رجالٌ لا تُلهيهم تجارةٌ و لا بيعٌ عَن ذِكر الله
ميرزا مظفر أحمد
هو نجل ميرزا بشير أحمد ابن سيدنا المسيح الموعود . كان مريضا منذ شهور عديدة، ومنذ بضع شهور تدهورت حالته الصحية كثيرا، فأُدخل المستشفى حيث بقي خاضعا للعلاج حتى لحق بالرفيق الأعلى. كان مرزا مظفر أحمد رحمه الله عالما اقتصاديا مشهورا على المستوى العالمي، وكان يحظى بمكانة مرموقة واحترام لائق في الأوساط الاقتصادية العالمية إذ عمل فيها على مناصب عالية. كما قدم لبلده الأم باكستان خدمات اقتصادية كثيرة في مجالات مختلفة، فعمل كوكيل وزارة المالية ونائب رئيس لجنة التخطيط والمستشار الاقتصادي لرئيس الجمهورية. ولكنه فوق كل ذلك كان إنسانا تقيًا، متدينًا، متواضعًا وخادمًا مخلصًا مثاليًا للجماعة. قدم الدين على الدنيا في كل مراحل حياته. بالإضافة إلى كثير من خدماته الجليلة للجماعة شغل منصب أمير الجماعة في أمريكا منذ عام 1989،أدى مهمته هذه بأكمل وجه وأتم صورة حتى آخر لحظة من حياته. ولقد تطورت الجماعة في أمريكا خلال فترة إمارته تطورًا ملموسًا في شتى الميادين.
نبذة عن حياته وأعماله
ولد حضرة مرزا مظفر أحمد رحمه الله في 28 فبراير 1913 في قاديان، وترعرع في الحضن التربوي لأم المؤمنين السيدة نصرة جهان بيغم المعروفة بـ “أمان جان” رضي الله عنها. تلقى دراسته الابتدائية في قاديان، ثم تخرج في المحاماة من الكلية الحكومية بلاهور، كما حصل على الشهادة في الإدارة المدنية بالهند. ثم سافر للدراسة العليا إلى بريطانيا حيث درس الاقتصاد في جامعة أوكسفورد. وبعد فترة يسيرة حظي بصحبة رفيق طفولته مرزا ناصر أحمد رحمه الله، الذي جاء هو الآخر ليدرس في بريطانيا، والذي تولى فيما بعد منصب الخلافة ليكون الخليفة الثالث للإمام المهدي والمسيح الموعود .
وبعد إكمال دراسته في جامعة أوكسفورد رجع مظفر أحمد إلى بلاده حيث توظف في الإدارة المدنية وعُيِّن نائبًا لمفوّض محافظة سيالكوت، كما شغل المنصب نفسه في محافظة سرغودها أيضا. أما في باكستان الغربية آنذاك، فقد عمل هناك كوكيل وزارة المالية ورئيس الوكلاء الإضافي. وفي عهد حكومة الرئيس ” أيوب خان” عمل مرزا مظفر أحمد -رحمه الله- كنائب رئيس لجنة التخطيط، علمًا أن رئيس الدولة أيوب خان بنفسه كان رئيسا لهذه اللجنة. أما الرئيس يحيى خان، فقد اتخذه مستشارًا للأمور الاقتصادية، وكان هذا المنصب يساوي منصب الوزير في حكومته. فقد قدم ميزانية باكستان لفترة 1971- 1972التي اعتبرت إنجازًا عظيمًا في الأحوال الاقتصادية المتردية للبلد بسبب الحرب التي خاضتها الباكستان ضد الهند.
مثّل مرزا مظفر أحمد باكستانَ في كثير من المناسبات الهامة فقد ترأس وفدَ باكستان إلى الصين عام 1976م، كما اشترك عضوًا في الوفد الباكستاني إلى مؤتمر الوزراء لدول”الكومنولث” والمؤتمرات الأخرى الكثيرة. هذا، وكان مفاوضًا رسميًّا من قبل حكومة باكستان لدى البنك الدولي لمشروع بناء سد ضخم على نهر السند.
