كيف لنا أن نفشي السلام في هذا العالم!
  • ما جهود جماعتنا التي استعرضها حضرة أمير المؤمنين في سبيل إحلال السلام العالمي؟
  • ما مصير “الأمم المتحدة” المنتظَر في ظل أكبر صراعات الوقت الراهن؟
  • ما حقيقة التهمة المفتراة على تعاليم الإسلام وحروبه؟
  • كيف لنا أن نفشي السلام في العالم؟

 __

خطاب حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله بنصره العزيز

الخليفة الخامس للإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام

بمجمع مسجد بيت الفتوح (لندن) بتاريخ 9 مارس 2024

 تنويه* العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية من إضافة أسرة «التقوى»

 

 

 بسم الله الرحمن الرحيم.

الضيوف الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نجتمع اليوم في هذا الحدث المميز الذي تستضيفه الجماعة الإسلامية الأحمدية في المملكة المتحدة لنتباحث في كيفية التغلب على انقسامات المجتمع، وإحلال السلام الحقيقي في العالم. على مدى أكثر من عقدين من الزمن، حثثتُ الناس ساسةً، وحكوماتٍ، وغيرهم على أداء دورهم لضمان التماسك الاجتماعي في مجتمعاتنا والسلام والوئام على نطاق أوسع في العالم. وأعربت عن رأيي حول الكيفية التي يمكننا بها وضع حدٍ للحروب بجميع أشكالها، سواء كانت تلك الصراعات الناشبة زورًا باسم الدين أو تلك التي تتخذ صورة جيوسياسية مُعلنة. ولم يقتصر حديثي على الحاجة الملحة إلى إنهاء الحروب بين الدول، بل تعداها إلى ذكر ضرورة معالجة الأمور المخيبة للآمال محليا داخل المجتمعات والسعي من أجل السلام في الدول التي تنتشر فيها الحروب الأهلية أو النزاعات الداخلية.

بكل تأكيد، قد تعلمنا من التاريخ أن الصراعات الداخلية يمكن أن تتحول إلى حروب إقليمية، والتي غالبا ما يغذيها تدخل ونفوذ القوى الخارجية لإثارة عدم الاستقرار والانقسام في بلدان أخرى خدمةً لمصالحها.

وفي العقود الأخيرة، شهدنا العواقب الوخيمة لمثل هذا التدخل في دول مثل الكويت والعراق وسوريا والسودان. وقبل كل شيء، قد حذرت مرارا وتكرارا من أن سياسة الكيل بمكيالين التي تنتهجها القوى الكبرى والأنظمة السياسية والقانونية والاقتصادية الظالمة والمنتشرة في معظم أنحاء العالم تؤدي إلى اختلال قيمة المساواة في معظم أنحاء العالم، مما يؤدي بدوره إلى حال من عدم الاستقرار العالمي وانعدام الأمن.

ووقع ما كنتم تستبعدون!

على مر السنين، اتفق الناس من ساسة ومثقفين وعوام دائمًا مع رأيي بأن علينا أن نسعى جاهدين من أجل السلام. ومع ذلك، أعرب الكثيرون أيضًا عن رأيهم، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بأنني مخطئ في الاعتقاد بأن الصراعات القائمة يمكن أن تتطور إلى حرب عالمية، أو أن تؤدي إلى استخدام الأسلحة النووية. واعتبر الكثيرون أن هذا تشاؤم لا داعي له. ولفترة طويلة، لم يتفق معي حتى أولئك المنخرطون بشكل وثيق في الشؤون العالمية مثل الساسة  والمحللين والصحفيين، إما بسبب مثاليتهم ورغبتهم في النظر إلى العالم من خلال نظارات وردية أو ربما بسبب عدم القدرة على تعلم الدروس من التاريخ. ويبدو أنهم قد تجاهلوا الصدوع في العلاقات الدولية الآخذة في الاتساع في العقود الأخيرة. وربما لم يرغبوا ببساطة في قبول حقيقة ما كان يحدق في وجوههم، فكما يقول المثل: «الجهل نعمة!».

