التفسير:
هنا بدأ الله مسائل الطلاق. وأول ما أمر به وجوب أن تنتظر المطلقة ثلاثة قروء، فما هو المراد من القروء؟
لقد اختلف علماء الأمة في هذا فرقتين: فالقرء الحيض، وذلك عند الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم .. أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ويرى عبد الله بن مسعود وأبو حنيفة هذا الرأي أيضا (تفسير ابن كثير والطبري). ولكن السيدة عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت والإمام مالك والإمام الشافعي فيقولون إن القرء هو الطهر. ويقول الشيخ محي الدين بن العربي أنه رأى في المنام فقال له: يا رسول الله، يرى العرب أن القرء هو الحيض، والطهر أيضا.. فما هو مراد الله في ذلك؟ ويتبيّن من جواب النبي له في المنام أنه أفتى بصحة المعنيين، ولكنه رجح معنى الطهر إذا قال له ثلاث مرات: إذا فرغ قرؤها فأفرغوا عليها الماء، وكلوا مما رزقكم الله (الفتوحات المكية، ج4،باب 560).
أن الحكمة وراء العدة – وهي فترة انتظار المطلقة –واضحة جدا إذ يجد فيها الزوج فرصة للتفكير، وإذا كان في قلبه حب لزوجته احتفظ بها.
وبقوله (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) يأمر المرأة إن كانت حاملا أن تخبر زوجها. لأن معرفة الزوج بذلك قد يحيي عاطفة الحب بينهما ويتصالحان.
و(ذلك) في قوله (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) يشير إلى فترة التربص والانتظار. يقول الله تعالى إنه إذا أراد الزوج إعادة العلاقة مرة أخرى أثناء هذه الفترة فيجب أن لا يحول دون ذلك أحد. ومن أكبر أسباب هذا الهدي القرآني أن أقارب المرأة عموما يقولون إن الزوج لم يحسن معاملتها وطلقها مرة، ولسنا الآن مستعدين لاستمرار العلاقات معه، يقول الله: يجب على أقارب الزوجة ألا يقفوا حائلا دون تجديد العلاقات بين الزوجين. إذا أدرك الزوج خطأه وأراد الرجوع إليها، فهو أحق بها من أي أحد غيره وله أن يرجع إليها في فترة العدة.
وفي قوله تعالى (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) بيّن قاعدة عامة بأن المرأة والرجل كليهما متساوية حقوقهما على صعيد الإنسانية. فكما أن على المرأة أداء بعض الحقوق للرجل، كذلك على الرجل أداء بعض الحقوق تجاه المرأة. ويجب ألا يفعل أحد منهما ما لا يناسب.
لم يكن قبل النبي أي اعتراف بحقوق للمرأة على الرجل، وإنما كانوا يعتبرونها كالعقار والمال.. تنتقل من يد إلى أخرى كالإرث. وكانوا يرون أن مولدها مجلبة للمسرة والمتعة للرجل، بل إن المسيحيين الذي يدّعون بأنهم حماة حقوق المرأة قد ورد في كتبهم المقدسة عن المرأة ما يلي: يجب ألا يغطي الرجل رأسه لأنه صورة الرب ومجده، أما المرأة فهي مجد الرجل) (كورنثوس: 7:11). كذلك جاء: (ولست آذن للمرآة أن تعلّم) (تيموثاوس12:2). إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي أبرز مكانة المرأة كإنسانة، وإن الرسول هو الإنسان الأول الذي أمر للمرأة بحقوق مساوية للرجل على أساس من الإنسانية، ورسّخ في أذهان الناس معنى قوله تعالى (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف). وما جاء في كلامه من نصائح تحض على حسن معاشرة النساء وأداء حقوقهن، وتبرز قدراتهن الكاملة.. فإنه لا يوجد عشر معشاره في توجيهات أي زعيم ديني آخر. هناك ضجة اليوم في العالم بشأن أداء حقوق النسوة، بل إن بعض الشباب المتأثرين من الحضارة الغربية يقولون إن المسيحية هي التي أدت حقوق المرأة إليها، ولكن التعاليم والنصائح التي قدمها الإسلام فيما يتعلق بأداء حقوق النسوة لا تبلغ التعاليمُ المسيحية شأوها. كانت عادة العرب أن توزع أمهاتهم في الإرث، ولكن الإسلام جاء فوضع المرأة في قائمة الورثة أنفسهم، فترث الزوجة زوجها، والبنت أباها، وأحيانا ترث الأخت أخاها.