لقد قلّدته الحكومة الباكستانية بأوسمة شتى تقديرا لجهوده التي بذلها لصالح بلده على الساحات العالمية المختلفة. التحق حضرته بالبنك الدولي عام 1974، فشغل منصب السكرتير التنفيذي في صندوق النقد الدولي. وظل يشغل مناصب مختلفة حتى تقاعد عام 1984، ولكنه لم ينس بلده الأم في هذه الفترة أيضًا، فعمل كثيرًا لأجله في الأوساط الدولية.
أيادي سيدنا المصلح الموعود
ثمة شرف كبير حظي به مرزا مظفر أحمد رحمه الله وهو أنه صهر سيدنا المصلح الموعود الخليفة الثاني لسيدنا الإمام المهدي ، فقد زوجه سيدنا المصلح الموعود في 26 ديسمبر 1938 من بنته السيدة “أمة القيوم” من حرمه السيدة ” أمة الحي” بنت مولانا نور الدين الخليفة الأول .
كان سيدنا المصلح الموعود يحبه فيوجه إليه نصائح قيّمة. ويتجلى ذلك مما يلي:
“أقام أساتذة وطلبة الجامعة الأحمدية والمدرسة الأحمدية الثانوية “تعليم الإسلام” مأدبةً على شرف كبار الجماعة الوافدين من الخارج وهم السادة الأفاضل المولوي شير علي مُفسّر القرآن بالإنجليزية، والمولوي عبد الرحيم درد إمام مسجد لندن آنذاك، ومرزا ناصر أحمد ومرزا مبارك أحمد نجلا المصلح الموعود وابن أخيه مرزا مظفر أحمد. واشترك سيدنا المصلح الموعود أيضًا في هذا الحفل الكريم وألقى كلمة حول واجب الجماعة تجاه الدعاة وفي نهاية هذه الكلمة وجه نصائح قيمة إلى أبنائه فقال: “عندما تخرّج مظفر أحمد في الإدارة المدنية وتوظّف وجد نفسه غير مرتاح من الوظيفة، فأبدى رغبتَه في الاستقالة. فأقول له اليوم: ينبغي أن يتذكر أن الإسلام يأمرنا ألا نجبُن فندير الظهر للدنيا، بل إن الغرض الذي بعثنا لأجله يفرض علينا كجماعة أن نثبت سمو محاسن هذه الجماعة في الأمور الدنيوية أيضًا. لذلك نحن بحاجة إلى شباب يكشفون بأسوتهم محاسن مبادئهم الدينية في المجالات الدنيوية.
ليس في التوظف عيب، وإن الذي يترك الوظيفة الدنيوية بلا سبب لا يعتبَر تصرّفُه هذا تضحيةً أبدًا، أما الذي يداوم على الصدق ويراعي العدل أثناء العمل فلو أكره هو على الظلم والكذب ففضَّل التخلي عن الوظيفة واستقال فإنها لتضحيةٌ حقيقية، وذلك لأنه ترك الوظيفة مراعيًا التقوى. وهناك أمر آخر جدير بالانتباه وهو أن الانسان إذا تحصل على وظيفة راقية يصاب بنوع من التكبر، ولكن لا يليق بمسلم أحمدي أن يكون هكذا. إن جماعتنا تضمّ الضعفاء والفقراء أيضًا. أما الذين يصيبهم الكِبْر والزهو جراء وصولهم إلى المناصب الرفيعة فيأنفون لقاء الفقراء والضعفاء فإنهم يفقدون كل شيء حتى القيم الانسانية. فواجبهم الأول هو ما تفرض عليهم الأحمدية. ومهمة الأحمدية هي ملء العالم قسطًا وعدلاً. فالمسلمون الأحمديون أقارب روحانيون فيما بينهم، لذلك ينبغي لكل واحد منهم أن يلقى غيره بالمحبة والأخلاق الطيبة ويفرح بملاقاته كما برؤية أخيه.”
