- أحداث حصار خيبر وسقوطها
- مكائد اليهود ضد الرسول
- أحداث الحديبية
- الزواج بميمونة بنت الحارث
- موقعة مؤتة وأحداثها
__
إن حياة نبي الإسلام كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.
إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.
تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.
لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام وراجعه ثلة
من أبناء الجماعة المتضلعين في اللغة والدين.
سـقوط خـيبر
وكما سبق أن قلنا، فإن اليهود وخصوم الإسلام الآخرين كانوا الآن مشغولين جدًّا في استثارة القبائل ضد المسلمين، وقد تكوّنت لديهم دلائل مقنعة أن الجزيرة العربية لن تصمد طويلاً أمام تنامي قوة الإسلام، وأن قبائل العرب لم تعد قادرة على مهاجمة المدينة متحدة وفي وقت واحد. لذا لجأ اليهود إلى الكيْد مع القبائل المسيحية على جنوب جبهة إمبراطورية الروم، وفي نفس الوقت بدأوا يكتبون إلى إخوانهم في الدين في العراق ضد الرسول . لقد التمسوا بالدأب على المراسلة الحاقدة الخبيثة أن يثيروا كسرى الفُرس ضد الإسلام، ولقد ثار كسرى فعلاً ضده نتيجة لمؤامراتهم وحيَلهم، حتى إنه أرسل إلى عامله على اليمن أن يلقي القبض على الرسول .
ولقد بقي الرسول آمنًا بسبب التدخل الإلهي والرحمة الإلهية، ولقيت خطة إمبراطور الفرس الخيبة والفشل. ومن البيّن الواضح أنه لولا العوْن الإلهي العظيم الذي رافق الرسول خلال قيامه برسالته النبوية، لكانت حركة الإسلام الغضّة الناشئة خليقة أن يتم قصمها وتقويضها وهي في مهدها تحت ضغط العداء والكراهية والمعارضة من طرف أباطرة الروم والفرس. فعندما أصدر كسرى أمره بالقبض على الرسول ، حدث عندئذ أن عُزل الإمبراطور ولقي مصرعه على يد ابنه قبل أن يأخذ التنفيذ مجراه، وتم إلغاء الأمر الصادر، وكان ذلك الإلغاء على يد حاكم مختلف، وأدّى التأثير المعجز لهذا الحدث على حاكم اليمن وقادته أن تحوّلت مقاطعة اليمن إلى جزء من إمبراطورية الإسلام.
ولا ننسى أن المكائد التي ظل اليهود يرسمون خططها في المدينة ضد المسلمين ومدينتهم، جعلت من الضروري إجلاءهم عنها، وإلا فقد كان تزايد زخم هذه المكائد مهدّدًا بوصولها لحد خطير، يؤدّي إلى سفك الدماء وتزايد أشكال العنف.
ولا ننسى أن المكائد التي ظل اليهود يرسمون خططها في المدينة ضد المسلمين ومدينتهم، جعلت من الضروري إجلاءهم عنها، وإلا فقد كان تزايد زخم هذه المكائد مهدّدًا بوصولها لحد خطير، يؤدّي إلى سفك الدماء وتزايد أشكال العنف. لذلك فبعد عودة الرسول من الحديبية، انتظر خمسة أشهر ثم قرر إقصاءهم من خيبر، فقد كانت خيبر على مسافة قليلة من المدينة ومن هنا وجد اليهود أنه من السهل اليسير عليهم الاستمرار في الكيد والتآمر ضد المسلمين. ولهذا سار الرسول إليهم في وقت ما من آب/أغسطس (628 بعد الميلاد) ومعه 1600 رجل، وكانت خيبر جيّدة التحصين كما أسلفنا حيث كانت تحيطها عدة أراض صخرية، على كل منها أقيم حصن صغير، ولم يكن من السهل على قوة صغيرة كتلك التي صاحبت الرسول أن تفتح مكانًا كهذا. وبعد قتال محدود سقطت القوات الصغيرة المرصودة في ضواحي خيبر، ولكن اليهود قاموا بتجميع قواتهم في المدينة الحصينة، وفشلت محاولات الهجوم عليهم. وتلقى الرسول وحيًا في يوم من الأيام أنه تعالى سيفتح على عليّ بن أبي طالب .