فقوله (ولهن مثل الذي عليهن) يعني أنه فيما يتعلق بالحقوق على صعيد الإنسانية فللنسوة حقوق كمثل حقوق الرجال، ولا فرق بين الجنسين في هذا الأمر. فكما أن الله قد وجّه بعض الأوامر إلى الجنسين على السواء، كذلك جعلهما شركاء في نعم الله على السواء. وكما سينال المرء نعم الله يوم القيامة بحسب تعليم الإسلام كذلك ستحظى المرأة أيضا بهذه النعم. إن الله تعالى لم يهضم لهن حقا في هذه الدنيا، ولم يحرمهن في الآخرة من أي نعمة، إلا أنه أعلن أن للرجال عليهن درجة. من حيث الحقوق.. المرأة والرجل متساويان، ولكن من ناحية النظام والإدارة، فللرجال على النسوة نوع من الفوقية. مثال ذلك القاضي. فهو متساوٍ مع سائر الرجال في الحقوق، وكما أنه لا يجوز لأي إنسان صغُر أو كبُر، أن يظلم.. كذلك لا يجوز هذا للقاضي، ولكنه لكونه قاضيا يحظى بدرجة على غيره، لأن عنده السلطة لإنزال العقوبة على الآخرين بحسب القانون. كذلك تماما فيما يتعلق بالمعاملات الدينية والمدنية فإن الرجل والمرأة سيان، لكن أعطى الله الرجل نوعا من الفضيلة لكونه قوّاما. وفي نفس الوقت زوّد الله المرأة بقوة استمالة قلب الرجل مما يجعلها في كثير من الأحيان غالبة عليه. إن النسوة في البنغال –كما هو مشهور عنهن –يملكن من الفتنة والجمال ما يسحرن به الرجال. وبالفعل هناك كثير من النسوة يتحكمن في الرجال بسبب هذه الفتنة حتى يبدو كأن الأمر كله في يد المرأة. فالحقيقة أن سلطة وحكم كل إنسان مختلف عن غيره. ففيما يتعلق بتنفيذ أحكام الشرع وتوطيد النظام فإن الله تعالى قد وهب الرجل فضيلة على المرأة. فمثلا، يأمر شرعنا بأنه لا يجوز للفتاة الزواج إلا بأذن أبيها (البخاري، النكاح). وفي هذه الوصية كثير من المنافع والمصالح. هناك آلاف من الأحداث وقعت في أوروبا تمكَّن فيها المخادعون بمظهرهم الوسيم من الزواج بفتيات من أسر كبيرة، ثم حدثت كثير من المفاسد والشرور. ولكن هذا لا يحدث في بلادنا، لأنه قبل الزواج يشترك الآباء والإخوة والأقارب في البحث والتحري، وما يتم بعد ذلك يكون عموما خاليا من هذه النقائص والعيوب الموجودة في الغرب. لقد تفاقم هذا العيب في المجتمع الغربي حتى أن أخت إمبراطور ألمانيا السابق تزوجت لجهالتها بطباخ لأنه جميل المظهر، وأشاع بين الناس أنه أمير من أمراء روسيا، وبعد الزواج تبيّن أنه كان يعمل طباخا. تقع هذه الأحداث في أوروبا بكثرة لتؤكد صحة ما قرره الله من أن الرجل هو القوّام. ولكن لا يعني الشرع بذلك أن يظلم الرجل المرأةَ أو يهضم حقوقها، وإنما يستهدف حماية المرأة من ضرر قد يصيبها في بعض الأمور. أما الأمور التي لا يمكن أن تتضرر فيها فإن حق القرار أبقاه الله في يد المرأة.
فالأوامر القرآنية تتضمن كثيرا من الحِكم والمصالح، وإذا خالفتها الدنيا عانت كثيرا من الأضرار، مما يؤكد أن مخالفة تعاليم الإسلام لا تأتي بنتائج طيبة محمودة.