يذكر مرزا مظفر أحمد -رحمه الله- أيادي سيدنا المصلح الموعود فيقول قضيتُ حياتي كلها في كنف رعايته. وعندما سافرت إلى أوروبا للدراسة العليا كتب لي رسالة خاصة تحوي نصائح قيمة، والنصيحة التي تركت في نفسي نقوشًا لا تُمحى هي تلك التي سجلّ فيها هذه الآية الكريمة:
ولما رجعتُ من بريطانيا توظّفت في الدوائر الحكومية، وتمّ زواجي من ابنته ، فأسدى لابنته نصيحة أن مظفر أحمد موظف حكومي ولكنك لست كذلك، فكوني على علاقة مع الفقراء والمساكين، وأنصحك ألا تزوري أحدًا بسبب مكانته الدنيوية. فلم تلبث أن مرت بابتلاء حين وفد إلى سرغودها مفوّضُ المالية ضمن جولة رسمية، فأسرعت زوجات الضباط قاطبة إلى بيت المفوض لزيارة قرينته، ولكن زوجتي لم تذهب على الرغم من إصرارهن لها. وحصل فيما بعد أن زوجة مفوض المالية دعت زوجتي إلى مأدبة خاصة لم تدع فيها غيرها حتى ما دعت زوجةَ نائب المفوّض أيضًا، كما أعّدتْ ترتيبات المأدبة مراعيةً الحجابَ الإسلامي. فنظر ضباط محافظة سرغودها إلى هذا الأمر باستغراب شديد، وسُئلتْ زوجتي مرارًا إذا كانت لها معرفة سابقة مع زوجة مفوض المالية، فأجابت بأنها قابلتْها للمرة الأولى.
خدماته للجماعة
أما خدماته للجماعة الإسلامية الأحمدية فهي كثيرةٌ لا تُحصى. نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر.
– كوّن سيدنا الخليفة الرابع للإمام المهدي في سنة 1986 لجنة التخطيط المركزي لليوبيل المئوي، وعيّنه الرئيس الثاني لهذه اللجنة، وبقيت هذه اللجنة تعمل حسب خطتها حتى عام اليوبيل 1989.
– عيّنه الخليفة الرابع -نصره الله- عام 1989 أمير جماعتنا بأمريكا حيث شغل هذا المنصب الهام إلى أن لبى نداء الأجل.
لقد تطورت جماعة أمريكا تحت قيادته الحكيمة تطورا لا سابق له، وقفزت قفزات طويلة جدًّا في شتى المجالات كشراء قطعات أرض واسعة وإنشاء المراكز والمساجد عليها، وتوسيع المراكز والمساجد القديمة نظرا إلى ازدياد مستمر في أفراد الجماعة. كان مركز الجماعة في واشنطن أصبح ضيّقًا جدًّا نظرًا إلى عدد أفراد الجماعة المتزايد، فلم يَعُدْ هناك مركز يسع جميع أفراد الجماعة ولا سيما عند المناسبات الدينية والاجتماعات، فاشترت الجماعة بسبب مساعيه النبيلة مركزا جديدا سُمي بـ “بيت الرحمن”، وقام بافتتاحه سيدنا الخليفة الرابع -نصره الله- في 14 أكتوبر 1994. وهذا المسجد الكبير يكتنف مكاتب مركزية لجماعة أمريكا، وتُقام فيه الآن الاجتماعات المركزية.
– أُنشئت المراكز الأخرى وشُيّدت المساجد الجديدة حتى بلغ عدد مراكز الجماعة في أمريكا حتى سنة 2001 نحو 40 مركزًا.
– تقدمت جماعتنا بأمريكا في عهده المبارك تقدمًا ملموسًا في التضحية المالية أيضًا مما جعلها تقف في الصف الأول في هذا المضمار. ففي عام 1996 فاقت جماعة أمريكا في تبرعات الصندوق “وقف جديد” على سائر فروع الجماعة في العالم كله واحتلت مركزًا ثانيًا في تبرعات صندوق “تحريك جديد”. أما في عام 1997 فقد سبقت سائر فروع الجماعة في العالم في الصندوقَين المذكورَين.
-كانت الجماعة تصرف أموالا باهظة على شراء الطعام وتأمينه للمشتركين في الاجتماعات السنوية والمناسبات الدينية الأخرى، ولكنه رحمه الله أجرى نظام الضيافة المركزية في الاجتماع السنوي المنعقد في عام 1992 حيث قام أفراد الجماعة المتطوعون بتحضير الطعام في دار الضيافة مما وفر أموالاً كثيرة للجماعة. وهذا النظام مستتب الآن إذ يُحضَّر الطعام هناك عند ك مناسبة.
