عندما يُقبل عيد الفطر المبارك عَقِبَ شهر الصوم يملأ الفَرَحُ قلوب المسلمين عامة على تبايُن مشارِبِهم واختلاف أوطانهم وتفاوتُ أعمارهم. فما هو مبعثُ ذلك السرور الشامل؟ إن الإنسان العاقل لا يفرح عادةً إلا لسببين: لخير يتوقّع نواله، أو لخير قد ناله فعلا. ومِن ثم ينبغي لنا لكي نفرح بهذا العيد أن ندركَ أولا ما هو الخير الذي قد نلناه فعلا، حتى يكون ذلك باعثا لنا على السرور والحبور.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كما أن العيد سنة من السنن التي استنَّها الرسول ، ولا شك أن ذلك كان بتوجيه من الله تعالى، ومن ثم فلا بد من أن يكون لهذه السنة حكمةٌ سامية. ونحن إذ نَعجِز عن الإحاطة التامة بجميع أغراض الحكمة الغالية، فإنْ أدركنا لقدرٍ ولو يسيرٍ منها، من شأنه أيضا أن يبعث فينا الفرحَ والسرور لما نعنيه من درسٍ قيّمٍ يفيدنا في مجال الرقي الروحاني الذي نسعى إليه.
وحاصل القول إننا لو تمكنا من إدراك ما ننتظره من خير أو ما نلناه من خير فعلا، ثم لو عرفنا شيئا عن حكمة هذه المناسبة السعيدة، فعندئذ يكون لدينا من الأسباب والدواعي ما يجعلنا نفرح بالعيد فرحا حقيقيا كاملا.
لقد سن الرسول صلاةَ العيد في السنة الأولى من الهجرة، أي في الوقت الذي لم يكن قد وضح فيه بعد ثبوت قدم الإسلام، كذلك نزل من التشريع السماوي بما يطالب المسلمين بمزيد من التضحيات، إذ تقررت الزكاةُ في تلكم السنة الأولى من الهجرة. ثم إن كلَّ الدلائل كانت تشير إلى ما ينتظر المسلمون من تضحيات تُبذَل فيها الأنفسُ والأموالُ، ومَشَاقَّ تفوق ما كانوا يعانونه قبل الهجرة. ومع ذلك كله سنَّ الرسول سنةَ العيد، فكأنه بهذا العيد يسوق إلى أتباعه البشرى بقرب هزيمة الباطل وانتصار الحق، وكأنه عليه الصلاة والسلام يبشرهم أيضا بأن تلكم الشدائدَ التي يحملونها وتلكم المحنَ التي سيتعرضون لها ويجتازونها بصبرٍ وجَلَدٍ، سوف تنتهي إلى ما يحبونه ويرضونه.
ولشدة إيمان هؤلاء المسلمين الأوائل قولا وفعلا، أيقنوا أن بشرى عيد الفطر المبارك لا بد وأن تتحقق. ومن هنا كان مبعث سرورهم وفرحهم. وكيف لا يفرحون وهم يعلمون أن الله لا يضيع أجرَ من أحسنَ عملا. وفعلا بدأت تتكشف لهم أماراتُ ذلك النصر الكامل، فكانت موقعة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة، ثم تتابعت الأماراتُ على النحو المعروف في السيرة إلى أن انتهى الأمر بفتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة.