وفي الصباح التالي أعلن الرسول ذلك على المسلمين، ودعا بالراية السوداء وقال: “اليوم أعطي الراية لرجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله والمؤمنون، يفتح الله خيبر على يديه”. وهكذا دعا الرسول عليًّا ودفع إليه الراية. ولم ينتظر عليّ، بل قاد رجاله وهاجم قوات الحصن لفوره.
وبالرغم من أن اليهود قد جمعوا حشود قواتهم داخل هذا الحصن، فإن عليًّا وصحبه قاموا بفتح الحصن قبل حلول الظلام، وتم توقيع اتفاق السلام، وكانت الشروط هي أن يغادر خيبر كل اليهود وأزواجهم وأطفالهم، إلى مكان آخر بعيد عن المدينة. وأن كل ما يملكون قد صار مآله إلى أيدي المسلمين. وأن هذا العهد لا يحمي من أخفى شيئًا من ممتلكاته أو كنوزه، أو كذب على المسلمين بشأن مكانها، وسيتم عقابه لنقض الميثاق.
وخلال حصار خيبر، حدث أحداث ثلاثة لها أهمية خاصة، يدل واحد منها على آية من آيات الله، ويدل الاثنان الآخران على مدى رقي المستوى الروحي والخلقي لرسول الله.
كان الرسول قد تزوج صفية بنت حُيي بن أخطب، وهي أرملة رجل يُسمى كنانة، وكان أبوها أحد زعماء خيبر. وبعد أن قُتل زوجها في معارك خيبر وانتهاء عدتها، أتى بها الرسول فرأى على وجهها أثر صفعة، فسألها عنها. وردّت عليه قائلة إنها رأت قبل ذلك أن القمر وقع في حجرها، فذكرت ذلك لأمها، فلطمت وجهها وقالت إنك لتمدّين عنقك لأن تكوني زوجة لملك العرب، فلم يزل الأثر في وجهها إلى أن تزوّجها رسول الله (الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني).
كان القمر هو الشعار القومي للعرب، وسقوط القمر في الحضن يعني اتصالاً حميمًا مع ملك العرب، وانشقاق القمر وسقوطه إلى الأرض يعني انشقاق الدولة أو سقوطها. إن رؤيا السيدة صفية تدل على صدق الرسول ، وتدل على تفاعلات خاصة بهذه السيدة بشأن الإسلام في نفسها، وضد الاتجاه العام المتحامل لقومها والمتحيّز ضد النبي، وتدل على أن الله تعالى يوحي بأمور من المستقبل لعبده في المنام، وينال المؤمنون من هذه النعمة نصيبًا يفوق نصيب الكافرين. وكانت السيدة صفية يهودية حين رأت هذه الرؤيا، وحدث أن زوجها قُتل خلال حصار خيبر الذي كان عقابًا لليهود على خرقهم العهود. ووقعت السيدة صفية في الأسر، وعند توزيع الأسرى على الصحابة، وقعت السيدة صفية في سهم أحد الصحابة. ولما عرف أنها أرملة أحد الزعماء وابنة زعيم خيبر، وجد أن من التكريم لها أن تعيش في بيت الرسول، واختار الرسول أن يكرمها بزواجها، فوافقت السيدة صفية. وبهذه الطريقة تحققت رؤياها.
أما الحادثتان الأخريان، ففي إحداهما، أن راعيًا أسلم قبل استسلام الحصن وكان يرعى غنمًا لأحد زعماء اليهود، وقال للرسول بعد إسلامه إنه لا يستطيع العودة إلى أهله بعد الآن، وسأل: ماذا يفعل بالماعز وبالغنم التي هي لسيده العجوز؟، فأمره الرسول أن يوجّه وجهها إلى خيبر ثم يدفعها إلى هناك ويدعها، والله سيهديها إلى سيدها. وفعل الراعي كما سمع، وفعلاً بلغ القطيع الحصن، واستقبله الحراس. (ابن هشام، ج2 ص 191)
وتدل هذه الحادثة على جدّية تناول الرسول لقضية الحقوق الفردية والملكية، كما تدل على مدَى حرصه على أن يؤدّي المؤتمن الأمانة إلى من ائتمنه عليها. ففي الحرب تؤول إلى المنتصر الممتلكات المادّية التي تنتمي للخاسر، ولكن صاحب الغنم المحارب لم يكن قد خسر بعد. فهل يمكن أن نرى شيئًا كهذا في عصرنا الحالي المسمى عصر التمدن والثقافة؟ هل حدث قط أن انسحب عدوّ خاسر فوُجدت في المتروكات خلفه كنوز أو ثروات كان المنتصر قد أعادها إلى مالكيها أثناء القتال؟ ففي هذه الحالة التي بين أيدينا، كانت الماعز والغنم مملوكة لأحد الذين يقاتلون المسلمين، وكان في عودة القطيع معنى إعطاء الفرصة للعدوّ للبقاء والمقاومة لعدة شهور مستخدمًا القطيع كغذاء، ولكن الرسول سمح لها بالعودة ليغرس في تابعه الجديد روح الأمانة وضرورة أدائها.