قوله تعالى (والله عزيز حكيم) ينبه الرجال أن لا يستغلوا ما أعطاهم الله من درجة على النساء فيهضموا حقوقهن، وليتذكروا أن هناك حاكما عزيزا فوقهم، يملك القوة الحقيقية. وتدل كلمة (حكيم) على أن السلطة التي أُعطِيَها الرجل لإدارة الأمور وإقامة النظام مبنية على الحكمة الكاملة، وإلا ضاع الأمن من البيوت. لا بد للزوجين أن يعيشا معا، ولا يمكن أن يتوطد النظام ما لم يكن لأحدهما درجة. ولهذا السبب أعطي المرء درجة. وفي موضع آخر بيّن سببا آخر لذلك وقال لأن الرجل ينفق على المرأة فاستحق بذلك الفوقية لإدارة الأمور (النساء: 35).
يتضح من هذه الرواية جليا أن للرجل حق إعادة زوجته إليه بعد كل تطليقة من تطليقتين، ولكن بعد الطلاق الثالث لا حق له في إرجاعها. ولا تتم التطليقتان دفعة واحدة، بل لا بد أن تتم الطلقة الأولى ثم الطلقة الثانية كما يشير قوله تعالى (مرتان).. أي مرة بعد مرة. وتكون لكل طلقة منهما فترة للعدة وهي ثلاثة قروء كما ورد في الآية السابقة. وسواء أعلن لها طلاقه هذا أول مرة أو كرره عند كل قرء فهو تطليقة واحدة
التفسير:
المراد من قوله (الطلاق مرتان) أن الطلاق الذي يمكن للزوج بعده أن يرجع إلى زوجته مرتان. ولا يجوز للرجل أن يطلق المرأة مرة بعد أخرى، ثم عندما توشك فترة العدة على الانتهاء يرجع إليها.. لأن هذه سخرية خبيثة بأحكام الدين لا يسمح بها الإسلام أبدا.
تذكر الأحاديث صراحة أنه في زمن النبي قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك أبدا فتبينين [أي تنفصلين]مني،ولا آويك أبدا. قالت: كيف ذلك؟ قال: أطلقك حتى إذا جاء أجلك أراجعك. فجاءت النبي وحكت له ما جرى، فنزل قول الله تعالى (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) (الترمذي، الطلاق).
يتضح من هذه الرواية جليا أن للرجل حق إعادة زوجته إليه بعد كل تطليقة من تطليقتين، ولكن بعد الطلاق الثالث لا حق له في إرجاعها. ولا تتم التطليقتان دفعة واحدة، بل لا بد أن تتم الطلقة الأولى ثم الطلقة الثانية كما يشير قوله تعالى (مرتان).. أي مرة بعد مرة. وتكون لكل طلقة منهما فترة للعدة وهي ثلاثة قروء كما ورد في الآية السابقة. وسواء أعلن لها طلاقه هذا أول مرة أو كرره عند كل قرء فهو تطليقة واحدة.