ومع احتدام الصرعات في أوروبا والشرق الأوسط وغيرهما، يدق الآن العديد من هؤلاء الأشخاص ناقوس الخطر محذرين من حرب عالمية يمكن أن تستخدَم فيها الأسلحة النووية بما يُسفر عن دمار ليس بوسع أحد تصوره. وعلى الرغم من هذا الإدراك، يبدو أن الكثيرين ما زالوا غير راغبين في التفكير في ما ينبغي القيام به لإنهاء هذه الصراعات، ويظلون مترددين بإزاء الأصوات الصادقة المنادية بالسلام في العالم.

حق النقض ينقض بنيان السلام العالمي

نظرًا إلى هذا الوضع الراهن، عندما فكرت في فعالية اليوم، تساءلت عما إذا كان هناك أي جدوى نجنيها من وراء اجتماعنا هنا مرة أخرى! أي جدوى من الحديث عن السلام والعدالة، إذا كان من لديهم القدرة والسلطة الفعلية على التغيير مصممين على الإعراض عن سماعنا؟! والحقيقة المرة هي أن حتى تلك المؤسسات التي تأسست بهدف الحفاظ على السلام والأمن في العالم، قد باتت شيئا فشيئا غير ذات أهمية. على سبيل المثال، أصبحت الأمم المتحدة هيئة ضعيفة وعاجزة تقريبًا، حيث تمارس قلة من الدول المهيمنة كل السلطة وتتجاوز بسهولة آراء الأغلبية. فبدلاً من البت في القضايا على أساس حقائقها وطبيعتها، تشكل الدول تحالفات، وتصوت وفقًا لمصالحها. وفي نهاية المطاف، يتم اتخاذ القرارات الحاسمة من قبل عدد قليل من الدول المتمتعة بالامتيازات والتي تملك حق النقض.

بدلاً من خدمة قضية السلام والعدالة بأمانة، فإنهم يستخدمون حق النقض كورقة رابحة حيثما تتعرض مصالحهم الضيقة للتهديد، بغض النظر عما إذا كانت قراراتهم تدمر السلام والرخاء في الدول الأخرى وتؤدي إلى موت وتضرر عشرات الأبرياء.

شيء من جهود جماعتنا في إحلال السلام العالمي

ليكن واضحا أنه في حال وجود حق النقض، لا يمكن أبدا موازنة ميزان العدالة. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه التحفظات، فقد أدركت أنه يتعين علي أن أغتنم هذه الفرصة؛ لأن الإسلام يعلم المسلمين ألا يترددوا أبدًا في السعي إلى تحقيق السلام. إنه يعلمنا أن نقول الصدق حتى يتمكن المؤمن، عند محاسبته أمام الله تعالى، من أن يقول بصدق أنه بذل قصارى جهده لإنقاذ خلقه تعالى من الدمار.

علاوة على ذلك، ذكر النبي أن أعظم شكل من أشكال الجهاد، الذي هو بالمناسبة مصطلح طالما يساء فهمه ويُعمَد إلى تحريفه، هو التحدث بصدق وشجاعة أمام الحكام، وبخاصة الحاكم الجائر والظالم. من المؤكد أنه إذا حاولت الدول الأضعف أو الأفراد مثلي، ممن ليس لديهم أي انتماء سياسي، التحدث، فنادرًا ما يتم تقدير ذلك، ومن يفعل ذلك قد يواجه المشاكل أو يتعرض لخطر العقوبات.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الجماعة الإسلامية الأحمدية، بناءً على تعاليم الإسلام، تواصل وستستمر دائمًا في النضال الجاد من أجل قضية السلام والدفاع عن حقوق الضعفاء والمظلومين. وسنسعى دائمًا، إن شاء الله، إلى استخدام كل ما لدينا من وسائل للتأثير على من نستطيع الوصول إليه من الساسة وصناع القرار والمثقفين وغيرهم، من أجل إحلال السلام في العالم.

في الواقع، قد يكون البعض منكم على دراية بالجهود المتواصلة التي تبذلها جماعتنا لتعزيز السلام وتخفيف معاناة من يعانون ضوائق مادية أو معنوية كبيرة، لذا، وبعد هذه الكلمات التمهيدية، أود الآن أن أقدم رسالتي حول كيفية إحلال السلام في العالم.

