصانهم كالمتلافين والمـُعينين والناصرين. ولا شك أن هذه الإفاضة في حُكم الحمد من الله الرحيم، فإنه لا يُنْزِل هذه الرحمة على عاملٍ إلا بعد ماحمده على نهجه القويم، ورَضيَ به عملا ورآه مستحقا للفضل العميم. ألا ترى أنه لايقبل عمل الكافرين والمشركين، والمرائين والمتكبّرين، بل يُحبط أعمالهم ولا يهديهم إليه ولا ينصرهم بل يتركهم كالمخذولين؟ فلا شك أنه لا يتوب إلى أحد بالرحيمية.. ولا يُكمّل عمله بنصرة منه والإعانة.. إلاّ بعدما رضيَ به فعلا وحمده حمدًا يستلزم نزولَ الرحمة. ثم إذا كمُل الحمد من الله بكمال أعمال المخصين فيكون الله أحمَدَ والعبد مُحمّدا، فسبحان الله أوّلُ المحمّدِين والأحمدِين! وعند ذلك يكون العبد المخلص في العمل محبوبًا في الحضرة، فإن الله يحمده من عرشه، وهو لا يحمد أحدًا إلّا بعد المحبّة.
*الحاشية: قد عرفت أن الله بصفة الرحمن يُنزل على كل عبد من الإنسان والحيوان والكافر من أهل الإيمان أنواعَ الإحسان والامتنان، بغير عمل يجعلهم مستحقين في حضرة الديّان. فلا شك أنّ الإحسان على هذا المنوال يجعل المحسن محبوبا في الحال. فثبت أن الإفاضة على الطريقة الرحمانية، يُظهِر في أعين المستفيضين شأنَ المحبوبية. وأما صفة الرحيمية، فقد ألزمت نفسها شأن المحبيّة، فإن الله لا يتجلّى على أحدٍ بهذا الفيضان إلّا بعد أن يُحبّه ويرضى به قولا وفعلا من أهل الإيمان. منه
فحاصل الكلام.. إن كمال الرحمانية يجعل اللهَ مُحمّدًا ومحبوبًا، ويجعل العبدَ أحمدَ ومُحِبًّا، ويجعل العبدَ مُحمّدًا وحِبًّا. وستعرف من هذا المقام، شأنَ نبيِّنا الإمام الهُمام، فإن الله سمّاه محمَّدًا وأحمَدَ، وما سمّى بهما عيسى ولا كَلِيمًا، وأشركه في صفتيه الرحمن والرحيم بما كان فضله عليه عظيما. وما ذكر هاتين الصفتين في البسملة، إلا ليعرف الناس أنهما لله كالاسم الأعظم، وللنبي من حضرته كالخلعة. فسمّاه الله محمَّدًا إشارةً إلى ما فيه من صفة المحبوبية، وسمّاه أحمد إيماءً إلى ما فيه من صفة الْمُحِبّية.
أمّا محمد فلأجل أن رجلا لا يحمده الحامدون حمدًا كثيرا إلا بعد أن يكون ذلك الرجل محبوبا. وأمّا أحمد فلأجل أن حامدًا لا يحمد أحدًا بحمد كاثرٍ إلا الذي يُحبه ويجعله مطلوبا. فلا شك أن اسم محمد يوجد فيه معنى المحبوبية بدلالة الالتزام، وكذلك يوجد في اسم أحمد معنى المـُحبيّة من الله ذي الأفضال والإنعام. ولا ريب أن نبينا سُمّي محمدًا لما أراد الله أن يجعله محبوبا، في أعينه وأعين الصالحين، وكذلك سمّاه أحمد لما أراد سبحانه أن يجعله مُحِبَّ ذاته ومُحِبَّ المؤمنين المسلمين، فهو محمد بشأن وأحمد بشأن. واختص أحد هذين الاسمين بزمان والآخر بزمان، وقد أشار إليه سبحانه في قوله: دَنَى فَتَدَلَّى وفي قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ثم لما كان يُظَنّ أن اختصاص هذا النبي المطاع السجّاد، بهذه المحامد من رب العباد، يجرّ إلى الشرك كما عُبِدَ عيسى لهذا الاعتقاد.. أراد الله أن يورثهما الأمّة المرحومة على الطريقة الظلّية، ليكونا للأمّة كالبركات المتعدّية، وليزول وَهْمُ اشتراك عبد خاصٍّ في الصفات الإلهية. فجعَل الصحابة ومن تبعهم مظهرَ اسم محمد بالشيون الرحمانية الجلالية، وجعل لهم غلبةً ونَصَرَهم بالعنايات المتوالية، وجعَل المسيحَ الموعود مظهرَ اسمِ أحمد وبَعَثَه بالشيون الرحيمية والجمالية، وكتب في قلبه الرحمة والتحنن وهذّبه بالأخلاق الفاضلة العالية، فذلك هو المهدي المعهود الذي فيه يختصمون، وقد رأوا الآيات ثم لا يهتدون، ويُصرّون على الباطل وإلى الحق لايرجعون، وذلك هو المسيح الموعود، ولكنهم لا يعرفون، وينظرون إليه وهم لا يُبصرون.” (إعجاز المسيح، الخزائن الروحانية ج18 ص96_111)