تُثار في الغرب مزاعم كثيرة ضد التحدي القرآني القائل بأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله. ويُقال أيضا بأنه ليس بالضرورة من وحي الله تعالى، بل إن محمدًا كان طفرة من بين البشر. إذ يقولون إنه حسب قانون الطفرة يُمكن أن يُؤتى فرد من الأفراد موهبة فائقة أو قدرة خارقة، لا يماثله فيها أحد من البشر.
وعلى هذا.. فإن كان القرآن كتابا فريدا لم يستطع أحد أن يأتي بمثله، فلا يدل هذا بالضرورة على أن ذلك الكتاب من وحي الله تعالى، بل يمكن القول بأن محمدا كان رجلا عبقريا.. وإنه كان طفرة من بين البشر.
اقرأ الرد على هذا البهتان وافحص الدلائل على أن القرآن نزل من عند الله، من خلال كتاب: القرآن معجزة الإسلام الذي سننشره عبر حلقات في هذه الزاوية. «التقوى»
ثالثا: القرآن يزيل الخلاف بين الكتب السماوية
إن الاختلافات في الكتب السابقة كثيرة ومتعددة، سواء في الكتاب الواحد أو بين كتاب وآخر، ولو تُرك الأمر على ما كان عليه قبل نزول القرآن، لاستفحل الخلاف بين الناس ولما تمكنوا من دفع الشقاق ورأب الصدع. يقول تعالى:
إن هذا الشقاق البعيد الذي انتهى إليه أمر الناس هو الذي استنـزل رحمة الله عليهم فأنزل لهم القرآن الذي هو رحمة من الله، ولا يحوي سوى الحق الكامل من الله تعالى، وبذلك يكون هو وسيلة الحَكَم العدل، الذي يحكم في كل خلاف ويفصل في كل قضية. يقول تعالى:
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل:90)
وحين يعرض القرآن للأحداث السابقة، ويحكي تاريخ الأمم الغابرة، ويذكر وقائع القرون الخالية، فإنه يفعل ذلك لغرضين: أحدهما أنه يُصحح ما جاء في الكتب السابقة من أحداث، ويزيل التناقض بين ما أخطأت تلك الكتب في ذكره بسبب ما أضافته يد البشر، وبين ما استجدّ كشفه في دنيا العلم والبحث والتنقيب. والأمر الثاني هو أنه يلفت أنظار المسلمين إلى أن تلك الأحداث والوقائع التي حدثت في الماضي إنما هي للعبرة والموعظة للمسلمين.. من حيث إنها بمثابة أنباء غيبية سوف يقع في المستقبل من الحوادث ما يُشابهها.
ولعل أكثر الكتب التي تحدث عنها القرآن وأشار إليها وإلى ما تحويه هي التوراة والإنجيل.. وهي من الكتب التي أُنزلت على بني إسرائيل. وقد أشار القرآن إلى الخلافات المتعددة بين بني إسرائيل، وكيف أن القرآن أورد الأحداث الحقيقية التي وقعت والتي ذكرتها تلك الكتب.. مُحرّفة أو مُشوّهة.. بسبب تطاول العهد وتقادم الزمن. يقول تعالى:
والآية الكريمة تشير إلى كثرة الخلافات بين بني إسرائيل وتعددها، وإلى أنه لا سبيل لرفع كل الخلافات التي وقعت في كتبهم المقدسة، وإن غرض القرآن وهدفه ليس مجرد رفع الخلافات وإزالتها من الكتب السابقة.. فلم ينـزل القرآن لذلك وإنما هو كتاب فيه هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ . ولهذا فإن القرآن تناول من تلك الاختلافات التي وقعت في كتب بني إسرائيل ما كان منها يتعلق بالأمور التي تنبني عليها الهداية: وَإِنَّهُ لَهُدًى ، وهو رحمة ترفع الظلم الذي وقع في تلك الكتب على الصالحين والمؤمنين من بني إسرائيل، فهو: رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ .
فمثلا.. أكّد القرآن على أن أنبياء بني إسرائيل كانوا رجالا صالحين لم يكفر منهم أحد، ولم يأت أحدهم بما يستوجب غضب الله عليه.. كما ادّعت التوراة في شأنهم.. بدءًا من موسى عليه السلام الذي وصمته التوراة بأنه عصى الله وأغضبه فحرمه من دخول الأرض المقدسة، إذ تقول التوراة عن موسى:
“… وانظر أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ملكا. ومُت في الجبل الذي تصعد إليه وانضم إلى قومك كما مات هارون أخوك في جبل هور وانضم إلى قومه. لأنكما خُنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة قادش في برية صين، إذ لم تُقدساني في وسط بني إسرائيل. فإنك تنظر الأرض من قبالتها ولكنك لا تدخل إلى هناك، إلى الأرض التي أنا أعطيها لبني إسرائيل.” (سفر التثنية، إصحاح 32، فقرة: 49-52)
إن المجال ليضيق هنا عن ذكر كل الوقائع المخزية التي ألصقها بنو إسرائيل بأنبيائهم وتضمّنتها كتبهم المقدسة. ولقد عالج القرآن الكريم كل ما من شأنه أن يكون فيه هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ .
بينما نرى أن القرآن يؤكد أن موسى عليه السلام قد رباه الله تعالى بنفسه، وفتنه فتونا.. أي امتحنه وابتلاه، فخرج من كل تلك الامتحانات على قدر عظيم. يقول تعالى:
ومن أجل ذلك يُدين الله أولئك الذين آذوا موسى وافتروا عليه الإثم والبهتان فيقول:
وهارون عليه السلام.. نبي الله.. اتهمته التوراة بأنه اشترك في صنع العجل الذي عبدته بني إسرائيل، فأوضح القرآن حقيقة موقفه، فقال:
وداود عليه السلام.. ألصقت به التوراة تهمة ارتكاب الزنا والعياذ بالله، فيقول الله تعالى عنه في القرآن:
وأيوب عليه السلام.. زعمت التوراة أنه لعن اليوم الذي وُلِد فيه بسبب ما أصابه من ابتلاء، فبرّأه الله تعالى من ذلك وقال عنه:
إن المجال ليضيق هنا عن ذكر كل الوقائع المخزية التي ألصقها بنو إسرائيل بأنبيائهم وتضمّنتها كتبهم المقدسة. ولقد عالج القرآن الكريم كل ما من شأنه أن يكون فيه هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمنِينَ . هدى.. لأن المفروض في الأنبياء أن يكونوا قدوة لأقوامهم.. يقتدي الناس بأعمالهم، ويهتدون بتعليمهم، ويقتفون أثرهم.. فكيف يرتكب هؤلاء الأنبياء كل تلك الموبقات التي ألصقتها بهم التوراة؟ بل إن هذا الزعم الأخرق لينال أيضا من حكمة الله الذي اختار هؤلاء الأنبياء لهذا المقام العظيم. فلو كانوا قد ارتكبوا فعلا تلك المعاصي التي تزعمها التوراة، لدل هذا على عدم حكمة من اختارهم لمهمة النبوة والرسالة، ولذلك يقول تعالى عن الأنبياء عموما:
أي إن الله تعالى لا يختار أحدا لهذا المقام إلا الذي يليق بحمل المسئولية، ويستطيع أن يكون مثلا أعلى وقدوة طيبة يقتدي بها قومه. إن مبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب من المبادئ التي يأخذ بها البشر، فكيف يعجز الإله الحكيم عن اختيار الإنسان المناسب في هذا المقام الجليل الذي يترتب عليه إصلاح جيل من الأجيال أو هداية أمة من الأمم؟ كلا، بل إن الله تعالى يعلم تماما أن أولئك الأنبياء كانوا المثل الأعلى في التقوى والصلاح وطاعة الله، إذ يقول عنهم:
ثم يصف أنبياءه بأنهم أئمة مهديون، يهدون الناس بأمر الله تعالى فيقول:
إن الحكمة والعقل والمنطق.. لتشهد جميعا بأن ما ذكره القرآن عن الأنبياء هو الصحيح، ومع ذلك فإن بعض المستشرقين الجهال الذين أعماهم التعصب عن رؤية الحق لا يخجلون من الزعم بأن رسول الله قد اقتبس من التوراة والإنجيل المعلومات والحقائق التي تضمنّها القرآن الكريم. ومن الواضح أن المسألة ليست اقتباس المعلومات، وإنما هي قوامة الحق الذي جاء به القرآن على كل باطل أضافته أيدي البشر إلى الكتب السماوية السابقة.