فيما يتعلق بالدين، لم يعلّم أي من مؤسسي الأديان الكبرى سواء النبي عيسى أو النبي موسى أو أي نبي آخر من أنبياء الله، أو نبي الإسلام محمد أتباعه أبدًا أن يتجاهلوا سلام المجتمع ويلجأوا إلى الظلم أو العدوان. في حين أنه من الصحيح أنه، في ظروف معينة قاهرة، كان استخدام القوة المحدودة مسموحًا بهدف إنهاء الحرب وصد العدوان فقط.

أما الإسلام، فهو يعني حرفيًّا «السلام» وكل جانب من تعاليمه يعكس هذا الاسم. على سبيل المثال، جاء في القرآن الكريم في الآية الحادية والأربعين من سورة الشورى:

وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (1)،

وهنا يأمر الله تعالى الإنسان أو البلد الذي يتعرض للظلم، أن لا يرد بشكل غير متناسب أو يسعى للانتقام، بل إن العفو هو الحل الأفضل إذا كان سيؤدي إلى الإصلاح. كما جاء في الآية العاشرة من سورة الحجرات ما نصه:

«وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا»(2)،

أي إذا تحاربت دولتان، فيجب على الأطراف المحايدة التوسط بينهما والسعي إلى إحلال السلام على أساس مبادئ العدالة والإنصاف. فإذا انتهك أي من الطرفين، بعد المصالحة، شروط الاتفاق ولجأ مرة أخرى إلى الحرب، فيجب على الدول الأخرى أن تتحد وترد المعتدي بالقوة إلى أن يكف عن سلوكه العدواني. وبمجرد توقفه، على هذه الدول أن تتوقف عن استخدام القوة أيضًا. وينبغي أن يظل الهدف دائما هو بناء سلام مستدام تدعمه العدالة. وينبغي أن  لا يستغل طرف ثالث ضعف الأطراف المتحاربة فيغتصب حقوقها لمصلحته الخاصة.

لو التزم الجميع بهذا المبدأ في الأمم المتحدة والهيئات الأخرى ذات الصلة، لحُلت الصراعات بسرعة وبطريقة ودية. ومع ذلك، سيكون من المستحيل تحقيق السلام الحقيقي طالما يمكن لبعض الدول، بشكل مباشر أو من خلال حلفائها الأقوياء، استخدام حق النقض.

أي جدوى من الحديث عن السلام والعدالة، إذا كان من لديهم القدرة والسلطة الفعلية على التغيير مصممين على الإعراض عن سماعنا؟! والحقيقة المرة هي أن حتى تلك المؤسسات التي تأسست بهدف الحفاظ على السلام والأمن في العالم، قد باتت شيئا فشيئا غير ذات أهمية. على سبيل المثال، أصبحت الأمم المتحدة هيئة ضعيفة وعاجزة تقريبًا، حيث تمارس قلة من الدول المهيمنة كل السلطة وتتجاوز بسهولة آراء الأغلبية. فبدلاً من البت في القضايا على أساس حقائقها وطبيعتها، تشكل الدول تحالفات، وتصوت وفقًا لمصالحها. وفي نهاية المطاف، يتم اتخاذ القرارات الحاسمة من قبل عدد قليل من الدول المتمتعة بالامتيازات والتي تملك حق النقض.

مصير «الأمم المتحدة» المنتظَر، وحقيقة أكبر صراعات الوقت الراهن

من المؤسف أنه بسبب افتقارها المتأصل إلى العدالة، يبدو أن مصير الأمم المتحدة هو كمصير سلفها الفاشل «عصبة الأمم». وعلى  الرغم من ضعفه البادي، إلا أنه إذا انهار نظام القانون الدولي تمامًا، فإن الفوضى والدمار الذي سينتج عن ذلك يفوق تصورنا.

وفي حين أن هناك عددًا لا يحصى من الصراعات في العالم، فإن أكثرها إلحاحًا وخطورة هو ذاك الدائر بين إسرائيل وحماس، وتلك الحرب المحتدمة بين روسيا وأوكرانيا.

قد يظن البعض، أو ربما قد تم تكييفهم للاعتقاد بأن الصراع بين إسرائيل وفلسطين هو حرب دينية. لكنه في الواقع صراع جيوسياسي وإقليمي.