أما قول الفقهاء أن يطلقها في كل قرء (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاشاني) فذلك ليتذكر الإنسان ويراجع نفسه لعله يفكر في إعادتها إلى عصمته. وعندي فإنها تطليقة واحدة سواء أعلن الطلاق مرة واحدة أو كرره عند بداية كل قرء، وبعد انقضاء فترة العدة يمكن للرجل أن يتزوجها. وتجوز مثل هذه التطليقة مرتين فقط.. أي يطلقها وبعد انقضاء العدة يتزوجها من جديد. أما إذا طلقها للمرة الثالثة فلا يجوز أن يتزوجها مرة أخرى إلا بعد أن تتزوج بشخص آخر زواجا شرعيا حقيقيا، وليس زواجا يراد به التحليل.. لأنه لا وجود لهذا النوع من الزواج في الإسلام. فالمراد بالطلاق التطليقة التي انقضت عدتها، وليس التي لم تنقَضِ عدتها، لأنه يستطيع أن يرجع إليها ما دامت في هذه العدة. أما التطليقة التي انتهت عدتها فيمكن له أن يتزوجها بعدها، وهذا مباح له مرتين فقط. أما بعد المرة الثالثة فلا. صحيح أن هناك روايات في كتب الحديث وأقوالا للفقهاء تخالف هذا الأمر. ولكن كلمات القرآن واضحة صريحة: (الطلاق مرتان). والآية السابقة أيضا توضح أن فترة الطلاق ثلاثة قروء؛ ويمكن للزوج في هذه الفترة أن يُرجع مطلقته دون عقد جديد.. حيث يقول الله (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهم إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر. وبعولتهم أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) ثم بعد آيتنا هذه بآيات قال تعالى (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف)-233. فهذا يبيّن أنه بعد انقضاء العدة-أي ثلاثة قروء –يمكن أن يتزوج مطلقته، ولكن بعقد جديد. وهذه الفرصة يمكن أن تكرر له مرتين فقط. فإذا حدث هذا مرتين، ثم طلقها مرة ثالثة، فلا يجوز أن ترجع إليه مرة أخرى. ولا قبل انتهاء العدة ولا بعدها ولا بعقد جديد. يمكن له العقد عليها مرة ثالثة في حالة واحدة فقط.. ذلك إذا تزوجت مطلقته من رجل آخر زواجا شرعيا، ثم يحدث أن يطلقها الزوج الثاني لسبب أو لآخر.. فتكون حرة ليتزوجها مطلقها الأول وتكون زوجة له من جديد مرة ثالثة. هذا هو معنى قوله تعالى (الطلاق مرتان).
وقوله تعالى (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) بيّن فيه أنه بعد هاتين التطليقتين على الرجل إما أن يمسكها في بيته بالمعروف، أو يطلقها بالإحسان، هناك حديث نبوي يشرح قوله (تسريح بإحسان) فعن أبي ذر قال: جاء رجل إلى النبي وقال يا رسول الله، أرأيت قول عز وجل (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فأين الثالثة؟ قال: (تسريح بإحسان) (تفسير القرطبي). فتبيّن من ذلك أن التسريح بإحسان هو التطليقة الثالثة.
وقد ذكر كلمة (بإحسان) لتوجيه النظر إلى أن على الإنسان أن يعامل المرأة عند الطلاق بإحسان ويعطيها حقّها زائدا، ويودعها باحترام وإكرام. كان بعض الصحابة –رضوان الله عليهم-يعطون الزوجة عند تسريحها أكثر من عشرة آلاف روبية.
وفي قوله (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) يصرح أنه بعد الطلاق لا يجوز أن يسترد الرجل مما أعطى زوجته التي طلقها.. من حلي أو ثياب أو مال أو عقار، بل عليه أن يؤدي للمرأة مالها من صداق ومهر إذا كان عليه منه شيء.
ثم ذكر استثناء فقال (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) أي إلا إذا خيف ألا يؤدي الرجل حقوق المرأة، أو لا تؤدي المرأة حقوق الرجل، وفي هذه الحالة قال (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به).. أي إذا رأى القاضي أن كلاًّ من الفريقين يريد أن يضر بالآخر، وأن كلا الطرفين مُدان والتقصير مشترك، فعلى القاضي أن يقبل من المرأة تخلّيها عن بعض المال للرجل، ولا خطأ في ذلك، وهذا يسمى في الاصطلاح الفقهي خُلْعًا.
والعجيب أن الله قد استخدم ضميرين للجمع “تأخذوا” ، “خفتم”، الأول في تأخذوا يرجع إلى الأزواج، والثاني في خفتم يرجع إلى أولياء الأمور.. أي القضاء (تفسير الرازي). وهذا يسمى في اصطلاح النحويين “انتشار الضمائر”. والمعنى: إذا خاف أولياء الأمور والقضاء أن الزوجة غير راضية عن زوجها وبالتالي لن يؤدي الرجل حقوقها بالعدل إذا أرادوا الصلح بينهما.. وأبدت المرأة استعدادها للتنازل عن بعض حقوقها للرجل لتحصل على الطلاق فهذا جائز، ولا جناح في ذلك. وقد وردت حادثة في زمن النبي تلقي الضوء على هذه المسألة، فقد جاءت بنت عبد الله بن أبي سلول زوجة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي وقالت: والله ما أعتب على ثابت في دين ولا خلق، ولكني.. لا أطيقه بغضا. فقال لها النبي : (أتردين عليه حديقته؟ فقالت نعم. فأمره رسول الله أن يأخذ حديقته ولا يزداد) (النسائي وابن ماجة، أبي أب الطلاق). وفي رواية أخرى أن هذه السيدة أبدت استعدادها لأن تعطيه أكثر من هذا فقال النبي : أما الزيادة فلا. وتقول بعض الروايات إن هذه الواقعة كانت مع حبيبة بنت سهيل (المرجع السابق). على أية حال فقد أرجع النبي الحديقة من المرأة إلى الرجل وفرّق بينهما بالطلاق، ولم يسمح للزوج أن يأخذ أكثر من ذلك. فتبيّن من ذلك أنها تعيد للزوج مما أعطاها إياه ولا أكثر من ذلك.