لقد اقتضت قوامة القرآن أن يذكر كل ما فيه هدى ورحمة للمؤمنين.. المؤمنين السابقين والمؤمنين اللاحقين. أما الخلافات الأخرى التي لا تتعلق بأمور الهدى والرحمة.. فقد ضرب القرآن عنها صفحا ولم يذكرها. ولهذا.. فإنه يقرر بكل وضوح.. أنه تناول أَكْثَرَ ما يختلف فيه بنو إسرائيل، فيقول:
هكذا بلغ الدقّة في ذكر الحقيقة، وبلغ الإعجاز في سرد الوقائع، وكلها أمور تؤهل القرآن أن يكون بحق.. الكتاب القيم الذي له حق القوامة على الكتب السابقة.
رابعا: القرآن كتاب العبر والمستقبل
ذكرنا أن القرآن قد عرض لكثير من الأحداث الماضية، وهو حين يفعل ذلك لا يسرد الحوادث كما تسردها كتب التاريخ، ولا يذكر الوقائع كما تذكرها السجلات، ولا يُدوّن الأحداث كما يُدوّنها أصحاب المذكرات. وإنما إذا عرض القرآن لتلك القصص والوقائع فإنه يفعل ذلك إمّا لتصحيحها كما سبق توضيحه، أو لأن تلك القصص هي بمثابة تبشير وإنذار وموعظة للمؤمنين من حيث إنها أنباء غيبية سوف يقع في المستقبل من الحوادث ما يشابهها. يقول تعالى:
إن قَصص القرآن ليس بغرض التسلية، وذكر أحداث الماضي ليس بهدف الترفيه، وإنما هي تحسم خلافات وقعت بشأنها في الكتب السابقة، أو تقدم الموعظة للمتقين حتى يكونوا على حذر من الوقوع مستقبلا فيما وقعت فيه الأمم السابقة من الأخطاء.
والأسف إن الكثير من المسلمين لم يَعِ هذا الدرس القيّم، ولم يفطن إلى تلك الحقيقة الكثير من المفسرين الذين نظروا إلى قصص القرآن على أنها حكايات وروايات تخـص أحـداث الماضي فحسب، ولم يدركوا أنها نبوءات لغيب المستقبل، فلم يستفيدوا منها سوى بالنـزر اليسير الذي يتعلق بالماضي وحده.
ولإبراز هذه الحقيقة التي يتميّز بها القرآن.. ردّ الله على الكفار الذين كانوا يتساءلون عن السبب في عدم نزول القرآن جملة واحدة.. بل إنه كان يتنـزّل كلما عنَّ أمرٌ أو أراد الله أن يُثبّت قلب رسوله بأن يقصّ عليه أحداثا من الماضي تكون بمثابة نبوءات لما يوشك أن يقع من أحداث، ولِما يمكن أن يحدث من وقائع، ولِما سوف تأتي به الأيام من أمور الغيب، فيطمئن قلب الرسول إلى نتائج الأحداث، أو يتنبّه إلى مخاطر الأمور. يقول تعالى:
ويقول تعالى أيضا:
ولو كان القرآن مجرد كتاب للتسلية والترفيه، أو لو كان الغرض من ذكر القصص في القرآن هو مجرد ذكر الأحداث والموعظة، لكان أَحْسَنَ الْقَصَصِ يتميّز بالحبكة القصصية وجمال القصة وحسن تسلسل الوقائع. ولكن.. لما كان الكتاب كتابا قيّما، والغرض من إنزاله على فترات هو لِنُثَبِّتَ بِـهِ فُؤَادَكَ ، فإن قصص القرآن تروم قصدًا أعلى وأجل من سرد الحوادث وإتقان الحبكة. ولهذا وصف سبحانه ذلك القصص بقوله:
إذًا فأحداث الماضي وقصص الذين خلوا ليست سوى عبرة لأولي الألباب، وهي ليست أحداثا من الخيال الروائي.. فهي لم تكن حديثا يُفتَرى، ولكنها تصديق للأمور التي على وشك الوقوع بين يدي الرسول ، وهي تفصيل كل شيء وهدى ورحمة للمؤمنين الذين سوف يأتي بهم الزمان في مستقبل الأيام.
ولنأخذ قصة يوسف عليه السلام مثالا لشرح هذه النقطة الدقيقة..