أما بالنسبة للحرب في أوكرانيا، فمن الواضح أنها حرب جيوسياسية يتم خوضها لأسباب إقليمية. وأعتقد اعتقادا راسخا أن هناك طريقة واحدة فقط لإنهاء هذه الحروب: من خلال ضمان سيادة العدالة، وأن يتم إجراء أي تسويات على أساس المساواة، لا بما يخدم مصالح القوى الخارجية بشكل أفضل. وإلا فلن تكون هناك فائدة للأمم المتحدة أو القوانين الدولية، والقاعدة الوحيدة التي سيكون لها وزن هي التي تقول إن «القوة دائمًا على حق».

وفيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، تتمتع روسيا بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بينما تمتلك أوكرانيا في الواقع حق النقض أيضًا من خلال تحالفها مع الدول الغربية التي تتمتع بعضوية دائمة في مجلس الأمن. فكيف يمكن التوصل إلى تسوية إذا كان بوسع الجانبين استخدام حق النقض بشكل فعال؟! لماذا قد يكون لدى أي من الطرفين الدافع للتحرك ولو لشبر واحد إذا كان يعلم أن بإمكانه استخدام حق النقض ضد أي صفقة لا تصب في صالحه بالكامل؟!

أما بالنسبة لما يحدث في غزة، فرغم أن لدى الإسرائيليين والفلسطينيين مؤيدين، فإن حق النقض لم يستخدم إلا لصالح إسرائيل منذ اندلاع الحرب الحالية قبل عدة أشهر. على سبيل المثال، في شهر فبراير/شباط، صوّت 13 من أصل 15 عضوًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لصالح وقف إطلاق النار الفوري في غزة، لكن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض وتم رفض القرار!

تعاليم الإسلام وحروبه، وحقيقة التهمة المفتراة

كيف يمكن إرساء السلام بينما يتم تجاهل وجهة نظر الأغلبية هكذا ببساطة؟ هذه ليست عدالة. بل هو ضرب للديمقراطية ومبدأ المساواة عرض الحائط.

وعلى عكس هذه القوانين الوضعية، تشدد تعاليم الإسلام على توخي سبيل العدل، حتى أن الآية التاسعة من سورة المائدة تقول:

«وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ» (3)،

أي يجب ألا تدفع عداوة أي أمة أو شعب أحدًا إلى مجانبة طريق العدل والإنصاف. وإن إظهار هذا العدل أقرب للتقوى. سيدرك بالتأكيد حتى الأشخاص غير المتدينين الحكمة والفائدة من تبني هذا المعيار البارز للعدالة.

وفي نفس الوقت قد تتساءلون لماذا، إذا كانت تعاليم الإسلام كما أصفها، يُزعَم في كثير من الأحيان أن الإسلام دين التطرف؟ وقد عاد هذا الجدل للظهور مرة أخرى بسبب التعليقات المضللة والتحريضية التي أطلقها بعض السياسيين.

في هذا الصدد، يجب أن يكون واضحًا تمامًا أن الحروب والمعارك التي خاضها النبي وخلفاؤه الراشدون قد كانت دفاعية تمامًا. لقد أذن القرآن الكريم للمسلمين بالقتال كملاذ أخير فقط بعد أن تعرضوا لهجوم أعداء الإسلام دون هوادة، وكانوا لسنوات ضحية للاضطهاد المستمر. وهذا الإذن منصوص عليه في الآية الأربعين من سورة الحج من القرآن الكريم، حيث جاء فيها:

«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا»(4)،

أي للذين أجبروا على الحرب ظلمًا الحق في الدفاع عن أنفسهم لأنهم ظلموا ووقعوا ضحايا للظلم والاضطهاد.

علاوة على ذلك، يوضح القرآن الكريم أن الإذن بالقتال لم يكن مقصورا على حماية الإسلام، بل للدفاع كذلك عن جميع الأديان ولتكريس مبدأ حرية الضمير والمعتقد. وهكذا في الآية اللاحقة، يقول الله تعالى:

«وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا» (5)،

وبالتالي، فإن المسلمين مأمورون بالدفاع عن جميع الأديان ودور العبادة وحمايتها، ناهيك عن عدم إلحاق أي ضرر بها!