لقد تَمَّ بالتعاون مع جماعة كندا، إنشاء محطة أرضية للقناة الفضائية الإسلامية الأحمدية MTA في أمريكا عام 1994 التي يُنقل بواسطتها بثُّ الفضائية الإسلامية الأحمدية إلى مختلف المناطق النائية في العالم.
-فتح موقع للجماعة الإسلامية الأحمدية على شبكة الإنترنت تحت إشراف جماعة أمريكا حيث يمكن للجميع الاطلاع على عقائد الجماعة وكتبهم ومنشوراتهم بشتى اللغات العالمية، كما يمكنهم الاستماع إلى خطب سيدنا أمير المؤمنين -نصره الله- وبرامج الفضائية الأحمدية الأخرى.
شرف عظيم
وإنه لشرف عظيم له رحمه الله أن أمير المؤمنين -نصره الله- رآه في عديد من رؤاه، وعبّر ذلك بالنصر والظفر والانتصار والازدهار للجماعة.
قال سيدنا أمير المؤمنين -نصره الله-في خطبة الجمعة التي ألقاها في 6 نوفمبر 1984: مضت عليّ بعض الليالي بكرب شديد جراء الظروف المؤلمة التي كان يمرّ بها الأحمديون في باكستان، فألهمني الله في ليلة بقوله: “السلام عليكم”. وكان هذا الصوت جميلا ورخيما وضاحا يشبه صوت مرزا مظفر أحمد. فكان يخيّل إلي أنه قادم إلى غرفتي وقول “السلام عليكم” وهو خارج الغرفة. ما خِلتُ في ذلك الوقت أن هذه الحالة هي إلهام من الله لأنني كنت يقظًا تمام اليقظة إلا أن علاقتي بما حولي كانت قد انقطعت في تلك اللحظة، فلما أردت القيام لاستقباله خارج الغرفة زالت عني هذه الحالة، ففهمت أنها كانت بشارة من الله. ولم تقتصر البشارة على “السلام عليكم” فحسب، بل كان هناك وعد بالظفر أيضًا، لأن بشارة “السلام عليكم” تضاعفت وعظُمت حين جاءت بصوت “مظفر”. وقد سبق أن أراني الله في الرؤي السيد “ظفر الله خان”؛ فكلمة “ظفر” قاسم مشترك بينهما.
يقول سيدنا أمير المؤمنين -نصره الله-وهو يتحدث عن إحدى رحلاته الدينية في أوروبا:
مرة ناجيت ربي في تواضعٍ وخشوعٍ نافيًا وجودي كله، فقلت: ربِّ لا أملك شيئا، وليس في ذهني خطةٌ معيّنةٌ أنفّذها، فإنك أنت الذي خلقتَ تلك الآمال التي تأملها الناس في الجماعة، ولست أنا. إن الناس يأتون لزيارة إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية بمنظور خاص وبآمال خاصة، فلا أستطيع بنفسي أن أنزل منهم منزلا يتوقعونه، فقُمْ أنت بمساعدتي. فقد ساعدَني اللهُ بفضله وأعانَني إعانةً غير عادية، فما أكثَرَ ما شعرت أنه لست أنا الذي أتكلم وإنما ثمة قوة أخرى تتكلم، وكانت الأفكار كانت تتوارد على ذهني تلقائيا دون تحضير مسبق.