وفي الحادثة الثالثة حاولت امرأة يهودية تسميم طعام الرسول، وسألت أصحابه عن الجزء المفضل لديه في الشاة، وقالوا لها إنه يفضل كتف الحمل أو الماعز. وقامت المرأة بذبح ماعز وشوَته على الصخر الحار، وخلطته بسم مميت، وخصّت بالسم قطع الكتف باعتبار أن الرسول سيفضل الأكل منها.
كان الرسول قد عاد لخيمته بعد أن أمّ المصلين في جماعة العشاء، فرأى هذه المرأة بجوار خيمته تنتظر، فسألها عما يمكنه أن يفعل لأجلها. فقالت له: “بلى يا أبا القاسم. هل تقبل مني هدية”؟ فطلب الرسول من أصحابه أن يأخذوا منها ما أحضرت. وعندما جلس الرسول لتناول طعامه، كانت هذه الهدية المشوية من اللحم قد وُضعت أمامه. فنهس منها نهسة، وكذلك فعل البشر بن البراء بن معرور، ومد الصحابة الموجودون أيديهم إلى اللحم، فأوقفهم الرسول قائلاً إنه يظن اللحم مسمومًا، وعندئذ قال بشر إنه يظن نفس الشيء، وإنه أراد أن يلقي باللحم بعيدًا ولكنه خشي إزعاج الرسول . وقال: “لقد رأيتك تنهس نهسة ففعلت مثلك، ولكني سرعان ما تمنيت لو أنك لم تفعل أبدًا”.
وبعد ذلك مرض بِشر، وفي بعض الروايات أنه مات في ذلك بعد فترة. وأرسل الرسول يطلب المرأة وسألها عما إذا كانت قد سممت اللحم؟ فسألته كيف عرف ذلك؟ وكان الرسول ممسكًا بقطعة من اللحم في يده، فقال لها: “لقد قالت لي يدي ذلك”، يعني أنه كان قادرًا على معرفة ذلك من طعمها، فاعترفت المرأة بما فعلت. فسألها الرسول عما حملها على ذلك. فقالت: “إن قومي كانوا يقاتلونك، ولقد قُتل أقاربي في المعركة، فقررت وضع السم لك، وقلت لو كان كاذبًا فسوف يموت ونحيا في أمن، ولو كان صادقًا فسينجيه الله”.
وعندما سمع الرسول ذلك منها، غفر لها ما فعلت، رغم أنها كانت تستحق عقوبة الموت على هذه الفعلة (صحيح مسلم). كان الرسول على استعداد للمغفرة في كل وقت، ولم يعاقب إلا عندما كان العقاب ضروريًا، عندما يهدد العفو بتمادي المجرم في إجرامه.
تحقق رؤيا رسول الله
في السنة السابعة للهجرة، وفي شهر فبراير/شباط 629م على وجه التحديد، استعد الرسول أن يذهب إلى مكة لطواف العمرة، وكان هذا ما تم الاتفاق عليه مع قادة مكة. وعندما حان وقت الرحيل، جمع 2000 من أتباعه واتخذ معهم طريقه إلى مكة. وعندما بلغ مرّ الظهران حيث يحط الحجيج، أمر أصحابه أن يغمدوا أسلحتهم، وأن يضعوا عنهم الدروع، حيث جمعت في مكان هناك. وحرصًا على دقة تنفيذ الميثاق الموقّع في الحديبية، دخل رسول الله وصحبه المنطقة الحرام وسيوفهم في أغمادها، كما ينص عليه اتفاق الحديبية.