علاوة على ذلك، أينما توافرت شروط الحروب الدفاعية، كانت الجيوش الإسلامية محكومة بقواعد اشتباك صارمة وضعها النبي ، فقد ذكر أولاً أنه لا ينبغي خوض الحرب لتحقيق مصالح شخصية أو خاصة، أو لغزو الأراضي أو لإثبات التفوُّق على الآخرين. بل لا يجوز للمسلمين القتال إلا إذا شنت عليهم الحرب.

وفي حال الحرب، ينبغي للدول الأخرى أن تتحد لوقف المعتدي. وبمجرد أن يتوقف المعتدي عن استخدام القوة، يجب على الدول الأخرى إنهاء الحرب فورًا والسعي لإقامة السلام الدائم. وإضافة إلى ذلك، نهى النبي بشكل صارم عن استهداف المدنيين، الذي بات أمرًا شائعا في الحروب التي تدور رحاها في العالم الحديث. علاوة على ذلك، فقد أمر المسلمين بالتأكد من أن يظل نطاق الحرب محدودًا قدر الإمكان، مع وجوب تجنب جميع أشكال التصعيد أو توسيع دائرة الحرب من حيث الأراضي والوسائل. ويعلّم الإسلام أيضًا أنه ما لم يستخدم الخصم دار العبادة كقاعدة عسكرية، فلا يجوز انتهاك حرمتها بالقتال فيها أو حتى بالقرب منها. ويمنع منعا باتا هدم دور عبادة العدو أو تدنيسها.

كذلك، نهى النبي الكريم عن الممارسة التي كانت شائعة قبل الإسلام والتي هي التمثيل بجثث القتلى من جنود العدو وأمر بمعاملتها بعناية واحترام. كما علّم أنه لا يُسمح بأي شكل من أشكال الخداع في الحرب.

وكما أوضحت سابقًا، لا ينبغي أبدًا استهداف النساء والأطفال والمسنين وغيرهم من المدنيين الأبرياء. وبالمثل، لا يجوز إيذاء الكهنة أو الحاخامات أو غيرهم من زعماء الأديان أو منعهم من القيام بواجباتهم الدينية.

كما نهى النبي الجنود المسلمين عن إيقاع أي شكل من أشكال الرعب أو الخوف بين عامة الناس أثناء الحروب. وفي الواقع يجب معاملة جميع غير المقاتلين والمدنيين بدماثة الأخلاق، ناهيك عن عدم ارتكاب أي ظلم بحقهم.

كما أمر جيوش المسلمين بأن لا تجعل قواعدها أو معسكراتها في المدن أو المناطق التي قد تسبب القلق أو الإزعاج للمدنيين. وذكر أنه ينبغي للجنود أثناء المعركة أن لا يضربوا أعداءهم في وجوههم ويجب أن يلحقوا بهم أقل قدر ممكن من الأذى والألم.

وإذا كان هناك أسرى حرب، فلا يجوز فصلهم عن أقاربهم في حال كانوا بين الأسرى أيضًا. بالإضافة إلى ذلك، يجب بذل كل جهد ممكن لتأمين راحة أسرى الحرب، وبلغ الأمر إلى الحد الذي يجب فيه إعطاء الأولوية لراحتهم واحتياجاتهم على حساب احتياجات الآسر. وإذا أذنب المسلم بأي شكل من أشكال الظلم أو القسوة تجاه أسير الحرب، فعليه إطلاق سراحه فورًا تكفيرًا عن خطئه.

ومن تعاليم النبي الأخرى وجوب تقدير كبير لممثلي أو مبعوثو الدول الأخرى وتجاهل أي أخطاء أو فظاظة تقع من جانبهم، لصالح السلام والوئام.

هذه هي القواعد الإسلامية الأساسية للحرب، وقد قال النبي إنه إذا انتهك المسلم هذه المبادئ، فهذا يدل على أنه لا يقاتل في سبيل العدل، بل من من أجل إلحاق الظلم ومن أجل مصلحته الخاصة. ولا شك أن على كل حكومة وبلد إسلامي الالتزام بتعاليم الإسلام.