ثم أخذ مني الخوف مأخذه حين فكرت أنه لو تركتْني نصرةُ الله لطرفةِ عينٍ فلسوف أسقط من تلك المكانة السامية التي أعطاني الله إياها وجعل الناس بسببها يعقدون عليّ آمالاً كبيرة، حتى لن يستطيع الناس أن يعرفوني، فقد يقولون: إن هذا الشخص غريبٌ عنا وكانت ثمة شخصية أخرى تحل محلّه فيما سبق. فدعوتُ في ذعر واضطراب شديدين قائلا: يا رب لا تكن كالذي يجلّي برحمته ثم يتوارى، بل أرجوك أن تكون معي دومًا ولا تفارقني أبدًا. فرأيت في تلك الليلة رؤيا فهمتُ منها أن الله تعالى سوف يجعل هذا السفر ناجحا بفضله ورحمته ولن يتركني وحيدًا، أي لن يترك الجماعة وحيدة أبدًا. فمِمّا رأيت في تلك الرؤيا أنني في فناء مسجد “البشارة” باسبانيا حيث يأتيني أخي مرزا مظفر أحمد، فيعانقني ويلتصق بي ولا يفارقني. فكنت في حيرة من أمري، لا أدرك ماذا يجري، لأن هذه المعانقة طالت ولا تكاد تنتهي. فقلت في نفسي: كفى الآن، ولكنه لا يفارقني، بل يزداد التصاقًا بي. وكنت في هذه الحالة حتى انتهت الرؤيا.
وتذكرت في الصباح أنني كنت دعوت ربي، فهو بشّرني في هذه الرؤيا بأنه لن يبارك في سفري هذا فحسب، بل وسيبارك في حياتي كلها. (جريدة “الفضل” 8/3/1983)
بعض مناقبه رحمه الله
يذكر الدكتور “نسيم رحمة الله” الذي حظي بالعمل تحت قيادة المرحوم في أمريكا فيقول: كان مرزا مظفر أحمد -رحمه الله-يكنّ احترامًا منقطع النظير تجاه الخليفة نصره الله، حتى أنه كلما كتب رسالة إلى أمير المؤمنين أعاد قراءتها عدة مرات، وعدّل فيها كل مرة لتصبح مختصرةً وجامعةً، وذلك حرصًا على الوقت الثمين لأمير المؤمنين.
لما قَدِمَ أمير المؤمنين -نصره الله-أمريكا عام 1998 للحضور في الاجتماع السنوي، حلّ ضيفًا كالمعتاد في بيت مرزا مظفر أحمد. وفي تلك الفترة كان مرزا مظفر أحمد يعاني من آلام في ظهره مما يمنعه من القيام والسجود في الصلاة، فكان يصلي جالسا على الكرسي. وكان من عادة أمير المؤمنين أن يجلس قليلا مع المصلّين عقب صلاة الفجر، فكان مرزا مظفر أحمد -رحمه الله-يتحمل الآلام الشديدة، فيترك الكرسي ويجلس على الأرض فور انتهاء الصلاة احترامًا لسيدنا أمير المؤمنين وحتى لا يكون في مكان أرفع منه.
كان حضرته -رحمه الله-رجلا عظيما عبقريا، نابغة في العلم والعمل، لكنه مع ذلك كان إنسانًا متواضعا وبسيطًا. كان يتكلم بكل رفق ولين وبكلمات واضحة سهلة مفهومة.
ومن أبرز صفاته أنه كان يتقيّد بالمواعيد، ويولي لهذا الأمر أهمية كبيرة حتى أثناء مرضه. كلما كنا على موعد معه وجدناه ينتظرنا. وقال لي مرة: “أستغرب كثيرا كيف أن بعض ا لناس لا يحترمون المواعيد، فيتأخرون عنها ساعات بدون سبب، ثم لا يعتذرون أيضًا.” ومن شمائله أنه كان يتحرى رأي أفراد الجماعة في كل أمر مهم يخص الجماعة، فكان يرسل إلى أبناء الجماعة رسالة خطيّة يطلب فيها إبداء رأيهم في أمر معين.
وكلما ذهبت للقائه لمناقشة أمر لاحظتُ أنه كان يناقشني في أمور أخرى أيضا. وإنني على يقين أنه كان يفعل ذلك مع كل من يأتي للاجتماع معه.
لقد أعطاه الله قدرة عظيمة على تمييز الجيد من الرديء والحق من الباطل. فإذا ارتأى بعد المناقشة أنه يجب استبدال وجهة نظره السابقة كان لا يتوانى في القيام بذلك أبدًا. فمرة كان هناك اجتماع هام دُعيت أنا أيضًا للحضور فيه، ولما ألقيت النظر على جدول الأعمال أحسست أن مثل هذا الاجتماع سوف يضرّ بمصالح الجماعة ونظامها بدلا من أن يكون مفيدا وبنّاء. فكتبتُ انطباعي على ورقة وأرسلتها إلى حضرته. فدعاني للقائه وناقشني قليلا حتى اقتنع برأيي فألغى الاجتماع.