أما قوله تعالى (فلا جناح عليهما) فله سببان: الأول-أن الله قال قبل ذلك (لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا).. وبذلك اعتبر استرداد شيء من المرأة إثما، وكانت هناك شبهة إثم الرجل في هذه الحالة، ولإزالة هذه الشبهة قال فلا جناح عليهما في هذه الحالة.
الثاني: أن إعطاء المرأة بعض المال للتحرر يدل على رغبتها في الانفصال، وهذه الرغبة إثم، فقد جاء عن ثوبان أن رسول الله قال: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) (المرجع السابق). فالله تعالى يقول: إذا كان هناك اضطرار أو مبرر حقيقي لطلب الطلاق فليس إثما في هذه الحالة أن تطلب المرأة الطلاق. كذلك فإن تسريح الرجل المرأة بأخذ بعض المال منها دليل على طمعه وجشعه، وهذا أيضا إثم. فما دام هناك احتمال الإثم من كلا الطرفين أمر الله أن يقوم القاضي أو الفريق الثالث بالتحقيق في الأمر، فإن رأى أن ذلك هو الطريق الأمثل للانفصال، وفرق بينهما برد بعض المال من المرأة للرجل فلا جناح في ذلك.
ثم إن الذين هم غير واقفين على أحكام الشريعة يقولون إن هذه تطليقات ثلاث تحرِّم المرأة ولا يجوز له زواجها بعد ذلك.. مع أنها تطليقة واحدة من حيث الشرع، ولا تحرِّم عليه أن يردها قبل انتهاء العدة أو العقد عليها انقضاء العدة
وفي قوله (تلك حدود الله فلا تعتدوها) بيّن أن هذه هي الحدود التي وضعها الله وعليكم ألاّ تخرجوا عنها. ولكن الأسف أن المسلمين يخالفون هذه الأحكام حتى أن البعض قالوا إن الرجل لو طلق زوجته ثلاث تطليقات في مجلس واحد كان الطلاق فراقا باتا (الفقه على المذاهب الأربعة)، مع أن هذا السؤال قد وُجّه إلى النبي هل هو طلاق واحد أم ثلاثة فقال: هو طلاق واحد. وروي عن ابن عباس: طلّق ركانة زوجته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله النبي : كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا في مجلس واحد. قال: إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها (سنن أبي داود، الطلاق)
وفي رواية عن محمود بن لبيد أن رسول الله أُخبر عن رجل طلق زوجته ثلاث تطليقات، فغضب وقال: (أيُلعب بكتاب الله عز وجل وأنا بين أظهركم؟) (النسائي الطلاق).
وهناك رواية عن ابن عباس: كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتيْن من خلافة عمر طلاقُ الثلاثِ واحدةً، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (مسلم، الطلاق). فإن هؤلاء بدءوا يستعجلون في أمر يجب ألا يستعجلوا فيه، ولذلك قرر سيدنا عمر قرارا مؤقتا بأن من طلّق ثلاث مرات في مجلس واحد سوف يُنفذ كطلاق البتة. وقد وضح الإمام ابن القيم هذه المسألة أيما توضيح في كتابه (إعلام الموقعين).