إن في هذه القصة أمورا تشير إلى أحداثٍ وقعت أو سوف تقع في حياة الرسول ، فهناك العديد من الوقائع المتشابهة بين ما حدث ليوسف عليه السلام وما سوف يحدث لرسول الله. وفي هذا تنبيه للرسول وتثبيت لفؤاده بما سوف تؤول إليه الأمور، وما سوف تنتهي إليه الأحداث. فكلاهما تآمر عليه أهله ليقتلوه.. يوسف عليه السلام حاول إخوته أن يقتلوه، ورسول الله حاولت قبيلته أن تقتله. ولكن.. كما نجّى الله تعالى يوسف من كيد إخوته، فإنه قضى أيضا أن يُنجي رسوله من كيد قبيلته.
وكلاهما كان سبب نجاته أنه دخل باطن الأرض.. يوسف عليه السلام حين ألقاه إخوته في البئر، ورسول الله حين دخل مع أبي بكر في الغار، وجاء المشركون إلى فوهة الغار، ولكنهم وجدوا بيت العنكبوت وبيض الحمامة، فانصرفوا دون أن ينظر أحد منهم إلى موقع قدميه، وبذلك عصم الله رسوله من الناس.
وكلاهما تعرّض لإغراء الفتنة ومستطاب النفس.. يوسف عليه السلام حينما حاولت إمرأة العزيز أن تراوده عن نفسه، ورسول الله حين عرض عليه قومه أن يجمعوا له من المال ما يكون به أغناهم، وأن يأتوا له من النساء أجملهن، وأن يولّوه عليهم ملكا إذا كان يبتغي الملك والسلطان، وأن يأتوا إليه بخير الأطباء ليعالجوه إذا كان به مس من الشيطان. وفي بعض الروايات يُقال إنهم عرضوا عليه أن يعبدوا إلهه عاما ويعبد آلهتهم عاما، وبذلك ينتهي الخلاف وتزول العداوة بينه وبينهم. ولو لم يكن رسول الله هو حقا من عند الله.. لكان من المعقول أن يقبل هذا العرض المغري، فليس أشد إغراء من المال والنساء والْمُلك والسلطة. ولكنه رفض باصرار قائلا: “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه”. وهذا هو نفس الإصرار الذي أبداه يوسف عليه السلام في مواجهة إغراء الدنيا الذي عرضته عليه إمرأة العزيز ونسوة المدينة اللاتي تآمرن معها عليه، فقال:
وبعد أن تعرّض كلاهما للإغراء والفتنة.. دخل يوسف عليه السلام السجن، ونُفِيَ رسول الله في شعاب أبي طالب، بعد أن قاطعته قريش هو والحفنة الذين آمنوا معه، فلبث في ذلك المكان فترة من الزمن كالسجين.
ثم كان دعاء رسول الله على قومه أن تصيبهم المجاعة كما أصابت قوم يوسف، ليس بغرض الانتقام والتشفي، ولكن بغرض أن تكون المجاعة سببا يجعل قومه يرون الحق ويدركون فساد أعمالهم، كما كان وقوع المجاعة في زمن إخوة يوسف سببا جعلهم يرون نتيجة سوء أعمالهم.
كذلك نرى تشابها في الوقائع بين تولي يوسف عليه السلام الحكم بعد خروجه من السجن.. وبين تولي رسول الله الحكم بعد خروجه من شعاب أبي طالب، إذ سرعان ما هاجر الرسول إلى المدينة واستتب له الأمر هناك.
ثم نرى ظهور عز يوسف عليه السلام وخضوع أهله في نهاية الأمر، وهو ما يُقابل ظهور عز الرسول وخضوع أهله وعشيرته له في نهاية الأمر. وهناك أيضا التشابه الكامل بين عفو يوسف عن إخوته، وعفو الرسول عن أهله، واستعمال كل منهما لنفس الكلمات: لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ .
إن القرآن زاخر بالإشارات للأحداث الماضية، وهي كذلك إشارات للأحداث المستقبلة. وحين ننظر إلى القرآن بهذا المنظار، ونفهم قصص القرآن من هذا المنطلق، ينبثق لنا عالم جديد وعجيب من عوالم القرآن المجيد، ونفهم لماذا لم يذكر القرآن حوادث القصص جميعها في سرد متصل، وإنما كان يذكر جانبا من وقائع القصة، وقد يكررها في مناسبة أخرى، أو يذكر جانبا آخر منها. فكل تلك الوقائع كانت تومئ إلى أنباء الغيب التي على وشك الوقوع.