ومن ميزاته الفريدة أنه كان دائما يفضّل الآخرين على نفسه. حدث مرة أنه كان في عرس لأحد أفراد الجماعة حيث انزلقت قدمه فتصادمت ساقه مع شيء صلب مما آلمه كثيرًا، ولكنه قام على الفور وكأنه لم يحدث شيء. ثم ظلّ مستويا على الكرسي وساكنا طوال الوقت من دون أن يظهر أنه يكابد الألم الشديد. فلما زرته بعد بضعة أيام رأيت أن الدم قد تجمّد في مساحة كبيرة من ساقه. ولما سألته عن سببه أخبرني قائلا: كنت أشعر بحدوث ورم دموي جراء إصابتي ذلك اليوم إلا أنني لزمت الصمت وبقيت أتحمل الآلام حتى لا أشغل بال الناس ولا أسبّب لهم الحرج في وقت الفرح.
لقد تقرر إعلان عقد القران لابنتي فاطمة في الاجتماع السنوي عام 2000، فرجوته أن يشرّفنا بالحضور معنا للدعاء، فقَبِل. وكان من المقرر أن يتمّ الإعلان بعد صلاتَي المغرب والعشاء. وكان حضرته قد أنهى أعماله في المكتب، ثم بقي ينتظر لمدة أربع ساعات تقريبا حتى يحين الوقت فيشاركنا هذه المناسبة العائلية السارة. لقد رجوته مرارًا أن يرجع إلى بيته ولا يتحمل عناء الانتظار الطويل غير أنه أبى أن ينصرف.
كانت اجتماعات الهيئة الإدارية تُعقد في مسجد “بيت الرحمن” حيث كان الجميع يُحضرون معهم غداءهم وحضرته هو الآخر كان يجلب معه غداءه، وكثيرا ما كان يقدّم لي وبإصرار شديد نصفَ غدائه. كتب الأستاذ كنور إدريس في جريدة “DAWN” الباكستانية: لقد قام مرزا مظفر أحمد بخدمات لا تُنسى في المجال الاقتصادي لباكستان، ثم التحق بالبنك الدولي. ربما كان هناك رجال أكثر منه فطنة وذكاء، ولكن لم يكن هناك شخص مجتهد وموضع ثقة مثله. وهذه الصفة البارزة جعلته مقربًا ومحببًا لدى رئيس منطقة “كالا باغ” والرئيسين أيوبَ خان ويحيى خان، وبعدهما لدى روبرت ميكنا مارا في البنك الدولي.
وكتب الدكتور برويز بروازي أن حضرته كان يتمتع بعزم قويم وموقف صلب حيال تأدية واجباته، الأمرُ الذي جعل الجميع يعترفون بجهوده وإخلاصِه في العمل واحترامِه للقواعد والقوانين، حتى اعترف بذلك المسؤول الباكستاني والعدو اللدود للأحمدية “قدرت الله شهاب” أيضا قائلا: حينما لم يكن بوسع أحد أن يلفظ بكلمة أمام الحكام الجبابرة كان مرزا مظفر أحمد يستطيع أن يقوم بذلك ويقول الحق. ولا يستطيع أن يفعل ذلك إلا من كان مرتاج الضمير مطمئن البال.
كان ليّن الجانب خفيض الجنح للطلاب الفقراء، فكان يساعدهم بدفعات شهرية ليدرسوا فيصيروا عضوًا مفيدا للمجتمع والوطن والإنسانية. وبعض هؤلاء يخدمون الآن بلادهم أو المجتمع العالمي لَمسؤولين بارزين. كما كان حضرته يتحمل عبء رعاية كثير من اليتامى والأرامل في باكستان وفي أمريكا أيضا.