ولسوء الحظ أن الناس في بلادنا لجهلهم بالتعاليم الإسلامية قد اعتادوا لخلافات وأسباب تافهة أن يقولوا للزوجة: أنت طالق ثلاثا، أو أنت طالق ألف طلقة وما يشبه ذلك. ولكن الإسلام لا يسمح بهذه الحماقة. ثم إن الذين هم غير واقفين على أحكام الشريعة يقولون إن هذه تطليقات ثلاث تحرِّم المرأة ولا يجوز له زواجها بعد ذلك.. مع أنها تطليقة واحدة من حيث الشرع، ولا تحرِّم عليه أن يردها قبل انتهاء العدة أو العقد عليها انقضاء العدة. ولكن- كما ذكرت آنفا- فإن سيدنا عمر أمضاها طلقة باتة لأن الناس قد أكثروا من هذه الحماقة، فأصدر أمرا مفاده أن من طلق زوجته ثلاث مرات في مجلس واحد فسيعاقب بالفصل بينه وبين زوجته. ولما سئل عمر أن النبي لم يأمر بذلك فكيف يفعله هو؟ قال: إنما أراد الرسول أن ينتهي الناس عن هذا الأسلوب في الطلاق، ولكن الناس لا ينتهون، لذلك سأعاقبهم بتنفيذ هذا الطلاق. وقد قام بذلك فعلا، فكان عمله هذا لمصلحة مؤقتة، ولإنزال العقاب، وليس كحكم مستقل دائم.
على أية حال، فقد قال النبي (أبغض الحلال عند الله الطلاق) (أبو داود، الطلاق).. فهو حلال ولكنه مكروه ولا يحبذه الله تعالى، والسبب أن الأشياء التي لا بد منها للإنسان في حياته الدنيوية والتي تجلب عليه الراحة والسكينة هي العلاقات بين الزوجين. والحقيقة أن السكينة والراحة التي تتأتى للإنسان بالعلاقات الزوجية لا تتيسر له بأي طريق آخر. ولقد قال القرآن عن الزوجين (وجعل بينهما موَدة ورحمة) (الروم: 22). وورد في التوراة أن الله خلق حواء لتكون راحة وسكينة لآدم (تكوين 24:2).. أي أنه لم يكن هناك سبيل لراحة آدم وسكينته بدون حواء. ولكن هذين الكائنين اللذين يجلبان السكينة والراحة لبعضهما البعض يتسببان أحيانا في الخصومة والشجار، وبدلا من جلب السكينة والراحة يجلبان الأذى والألم أكثر من أي شيء في الدنيا. هناك آلاف من الأزواج يسببون أشد العذاب لزوجاتهم، وهناك آلاف الزوجات يوقعن أشد العذاب والنكد بأزواجهن. وفي هذه الأحوال أباح الإسلام للرجل أن يطلّق المرأة، أو للمرأة أن تطلب الطلاق. ولكن قبل الطلاق أو الخُلع بيّن الإسلام أمورا تجب مراعاتها على الرجل والمرأة وعلى الحَكَم بينهما.. حتى لا تكثر حالات الطلاق والخُلع دون حساب.
يقول النبي (إن أبغض الحلال عند الله الطلاق).. وما دام الأمر كذلك فكيف لمؤمن يحب الله أن يقترب من عمل يعرف أنه من أبغض الأمور إلى الله تعالى. ليس ضروريا أن يعمل الإنسان بكل أمر جائزٍ مباحٍ، فمثلا معلوم للجميع أن السفر إلى البلاد الأخرى حلال، ولكن كم من الناس سافروا وزاروا تلك الأماكن؟ لو كان معنى الحلال أنه لا بد للمرء أن يفعله لكان لزاما على كل من لم يسافر ليزور العالم أن يبيع ما عنده من عقار ويرحل لزيارتها! ولكن هذا لا يحدث أبدا، مما يدل على أنهم يدركون أنه لا لزوم لأن يفعل المرء كل ما هو حلال، بل لا بد من مراعاة ما يناسب وما هو في محله من الحلال. فإذا كان العمل به يؤدي إلى خلق كراهية لدى الآخرين فالأفضل تجنبه في كل حال. مثلا، أكل البصل حلال، ومع ذلك نُهينا عن الذهاب إلى المسجد بعد أكلِه، لأن الناس سوف يتأذون برائحته (البخاري، الأطعمة). كذلك يحل للمرء أن يلبس رداء أخضر أو أصفر، ولكن البعض لا يشتري ثوبا من هذا اللون أو ذاك لأنه لا يحبه، لأن الحلال عنده ما يحبه ويوافق طبعه ومزاجه. إن الله تعالى قد أمرنا بتناول الحلال والطيب من الأشياء، ولكن بعض الناس لا يأكلون الباذنجان، وبعضهم لا يحبون القرع، ولو سئلوا لقالوا: لا نحبه. وكذلك يبني الناس بيوتهم بحسب ذوقهم وطبعهم، فهذا يحب طابقا واحدا والآخر يفضل طابقين، منهم من يفضل وجود حديقة، وغيره لا يحب ذلك، وهلم جرا.