لم يكن دخول مكة بعد مرور سبع سنوات من البعد عنها أمرًا عاديًّا لرسول الله وصحابته. لقد تذكروا العذاب الذي تعرّضوا له أيام كانوا في مكة، وفي نفس الوقت رأوا مدى فضل الله تعالى ورحمته بهم أن أعادهم إلى مكة ليطوفوا بالبيت العتيق في سلام. كان غضبهم يتساوَى مع سرورهم. وأما أهل مكة، فقد تركوا منازلهم وصعدوا إلى قمم الجبال ليروا المسلمين. كان الحماس يملأ المسلمين، وتفيض قلوبهم بهجة وفخرًا. ولقد أرادوا بحماسهم أن يقولوا لأهل مكة إن الله قد صدقهم الوعد. وبدأ عبد الله بن رواحة ينشد بعض أغاني الحرب الحماسية، لكن الرسول منعه وأمره ألا يفعل ذلك، بل يقول: “لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده”. (السيرة الحلبية ج3 ص 73)
مكث الرسول في مكة ثلاثة أيام بعد أن طاف بالكعبة وسعَى بين الصفا والمروة. وقد اقترح عليه عمه العباس أن يتزوّج شقيقة زوجه الأرملة واسمها ميمونة، فوافق الرسول . وفي اليوم الرابع طلب أهل مكة انسحاب الرسول وصحبه، فأمر رسول الله أصحابه بالانسحاب والتوجّه شطر المدينة. وقد التزم الرسول بتنفيذ شروط الاتفاق التزامًا دقيقًا، وذلك بسبب عمق التزامه بأوامر الدين الذي يفرض عليه الوفاء بالعهود، ولحرصه البالغ على احترام مشاعر أهل مكة، وقد اضطره ذلك إلى ترك زوجه الجديدة السيدة ميمونة خلفه في مكة، ورتّب معها أن تلحق به مع مؤخرة القافلة التي تقوم بجمع الحاجيات الشخصية للمعتمرين بعد انسحابهم. وامتطى الرسول ناقته وسرعان ما خرج من حدود المنطقة الحرام، وعسكر لقضاء الليل في مكان اسمه “سرف”، حيث لحقت به في خيمته السيدة ميمونة رضي الله عنها.
ولعله كان من الأوْلى إهمال ذكر هذه الحادثة وعدم إبراز تفاصيلها، خاصة وأننا نكتب لمحات مختصرة عن حياة الرسول . ولكن للحادثة أهمية خاصة، وذلك بسبب الهجوم الذي يشنّه كُتّاب الغرب على الرسول بسبب تعدّد زوجاته. فهم يتصوّرون أنّ التعدّد دليل على الضعف الشخصي وحب المتع الدنيوية. غير أن هذا التصوّر الخاطئ يكذّبه تمامًا إخلاص أزواجه له، وحبّهن الفائق لما يمثله، بشكل ملك عليهن أنفسهن.
إن هذا الحب والإخلاص يثبت أن حياة الرسول الزوجية كانت طاهرة ولا أنانية فيها، وكانت غنية بالمشاعر الروحية. ولقد كان أمرًا غريبًا وفريدًا أننا لا نجد رجلاً عامل زوجته الواحدة معاملة طيبة تقوم على المودّة والرحمة، كما عامل الرسول زوجاته أجمعين.