كان إيمانه باستجابة الدعاء قويًا لحدٍّ لا يوصف، الأمرُ الذي جعله يتوكل على الله توكلا وثيقًا. وقد لمس فيه بهذه الخصلة الطيبة كلُّ من كان على علاقة معه، حتى اعترف بذلك أمير محمد خان “كالا باغ”، الذي كان حاكما لباكستان الغربية وكان معروفا بقسوته، حيث قال مرة في مؤتمر للمسؤولين: كان مرزا مظفر أحمد يشغل منصب نائب المفوض عندنا. لقد تعلّمنا منه القيام بكل ما في طاقة الإنسان ثم ترك النتيجة على الله تعالى.
ويستعيد السيد محمد صديق خادمُ مرزا مظفر أحمد -رحمه الله-بعض ذكرياته فيقول: كان حضرته جوادا ومِضيافًا. كلما زاره أحد من أفراد الجماعة أو من عائلة سيدنا الإمام المهدي قدم له ما لذّ وطاب من الطعام والشراب. كثيرا ما كان يتلقى مكالمات هاتفية من بعض أصدقائه القدامى الذين كانوا يتوافدون من باكستان فيبدون رغبتهم في لقائه، فكان يقول: حسنًا، تعالوا نتناول العَشاء معًا. كان يسرّ بلقاء أصدقائه، فيجلس معهم طويلا حيث كان يجاذبهم أطراف الحديث. كان يحترم أصدقاءه ويحبّهم لدرجة كان يبدو لنا أنه ليس صديقا بل أخًا وحبيبًا لهم.
كانت الأطعمة الحلوة مفضلة لديه فكان يأمرنا بإحضار الآيس كريم واللبن من نوع معين. كما كان يأمر بطهي بعض الأطعمة الحلوة في البيت أيضًا ليقدمها للضيوف.
وهناك شيء آخر أيضًا لاحظته فيه على وجه الخصوص أنه كان يعتبر غيره صادقا ومؤمنًا مثله.
لقد أخبره الله عن وفاته، فلمّا وافته المنية، وواريناه الثرى، رجعنا إلى البيت، فتحنا حقيبته التي كانت تحتوي عادة على أوراق تتعلق بأمور الجماعة، ولكنها لم تكن مليئة هذه المرة بالأوراق كسابق عهدها بل لم يكن فيها سوى ملف وصيته[1] كاملا وجاهزا للتسليم، ووضع حضرته الحقيبة في مكان بارز حتى يراه الجميع بسهولة ومن ثم ينفّذوا ما وصّى به.
لقد صلّى مرزا مسرور أحمد أمير الجماعة في باكستان في 30 يوليو 2002 الجنازة على روح الفقيد في مسجد “المبارك” بربوة بألوف من أفراد الجماعة الذين توافدوا من كل حدب وصوب، حيث دُفن جثمانه الطاهر بالقرب من ضريح السير محمد ظفر الله خان في مقابر الجماعة الشهيرة “بهشتي مقبرة”.
نشرت الصحف الباكستانية والعالمية خبر وفاته بعناوين عريضة حيث قدمت نبذة عن حياته وأشادت بأعماله وجهوده. كما عقد مركز “ودرو ولسن” العالمي للعماء دورته الخاصة بباكستان في 24 يوليو 2002م بعنوان “باكستان في القرن الواحد والعشرين” حيث وقف العلماء والخطباء والمشتركون في هذه الدورة دقيقة صمت إحياءً لذكرى مرزا مظفر أحمد.
لقد توفّي مرزا مظفر أحمد ولحق برفيقه الأعلى إلا أنه سيبقى حيًّا بسبب أعماله الخالدة وخدماته الجليلة للجماعة والوطن والمجتمع العالمي والإنسانية، وسوف يُذكّرنا بشخصه الكريم سؤالٌ علّمَنا إياه وهو أن نُسائل أنفسَنا كل يوم: ماذا فعلت اليوم من أجل الجماعة؟
ندعو الله تعالى أن يتغمّد الفقيد الغالي بواسع رحمته، ويُسكنه فسيح جنته، ويجعل مثواه في أعلى عليين، ويخلد صفاته الطيبة في الذين قد تربّوا في كنف رعايته. آمين.
وآخر كلماتنا كلمةُ نبينا : لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلٌ عنده بأجلٍ مسمى.