كل هذه الأمور حلال، ولكن لا يعمل بها كل الناس، لأن العمل بكل حلال ليس ضروريا. ولكن فيما يتعلق بتطليق المرأة فإن المرء يفكر بأن هذا حلال فيطلقها بدون تأنٍّ وتفكير! ..مع أن الإنسان في كثير من الأحيان يترك بعض الحلال لأجل مصلحة شخصية أو لأجل أصدقائه أو المجتمع. الحقيقة أن المؤمن يترك هذا الحلال –أي الطلاق –من أجل الله تعالى. يقول: هذا العمل بغيض عند الله فلن أفعله حتى لا أُسخط ربي. فليس من الرشد في شيء أن يكثر الطلاق؛ وإنما الرشد والهداية تجنبه. الحلال يعني أنه يجوز لكم فعله إن أردتم، فهو ليس منهيا عنه من حيث الشرع، ولكن يجب أن تُراعى أفكار الآخرين وعواطفهم وحبهم لكم أيضا. فالحلال الذي يؤدي العمل به إلى جرح مشاعر الآخرين وحرمانكم من حبهم وتعاطفهم فهذا من الحلال الذي له وجه محرّم. ما دام المرء لا يأتي ما يُسْخِط أصدقاءه وقومه.. فكيف يليق به أن يأتي ودونما اكتراث.. ما يُسخِط الله؟ هل الله ضعيف بحيث لا يبالي الإنسان بعمل ما يسخطه؟ حاشا لله! ما دام أصحاب العشق المادي يخافون من إسخاط أحبائهم ولا يأتون ما يثير حفيظتهم.. فكيف يليق بالمؤمن أن يسمع حديث الرسول إن أبغض الحلال عند الله الطلاق.. ثم يتجاسر على مخالفة هذا الأمر؟ ما دام الشرع يوصي باجتناب أبغض الحلال هذا … فمن واجب كل مؤمن أن يبذل جهودا صادقة للتقليل من هذه الأحداث. ولا ينسى هذا النصح النبوي عند توتر العلاقات بين الناس.
ويجب أن نتذكر هنا أن الطلاق والخُلع في الحقيقة شيء واحد. إذا ترك الرجل المرأة فهذا هو الطلاق. أما إذا طالبت المرأة بالانفصال عنه فهذا هو الخلع. ويندرج الخلع أيضا تحت أبغض الحلال عند الله.
وفيما يتعلق بحقوق النساء فإن المسلمين قد نسوا مسألة الخلع تماما مما عرض النساء إلى مشاكل كثيرة كبيرة، ولكن الأحمدية أحيت لهن هذا الحق، وساعدتهن على التخلص من هذه المعاناة التي كن يواجهنها بسبب تناسي هذه الحقوق. كما وضحت للناس موضوع هذا الحديث النبوي، وبيّنت أن الطلاق أو الخلع هو من أبغض الحلال عند الله تعالى. يأمرنا القرآن الكريم عند نشوب خصومة بين الزوجين أن تشكَّل لجنة تحكيم تبذل جهودها لإزالة الخصومة حتى يعيشا مرة أخرى في أُلفة ومودة كسابق عهدهما، ولكن إذا تعذر الصلح بينهما في كل حال يرفع الأمر إلى القاضي ليفصل بينهما.
ومهما كان الأمر فيجب أن نتذكر جيدا أنه من المؤسف جدا الاستعجال بالخلع أو الطلاق لكل صغيرة من المشاكل، فهو من الأمور الكريهة التي يجب على كل إنسان شريف النفس أن يمقتها.