ونحن في زمننا هذا إذا ما اعتبرنا بذلك الدرس الذي قدمه لنا الرسول هو وأصحابه، وإذا ما أيقنَّا كما أيقنوا بأن وعده في قوله:
سوف يتحقق لا محالة، فعندئذ يحق لنا أن نفرح في يومنا هذا، ولكن على شرط أن نكون أيضا متصفين بتلكم الصفات العالية التي كان عليها المسلمون الأوائل.. فنرحِّب بالبذل والتضحية، موقِنين أن الله تبارك وتعالى لن يُضيع أجرَ من أحسَن َ عملا. وإلا فإن وعده لا بد أن يتحقق على أيدي أناس غيرنا طبقا لقوله تعالى:
نخلص مما سبق إلى أن مبعث الفرح في عيد الفطر المبارك قد يكون موجبه ما ينتظره المسلمون من خير من الله تبارك وتعالى، وهو خير يتميز بالسعة، أي أنه يشمل الأمة في مجموعها، أو بعبارة أخرى يؤدي إلى ازدياد شأن الإسلام وانتشار نوره في الآفاق طبقا لوعده جل وعلا. ونحن إذ نحاول أن نتبين ذلك الخير الذي نلناه فلن نستطيع أن نحيط به علما أو أن نحصيه، إلا أن ذلك لا يمنع من إدراك كُنْهِ بعض ذلك الخير الذي يتصل بمناسبة عيد الفطر المبارك.
إن أوّل ما يلفت نظرنا في هذا الصدد هو أن موعدَ ذلك العيد قد اختِيرَ عَقِبَ شهر رمضان مباشرةَ، ومن ثم فإن ذلك يدعونا إلى القول بأن لهذا الاختيار حكمتَه الجليلة، وهو ما يحدو بنا إلى تلمُّس الرابطة بين شهر رمضان وبين عيد الفطر. وأقرب ما يخطر على بالنا في هذا الصدد هو أن القرآن المجيد قد نزل في ذلكَ الشهر، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:
ونجد في هذه الآية أن القرآن الكريم قد وُصِف بصفتين: هدى للناس وبينات من الهدى؛ أي إنه دستور هداية مصحوبة بأدلةٍ واضحة، والوصف الثاني هو أنه الفرقان، ومعنى الفرقان كل ما فرق به بين الحق والباطل ، أو النصر، أو البرهان، أو الصبح.. (قاموس أقرب الموارد).
فإذا كان هذا هو شأن ذلك الدستور السماويّ، فلا شك في أن المؤمنَ الحقيقي يشعُرُ بذلك الخير العظيم المنزَّل من الله تعالى. وكيف لا يفرح وهو قد أدرك الفرقَ الكبيرَ بين حاله الآن وهو يسير على الهدي القرآني، وبين حاله فيما لو كان قد تنكَّر له وظلَّ يتخبّط في الضلالة.
ولكن إحساسَ المسلم بهذا الفراق يتوقف على درجة تمسُّكه بتعاليم القرآن الكريم، أي أنه كلما ازداد تقوى وصلاحا كلما ازداد احساسُه بالبون الشاسع بين الهدى والضلالة، وبالتالي يزداد فرحه وسروره، ويكون تكبيرُه وتهليله أصدقَ وأعمقَ. وأما المسلمَ التي تَراخت صلتُه بتعاليم الدين ووهنَت رابطتُه بالله تعالى وبرسوله الكريم، فإنه يكاد لا يُحسُّ بالفرق الكبير بين الإسلام والكفر، أو بين النور والظلمات على حد تعبير القرآن المجيد. ولذلك فهو لا يفرح لعيد الفطر بالقدر الذي يفرح له المؤمنُ الحقيقي الذي يُدرِكُ عظيمَ فضل الله تعالى عليه بهذا النور المبين.