ثم كان دعاء رسول الله على قومه أن تصيبهم المجاعة كما أصابت قوم يوسف، ليس بغرض الانتقام والتشفي، ولكن بغرض أن تكون المجاعة سببا يجعل قومه يرون الحق ويدركون فساد أعمالهم، كما كان وقوع المجاعة في زمن إخوة يوسف سببا جعلهم يرون نتيجة سوء أعمالهم.
ولا يقتصر الأمر على زمن رسول الله فقط، بل إن وقائع الأمم السابقة تشير أيضا إلى ما سوف يحدث للمسلمين في مستقبل الأيام. لهذا كان من أكثر الأقوام الذين جاء ذكرهم في القرآن هم اليهود والنصارى، وذلك لأن المسلمين سوف يؤول أمرهم إلى ما آل إليه أمر اليهود والنصارى، وسوف يقع لهم من الأحداث ما وقع لمن سبقهم من اليهود والنصارى. وفي هذا الشأن صرّح رسول الله بقوله: “لتتبعن سُنن الذين من قبلكم حذو النعل بالنعل”، وقال: “علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل”.
ويذكر القرآن أن اليهود قد أفسدوا في الأرض مرتين، وفي المرة الأولى بعث الله عليهم عبادا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، ثم رد الله لليهود الكرّة عليهم وأمدّهم بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرا. وفي المرة الثانية.. سلّط عليهم أيضا أعداءهم ليسوؤوا وجوههم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليُتبّروا ما علوا تتبيرا.
أما الفساد الثاني بالنسبة لليهود فكان بعد أن رد الله لهم الكَرّة على أعدائهم، واستعادوا فلسطين وعاشوا فيها. غير أنهم عادوا إلى فسادهم وعصيانهم أمر الله، فكان أن سلّط الله عليهم الرومان الذين طردوهم مرة أخرى من فلسطين، ومنعوهم من دخولها، وأصاب الله اليهود ذلا وخزيا يُعبر عنه القرآن بقوله:
وهذا هو ما حدث للمسلمين تماما.. إذ حدث أن ردّ الله لهم الكرّة على أعدائهم واستعادوا فلسطين من الصليبيين، بل طاردوهم واستولوا على المملكة الرومانية الشرقية التي كانت عاصمتها القسطنطينية. وأقاموا الدولة العثمانية التي امتدت أملاكها على بقعة من الأرض لم تقابلها أي مملكة من ممالك العالم السابقة، فتحقق بذلك للمسلمين ما سبق أن وعد الله به بني إسرائيل:
واستمر هذا الحال ردحا من الزمان، غير أن المسلمين عادوا إلى طرق الفساد وعصيان الله والرسول وهجر القرآن. وكان هذا هو الفساد الثاني مثل فساد اليهود الذين من قبلهم، فسلّط الله على المسلمين رومان العصر الحديث، وهم سلالة الرومان الذين خلوا من قبل. وقد طُرِد المسلمون من فلسطين مرة أخرى، ومُنعوا من دخولها حين جاء رومان العصر الحديث باليهود وأعطوهم الأرض المقدسة التي طردهم منها أسلافهم منذ ما يقرب من ألفي عام، وأصاب الله المسلمين ذلا وخزيا يعرفه تماما كل من عاش الأحداث المخزية التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم، والتي سبق أن عبر عنها القرآن المجيد بقوله:
إن هذه الفجيعة التي تعرّض لها المسلمون، وهذه المأساة التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم، بسبب تحقق تلك النبوءات التي ذكرها القرآن الكريم على أنها وقائع وأحداث سبق وقوعها في الماضي، لا شك أنها تثير الأسى والأسف في قلب كل إنسان يتوجع فؤاده ألما وحسرة لأمة خاتم النبيين، إلاّ أنها تدل أيضا على عظمة القرآن، وتبرهن على إعجاز الفرقان. فهو ليس مجرد كتاب يؤرخ الحوادث ويسرد الوقائع، ولكنه كتاب يذكر الماضي لأن فيه عبرة للمستقبل، ويُدوّن ما انقضى لأنه يشير إلى ما سوف يحدث. هذا هو الكتاب القيّم الذي تتضح عظمته مع مرور الزمان وتقادم الأيام. فالزمان نفسه يشهد على صدقه وعظمته، والأيام تبين حقيقته وعلو قدره، والواقع المشهود يبرهن على سمو شأنه وصـدق نبوءاته، والتاريخ يثبـت بحق أنه الكـتاب القيّم الذي يسـتحق أن تكـون له القـوامة على جميع الكتب السابقـة.