ولو كانت مشاعر اللذة هي المحرك لحياته الزوجية، لوجدنا يقينًا أن أزواجه يختلفن معه ويعاندنه، ولكن الحقيقة كانت غير ذلك، فقد كانت كل أزواجه في حالة ود وتوافق معه، وكان هذا الود نتيجة لعدم أنانيته وأسْوته الحسنه الرشيدة الراقية السلوك، وكان رد فعلهن إزاء عدم الأنانية والسموّ الذي يمثله محضره أنهن أعطينه حبًّا وإخلاصًا سخيًّا غير ضنين. وقد سجل التاريخ أحداثًا عديدة تدل على ذلك، وأحدها يختص بالسيدة ميمونة نفسها. فلقد دخلت عليه أول مرة في خيْمة وسط الصحراء، وما كان لها أن ترى في هذا اللقاء الأول ذكرى غالية عزيزة، لو كانت علاقتها الزوجية مع الرسول تحمل أي طابع للخشونة، أو لو كان الرسول يفضّل بعض أزواجه على بعض بسبب الجمال الجسدي، بل إنها ما كانت لتحفظ ذكرى ذلك اللقاء بود عميق واعتزاز بالغ. ولو أن ذكرياتها مع الرسول كان يشوبها أيّ جفاء أو مرارة، لكان جديرًا بها أن تنسَى كل شيء حول هذا اللقاء. فقد عاشت طويلاً بعد الرسول ، وماتت بعد أن بلغت من العمر عتيًّا، ومع ذلك فلم تنس خلاله أبدًا ماذا كان يعني بالنسبة لها لقاؤها مع الرسول . وعند موتها، بعد أن شارفت الثمانين من عمرها، وبعدما غابت ونُسيت جميع المباهج الجسدية، ولم يعد يحرك القلب غير القيم العليا، ولا يؤثر في النفس والوجدان سوى الفضائل الكريمة، طلبت السيدة ميمونة أن تُدفن على مسيرة يوم خارج مكة، في نفس المكان والبقعة التي عسكر فيها الرسول أثناء عودته إلى المدينة، والتي لقيته فيها لأول مرة. إن العالم يعرف قصصًا كثيرة عن الحب، منها الحقيقي والخيالي، ولكن لا شيء من بينها أكثر تحريكًا للقلب من هذه القصة.
بعد أن تمت هذه العُمرة التاريخية، انضم إلى الإسلام قائدان شهيران من قادة العدوّ، وأثبتا بعد ذلك أنهما قائدان فذّان من قادة الإسلام. كان أحدهما خالد بن الوليد الذي هزّت بطولته وعبقريته دعائم الإمبراطورية الرومانية، وانضمّت إلى الدولة الإسلامية تحت راية قيادته الدول المحيطة الواحدة تلو الأخرى. وكان القائد الثاني هو عمرو بن العاص الذي فتح مصر.
موقعـة مـؤتة
لدى عودته من العمرة، بدأ الرسول يتلقى أخبارًا تقول إن القبائل المسيحية على حدود الشام تُعد للهجوم على المدينة بتأثير التحريض والإغواء من طرف اليهود والمشركين. فأرسل مجموعة من خمسة عشر رجلاً لتقصّي الحقيقة، فرأوا جيشًا يتجمع على حدود الشام. ولكنهم تأخروا بدلاً من الرجوع في الحال كي يقدّموا تقريرهم للرسول . لقد دفعهم حماسهم إلى اتخاذ قرار متسرّع بالدعوة إلى الإسلام وشرح حقائقه لهم فلعلهم يهتدون، ولكن نيّاتهم الحسنة أحدثت تأثيرًا معاكسًا لم يرغبوه ولم يتوقّعوه.
وإذا راجعنا الأحداث بتفكيرنا الحالي، نستطيع أن نرى أن أولئك الذين كانوا يخططون لغزو بلد الرسول بتحريض من العدوّ، لم يكن من المتوقع منهم أن يتصرّفوا بأي أسلوب آخر. فبدلاً من الإنصات والاستماع للدعوة التي تُعرض عليهم، إذا بهم يتناولون أقواسهم ونشابهم، ويمطرون الوفد النبويّ بوابل من السهام. وصمد الوفد المكوّن من خمسة عشر رجلاً للسهام دون حركة، فقد تلقوا سهامًا على ما قدموه من حجج وبراهين، ومن ثم لم يتراجعوا. خمسة عشر وقفوا صامدين أمام الآلاف، وسقطوا جميعًا صرعَى.
وجهز الرسول حملة لعقاب المعتدين على هذه القسوة والوحشية الطائشة، ولكنه في نفس الوقت تلقى أخبارًا تقول إن القوات التي كانت تتجمع محتشدة على الحدود قد تفرقت فأجّل خطته، غير أنه بعث برسالة إلى إمبراطور الروم (أو إلى زعيم قبيلة غسّان الذي كان يحكم بُصرى باسم الروم). ولعله في هذه الرسالة كتب يشكو من الاستعدادات التي شُوهدت على حدود الشام، ومن المذبحة الحمقاء الظالمة التي لقيَها الخمسة عشر مسلمًا الذين أرسلوا لمعرفة أخبار ما يحدث على الحدود.
وحمل الرسالة صحابي اسمه الحارث بن عُمير الأزدي، فعرض له في الطريق عند مؤتة.. شُرَحبيل بن عمر الزعيم الغسّاني، وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قِبَل قيصر.