ومِن هنا يتكشف لنا فرقٌ دقيق في كيفية استقبال الناس لعيد الفطر المبارك. فالذين يعرفون شيئا من حكمته ويتأثرون من هذه الحكمة يكون فرحُهم داخليا أكثَرَ منه خارجيا، وأما مَن عَدَاهم فإن فرحَهم يكون سطحيا أكثَرَ منه باطنيا، بل ولا يكادون يميزون بين العيد الديني الذي لهُ حُرمته وقداستُه وبركاته وتأثيرُه الخالدُ، وبين أي عيدٍ دنيوي.. فهم يستقبلون هذا العيد أو ذاك باللهو واللعب، ثم ينمحي أثرُه بمجرد انقضاء يومه. ولكن المؤمنَ الحقيقي يرى في ذلك العيد الذي يحتفل به سنةَ بعد أخرى أنه أشبَهُ شيء بعلامات الطريق، أي طريق الرقي الروحاني. هكذا يزداد فرحُه عمقا وتأصُّلا سنةً بعد أخرى، لما يلمَسُه مِن ازدياد تقرُّبه من الله تعالى، نتيجةَ ازدياد اقتدائه بالرسول . إنه لا يسير في ظلام الضلالة المؤدية إلى الهاوية، وإنما يسير في النور، أعني ذلك النور الذي أشير إليه في قوله تعالى:
ونحن الذين ندرك اننا نعيش في زمان البعثة النبوية الثانية أَجدَرُ بنا أن نجعل من ذلك العيد تذكرةً تعيد إلى أذهاننا ما كان عليه المؤمنون الأوائل، فنقتفيَ آثارَهم كي نجنيَ ثمار أعمالنا الصالحة بمثل ما جنَوا، ونفرح في هذا العيد بالكيفية التي كانوا يفرحون بها.
الواقع إن هذا العيد ذكرى وتذكرةٌ، فهو ذكرى للهجرة النبوية التي تُعتَبَرُ بدايةَ تحوُّلٍ بالغ الأثر في تاريخ الإسلام، وتذكرةٌ بموقف المسلمين من هذه الهجرة، وما فَرضت عليهم من تضحية جديدة بالإضافة إلى تضحياتهم السابقة، إذا اقتضى الأمر أن يقطعوا صلَتهم بأهليهم وأحبائهم راضين بما قسم الله لهم. كما فرضت الهجرة أيضا على أهل المدينة معاونةَ أولئك المهاجرين ماديًا، وليس ذلك فحسب، بل إن الهجرة كانت بالنسبة للأنصار بداية انتقال من حالة الأمن والدَعَة إلى الجهاد بالأنفس والأموال والوقوف ضد عدو يفوقُهم عَدَدًا وعُدَّةً وخِبرةً بفنون القتال.
وهذا العيد هو أيضا احتفاءٌ بنزول القرآن المجيد، وتذكرةٌ بما في اتّباع هَديه والتمسك بتعاليمه مِن خيرٍ عميمٍ على النمو الذي نلمَسُه في تاريخ المهاجرين والأنصار.
ثم إن عيد الفطر يعيد إلى أذهاننا أيضا ذِكرَى رسول الله ، وفي ذلك تذكرةٌ بما حُمِّل عليه الصلاة والسلام من مهمة ثقيلة شديدة الوطء، وكيف واجه مسئولياتها الخطيرة بحكمة تبعث على الدهشة، دون أن يتطَرَّق إلى قلبه اليأسُ أو الضيق. وما ذلك إلا لتمسكه بحبل الله المتين.
وفي رأيي إن هذا العيد يُغنينا بِحِكَمِه ودروسه عن ابتداع الكثير من الاحتفالات التي يُضفي عليها مَظهرٌ ديني. ولو تذوَقنا فرحَته الحقيقة الخالدة لما احتجنا لاصطناع المناسبات المختلفة لاجتلاب السرور السطحي الزائف الزائل.
إن المؤمن عندما يستقبل عيدَ الفطر وتطوفُ بذهنه مواعظُه الغالية، لا يسعه إلا أن يتفكرَ فيما استفاده من تلكم المواعظ، وهو إذ يجد أنه فعلا قد جَاهَدَ في سبيل اتباع الرسول وصحابته رضوان الله عليهم، أو بعبارة إذا كان قد سعى قدرَ طاقته للتخلق بخلق القرآن، عندئذ يُداخِله الفرح القلبي الحقيقي، ويكبُّر اللهَ تعالى تكبيرا صادرا من أعماق قلبه يجيش بحرارة الإيمان الذي لا تنطفئ جذوتُه. وهو في تكبيره لا يُعبِّر عن حمده لله تعالى على ما هداه إليه وقدره عليه من خير فعله فحسب، بل يعبر أيضا عما يرنو إليه في قابل أيامه من مزيد من الخير والبركات بفضل الله تعالى وعونه وكَرَمه.