غادروا جذباتكم النفسانية، واسلكوا أعسر الطرق وأضيقها في سبيل نيل الرضاء الإلهي. لا تجعلوا همكم لذائذ الدنيا حتى لا تبعدكم عن الله، واختاروا حياة المرارة لوجه إلهكم المحبوب، إن الألم الذي يُرضي الله خير من تلك اللذة التي تسخطه، وإن الهزيمة التي يرضى الله بها، أفضل بكثير من النصر الذي يوجب غضب الله. فأقلعوا عن المحبة التي تدينكم من غضبه. إذا طهرتم أفئدتكم، وأقبلتم إليه كل الإقبال ، فقد كتب لكم الغلبة والنصر ، ولن يقدر الأعداء أن يمسوكم بسوء.
لن تفوزوا برضاء الله ما لم تقلعوا عن رضاكم، وشهواتكم، وعزتكم، وأموالكم، وأرواحكم، وتختاروا المرارة التي ترقص على أعتابها أشباح الموت. فإذا اخترتم هذه المرارة فأنتم كالولد الحبيب في حضن الله، فيورثكم من كان قبلكم من الصديقين، وتنفتح لكم أبواب نعم السماء. ولكن النادر والقليل من يكون كذلك.
خاطبني الله وقال: إن التقوى غرسة، فاغرسوها في أرض القلوب، لأن الماء الذي يغذيها يروي الحديقة بأجمعها. التقوى جذر تعصف بكم رياح الفناء بدونه، وفي بقائه حياة الخلود. ماذا يفيد الإنسان التشدق بطلب الله إذا لا يخطو نحوه بقدم الصدق؟
الحق والحق أقول، إنه هالك من يخلط دينه بدنياه. وما أقربَ الجحيم وأدناها ممن لم يكن كله لله، بل هو لله وللدنيا. اعلموا أن عبادتكم عبث كلها، إذا خلطتموها ولو بذرة من ذرات هذا العالم الفاني. ولن تغدوا آنذاك عباد الله، بل عبيد الشيطان وأتباعه. ولا تتوقعوا يومئذ نصرة السماء. بل أنتم بذلك ديدان الأرض، ويدمركم الله في أيام معدودات، كما تهلك ديدان وتباد. فلا يعود الله معكم، بل يفرح بتباركم. إنما إذا انخلعتم عن أنفسكم، ومتم قبل أن تموتوا يتجلى الله لكم، وكان معكم أينما كنتم، ويبارك مساكنكم، وتنزل الرحمة الإلهية على جدرانها، حتى وتتقدس المدينة التي تقطنونها.
إن كانت حياتكم ومماتكم، وكل حركاتكم وسكناتكم، ولينكم وشدتكم، متجهة إلى الله وحده، وإن لم تمتحنوا الله عند مصائبكم ومراراتكم، ولم تقطعوا عنه صلتكم، بل سرتم إليه قدما فالحق والحق أقول إنكم قد أصبحتم بذلك شعب الله المختار.
إنما أنتم بشر كمثلي، وإلهي إلهكم، فلا تتلفوا قواكم المقدسة. لئن أقبلتم إلى الله كل الإقبال فاسمعوا إني أقول إنه تبعا لسنة الله الأزلية ستكونون شعب الله المختار.
اغرسوا عظمةَ الله وتوحيده في قلوبكم، قولا وعملا، لتتجلى ألطاف الله وإحساناته عمليا عليكم. اجتنبوا الحسد والضغينة، وقاسموا البشريةَ آلامَها ومصائبها.
عليكم بالتقوى والإصلاح في كل أعمالكم، لأنه لا يُدرَى بأي السبل يدخلكم الله في زمرة المقبولين.
بشرى لكم، فميدان وصال الله والتقرب إليه قد خلا. أقبلت كل شعوب الأرض على جيفة الدنيا وزخارفها، وأَعرضَ العالم عن الرضا الإلهي فمن يقتحم هذا الباب منكم بكل قوة، ففي الوقت متسع له ليبدي جوهره، ويبيت في أحضان الله جل و علا.
لن يضيعكم الله. لأنكم البذرة التي غرسها بيده المقدسة في الأرض. يقول الله: إن هذه البذرة ستنموَنَّ وتُثمرنَّ، وتتفرع أغصانها في كل حدب وصوب، فتصبح دوحة عظيمة. فمبارك من يوقن بهذا القول ويواجه الابتلاءات القادمة بكل ثبات، لأنه لا بد من الابتلاء، ليعلم الله الصادقين في بيعتهم منكم وليعلم الكاذبين. فالذي تزل قدماه لن يضر الله شيئا، وستحمله شقاوته إلى جهنم وبئس المصير. وكان خيرا له ألا يولد.
وأما الذين يصبرون إلى النهاية، وزلزلتهم المصائب، وهبت عليهم أعاصير الأحداث وسخرت منهم الشعوب، وتعرضت لهم الدنيا بكل الكراهية، هم الغالبون والمؤمنون حقا، ولهم عاقبة الأمور. وتتفتح فوق رؤوسهم أبواب السماء ببركاتها.
قال لي الله : أَخبر جماعتك: إن الذين آمنوا منهم إيمانا لا تشوبه شائبة الحياة الدنيا، ولا تعتوره أدران النفاق والجبن، والطائعون في السراء والضراء وحين البأس، أولئك رضي الله عنهم، وأن قدَمهم قدم صدق عند ربهم.