بغض النظر عن الدين، أعتقد أيضًا أنه إذا تبنت الدول غير الإسلامية هذه المبادئ، فحتى لو نشبت حروب، فإنها لن تتسبب في تلك العداوات عميقة الجذور التي تظل راسخة جيلًا بعد جيل. لذا يجب على جميع الدول المنخرطة في الحرب، سواء كانت غربية، أو تلك التي تكن العداء للعالم الإسلامي أو الدول الإسلامية، أن تدرك أنه لا يمكن تحقيق السلام إلا إذا تصرفت وفقًا لمبادئ الحرب وحل النزاعات. وإلا فإننا سنكون على شفا حرب عالمية كارثية ستؤدي بلا شك إلى مستويات هائلة من الدمار والمجازر التي تتجاوز حدود تصورنا. وكما قلت آنفًا، قد توصل العديد من الأشخاص الآن إلى النتيجة نفسها.

على سبيل المثال، كتب البروفيسور جيفري ساكس، وهو خبير اقتصادي رفيع من جامعة كولومبيا: «يقف العالم على حافة كارثة نووية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى فشل القادة السياسيين الغربيين في التصريح بأسباب الصراعات العالمية المتصاعدة» (6).

ويواصل قائلاً:

«إن الرواية الغربية المتعنتة بأن الغرب خلوق بينما روسيا والصين شريرتان سردية ساذجة وخطيرة للغاية. إنها محاولة للتلاعب بالرأي العام حتى لا يتعامل بدبلوماسية حقيقية وملحة» (7).

ويواصل البروفيسور ساكس قائلًا:

«الأهم، في هذا الوقت الذي يتسم بالخطر الشديد، إنه يتعين على القادة الأوروبيين تحري المصدر الحقيقي للأمن الأوروبي، وليس الهيمنة الأمريكية، وإنما الترتيبات الأمنية الأوروبية التي تحترم المصالح الأمنية المشروعة لجميع الدول الأوروبية بما في ذلك أوكرانيا بالتأكيد، وبما في ذلك روسيا التي لا تزال تقاوم توسعات الناتو في البحر الأسود.في هذه المرحلة، الدبلوماسية، وليس التصعيد العسكري، هي الطريق الحقيقي للأمن الأوروبي والعالمي» (8).

علاوة على ذلك، فقد كتب أو تحدث الكثيرون عن الحرب المستمرة بين إسرائيل وحماس والوضع الإنساني الخطير في غزة الذي يزداد سوءًا يومًا بعد يوم. على سبيل المثال، خلال مقابلة أجريت معه مؤخرًا، أدان بشدة السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز، وهو يهودي، تصرفات الحكومة الإسرائيلية فقال: «ما يفعله نتنياهو وحكومته اليمينية الآن لشعب فلسطين وغزة أمر مروع لا يوصف. أعني أننا ننظر إلى ما بين 25 إلى 26 ألف شخص قد تم قتلهم.» (9)

«ثلثاهم من النساء والأطفال. وأصيب 65 ألف شخص. ونرى أن 70% من الوحدات السكنية في غزة قد تضررت أو دُمرت. أنت تنظر إلى 1.8 مليون شخص تم طردهم من منازلهم. الله أعلم إلى أين سيذهبون.» (10) كانت هذه الإحصائيات وقتما أُجرِيت المقابلة معه، أما الآن فتلك الإحصائيات مرشحة للزيادة بشكل كبير بلا شك.

ويتابع السيناتور ساندرز قائلا:

«في الوقت الحالي، آمل أن يسمع الجميع ذلك، أنتم تنظرون إلى احتمال أن يموت مئات أو آلاف الأطفال جوعا، ونحن في الولايات المتحدة، من خلال دعمنا المالي لإسرائيل، متواطئون فيما يحدث. وسأكون ملعونًا إذا أعطيت قرشًا آخر لحكومة نتنياهو من أجل مواصلة هذه الحرب ضد الشعب الفلسطيني.» (11)

وردًّا على سؤال حول ما إذا كان من الممكن التوصل إلى تسوية في الشرق الأوسط وكيف؟ قال السيناتور ساندرز:

«إن تاريخ المنطقة فظيع يتضمن المحرقة بستة ملايين يهودي، وبتضمن  تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من منازلهم، ولكن في نهاية المطاف، يحق للشعب الفلسطيني أن يكون له وطن خاص به، لذلك نحن نتحدث عن حل الدولتين.» (12)

وبالإضافة إلى الشخصين اللذين اقتبست كلامهما، فإن العديد من المعلقين الآخرين يتوصلون الآن إلى نفس النتيجة بشأن الحالة الحرجة التي يعيشها العالم، والتي حذرتُ منها قبل فترة طويلة. أنا لا أشعر بالرضا في هذا، بل من كل قلبي، آمل وأدعو الله أن يثوب العالم إلى رشده قبل فوات الأوان، ويضع حدًا لكل تلك الأعمال الوحشية والحروب الدائرة.

أما بالنسبة لما يحدث في غزة، فرغم أن لدى الإسرائيليين والفلسطينيين مؤيدين، فإن حق النقض لم يستخدم إلا لصالح إسرائيل منذ اندلاع الحرب الحالية قبل عدة أشهر. على سبيل المثال، في شهر فبراير/شباط، صوّت 13 من أصل 15 عضوًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لصالح وقف إطلاق النار الفوري في غزة، لكن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض وتم رفض القرار!

من المؤكد أن رأيي هو أنه يجب أن يكون هناك وقف كامل لإطلاق النار بين إسرائيل وحماس أو فلسطين، وكذلك في الحرب بين روسيا وأوكرانيا. بعد ذلك، بدلاً من تحريض حلفائهم على مزيد من الحرب، يجب على جميع أعضاء المجتمع الدولي إعطاء الأولوية لضمان تكثيف جهود الإغاثة لمساعدة من هم في أمس الحاجة إليها والتركيز على تحقيق تسوية دائمة وسلمية.

إذا وقفنا بدلاً من ذلك مكتوفي الأيدي وتركنا هذه الحروب تتصاعد أكثر، فسوف نفقد عددًا لا يحصى من الأرواح البريئة، وبالتأكيد سيحكم علينا التاريخ بازدراء، باعتبارنا السبب في الدمار والبؤس. وفي الختام، إذا أردنا أن ننقذ جيلنا القادم من أن يولد بآثار الإشعاع السيئة الناجمة عن الحرب النووية ونرغب في إنقاذه من الحرمان واليأس، وإذا أردنا أن ننقذ أنفسنا من لعناتهم وامتعاضهم، فيجب علينا أن نتحرك بحكمة وبصورة عاجلة.

ويتعين على القادة السياسيين وأولئك الذين لديهم القدرة على الوصول إلى صناع السياسات أن يتبنوا نظرة طويلة الأمد لما هو في مصلحة البشرية، بدلاً من أن تعميهم الرغبات الأنانية في تأكيد تفوقهم على الآخرين. ويجب علينا جميعًا أن نتكاتف، وننحي جانبا المصالح الوطنية والسياسية وغيرها من المصالح الخاصة من أجل الصالح العام للإنسانية، ولضمان أن نترك وراءنا عالما مزدهرا لأجيالنا المقبلة.

إن حاجة العصر هي أن نصب كل طاقاتنا وجهودنا على إحلال السلام الحقيقي حتى نتمكن من العيش في عالم من الأمل والرخاء، بدلا من عالم يتصف بعدم المساواة والكراهية وإراقة الدماء.

بهذه الكلمات، أتوجه بالشكر الجزيل لجميع ضيوفنا على انضمامهم إلينا هذا المساء والاستماع إلى ما قلته. وأعتذر عن الإطالة ولكني شعرت أن من الضروري القيام بذلك، نظرًا للحالة غير المستقرة التي يعيشها العالم.

أشكركم وأكرر مرة أخرى خالص تقديري لكم جميعا، شكرا جزيلا لكم.

الهوامش

  1. (الشورى: 41)
  2. (الحجرات: 10)
  3. (المائدة: 9)
  4. (الحج: 40)
  5. (الحج: 41)
  6.  – 7 – 8 – 9 -جيفري ساكس

10 – 11 – 21 بيرني ساندرز

Share via
تابعونا على الفايس بوك