سأله الزعيم الغسّاني شرحبيل: “هل أنت رسول محمد؟ لعلك تحمل رسالة منه”.. وبمجرد أن أجاب الصحابي بالإيجاب قام الزعيم الغسّاني بالقبض عليه، وأوثقه ثم عذبه بالضرب المبرح إلى أن مات. ولعل هذا الزعيم الغسّاني كان هو قائد الجيش الذي لقي الجماعة المكونة من 15 مسلمًا، وقام بقتلهم، هؤلاء الذين لم يفعلوا شيئًا سوى أنهم حاولوا أن يبشروا بدينهم. إن حقيقة سؤاله للحارث عن احتمال حمله رسالة من الرسول توضح أنه كان يخشى أن تبلغ شكوى الرسول مسامع قيصر عن هجومهم وقتلهم الخمسة عشر مسلمًا.
كان خائفًا أن تتم محاسبته على ما حدث، وظن أن قتل حامل رسالة الرسول سيكون أمانًا بالنسبة إليه، ولكن توقعه لم يتحقق. فقد بلغت أخبار القتل الرسول ، فجهز جيشًا من 3000 مقاتل للانتقام من هذه الحادثة والتي سبقتها، وبعث بهم إلى الشام تحت إمرة مولاه زيد من حارثة، مملوكه الذي حرره، وعيّن الرسول جعفر بن أبي طالب ليخلف زيدًا لو قتل، وعبد الله بن رواحة فيما لو قتل جعفر، وفوّض للمسلمين اختيار من يخلف عبد الله بن رواحة لو قتل.
وعلّق على ذلك رجل من اليهود كان حاضرًا فقال للرسول : “يا أبا القاسم! لو كنت نبيًّا حقًّا فإن هؤلاء الثلاثة الذين سميتهم سيموتون فعلاً، لأن الله لابد أن يصدق ما يقول الرسول”، والتفت إلى زيد قائلاً: “خذها مني، لو كان محمد نبيًّا فلن تعود حيا”. ولما كان زيد من المؤمنين المخلصين أجابه قائلاً: “إن محمدا رسول الله حقًّا، سواء عدتُ حيًّا أو لم أعد.” (السيرة الحلبية ج3 ص 75)
في الصباح التالي بدأ الجيش المسلم رحلته الطويلة. وصحبهم الرسول ورفاقه لبعض الطريق. ولم يحدث أبدًا أن خرجت حملة بهذه الأهمية والحجم بدون قيادة الرسول نفسه، وبعد ما سار الرسول بعض الوقت ليوَدّع الحمْلة، أوصاهم وأمرهم ونصحهم عند ثنية الوداع التي تعَوّد أهل المدينة أن يُوَدّعوا عندها المسافرين إلى الشام من الأصدقاء والأقارب، فقال:
“أوصيكم بتقوى الله والعدل فيمن معكم من المسلمين، اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة ولا أعمَى ولا كبيرًا فانيًا ولا منعزلاً بصوْمعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة ولا تهدموا بناء”. (السيرة الحلبية ج 3)
بعد ذلك عاد الرسول أدراجه وتقدم الجيش إلى الأمام. كان ذلك أول جيش يرسل للحرب ضد قوة مسيحية، وعندما بلغ المسلمون حدود الشام سمعوا أن قيصر نفسه مع مائة ألف من جنوده في الميدان، ومائة ألف آخرين مجنّدين من القبائل المسيحية العربية. ولما وجد المسلمون أنفسهم في مواجهة هذا العدو الهائل، فكّروا أن يتوقفوا في طريقهم ليرسلوا رسالة إلى الرسول في المدينة ليرسل إليهم مددًا أو يرسل إليهم تعليمات جديدة.
وعندما اجتمع القادة للمشاورة، وقف عبد الله بن رواحة وقد امتلأ بشعلة من الحماس فقال: “يا قوم. والله إن التي تكرهون لَلَّتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين؛ إما ظهور وإما شهادة”.
وسمع الجيش ما قال ابن رواحة، وأحدث فيهم بالغ الأثر، واستقر رأيهم على ما دعاهم إليه. وتحرك الجيش إلى الأمام، وعندما رأوا الجيش الرومي يتقدم نحوهم انحاز المسلمون إلى مؤتة وعسكروا هناك وتعبأوا للقتال، وهناك التقى الفريقان في المعركة. ولقي زيد قائد المسلمين مصرعه سريعًا، وحمل الراية بعده ابن عم رسول الله جعفر ابن أبي طالب فقاد الجيش. وعندما رأى ضغط العدو الهائل والمسلمين غير قادرين على التماسك بسبب قلة عددهم بشكل واضح، إذ ذاك ترجّل عن فرسه وعقرها، وكان هذا الفعل يعني أنه لن يفر أبدًا، وأنه قرر تفضيل الموت على الفرار، إن قطع أقدام الركوبة في عادة العرب يعني تجنب الهرب والهلع. وقُطعت يمناه وهو يقاتل، فأمسك الراية بيسراه فقطعت كذلك، فاحتضن الراية بعضديه وضمها إلى صدره، وسقط وهو يقاتل موفيًا بوعده، واستلم عبد الله بن رواحة الراية كما أمر الرسول ، وتولى القيادة فسقط هو أيضًا قتيلاً.
طلبت السيدة ميمونة أن تُدفن على مسيرة يوم خارج مكة، في نفس المكان والبقعة التي عسكر فيها الرسول أثناء عودته إلى المدينة، والتي لقيته فيها لأول مرة. إن العالم يعرف قصصًا كثيرة عن الحب، منها الحقيقي والخيالي، ولكن لا شيء من بينها أكثر تحريكًا للقلب من هذه القصة.
وكان أمْر الرسول حينئذ أن يتشاور المسلمون معا ليختاروا قائدا لهم، ولكن الوقت لم يكن يسمح بهذا الاختيار. وكان خليقًا بالمسلمين أن ينهاروا إزاء الأعداد الهائلة للعدو، ولكن خالد بن الوليد قبل نصيحة صديق له فأخذ الراية وقاتل إلى المساء. وفي اليوم التالي نزل إلى الميدان ثانية مع قواته المجهدة المحدودة، وصنع حيلة حربية بتغيير الجناح الأيمن محل الأيسر، ووضع القلب في الخلف وجاء بالقوات الخلفية إلى المواجهة، ورفع بعض الشعارات الحربية. وتصوّر العدوّ أن المسلمين قد جاءتهم الإمدادات خلال الليل فداخلهم الخوف، وأخذ المسلمون خلال المعركة ينسحبون والعدوّ لا يلاحقهم خوفًا من المكيدة، وأنقذ خالد بقايا قواته وعاد إلى المدينة. وتلقّى الرسول الأخبار عن طريق الوحي، فجمع المسلمين في المسجد. وعندما نهض يخطبهم كانت عيناه مبللتين بالدموع وهو يقول:
“أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم” ( زاد المعاد ج1 والزرقاني).
وأصبح وصف الرسول لخالد شائعًا مشهورًا، وأصبح يُدعى بعدها سيف الله، ودخل المدينة ليجد نفسه معروفًا بذلك.
كان خالد يُعَيّر بسبب تأخر إسلامه من المسلمين الآخرين، وتشاجر مرة مع عبد الرحمن بن عوف، فاشتكى عبد الرحمن إلى الرسول فعنّف الرسول خالدًا وقال لـه: “يا خالد، أتسيء إلى رجل حضر بدرًا، والله لو أنفقت مثل أحُد ما بلغ ذلك مدّ عبد الرحمن ولا نصيفه”. ورد خالد: “ولكنهم عيروني وكان لا بد أن أرد عليهم”. عند ذلك التفت الرسول إليهم قائلاً: “لا تعيروا خالدًا، إنه سيف من سيوف الله سلّه الله على الكافرين”. وتحققت كلمات الرسول حرفيًا بعد سنوات قلائل.
عند عودة خالد إلى المدينة مع الجيش المسلم، قام بعض المسلمين بوصف انسحابهم على أنه فرار وضعف في الإيمان. كان النقد الشائع يقوم على أساس أن واجبهم هو الموت مقاتلين. وعنّف الرسول المنتقدين، ونفَى عن الجنود أن يكون إيمانهم ضعيفًا، فقد كانوا جنودًا ينسحبون ليتحيّزوا إلى فئة ليعاودوا الهجوم. وقال الرسول عن نفسه: “أنا فئة كل مسلم”.
كان لهذه الكلمات معنى أعمق مما يبدو على السطح، فلقد كانت نبوءة بما سيحدث من القتال في الشام بعد ذلك.