شرح الكلمات:
تبلو: بلاه يبلو بلاءً وبَلوًا: جرّبه واختبره (الأقرب)
مولى: المولى: المالِكُ؛ المُعتِقُ؛ الصاحبُ؛ القريبُ؛ الحليفُ؛ الوليُّ؛ الربُّ؛ المنعمُ؛ المحبُّ (الأقرب)
الحقّ: ضِدُّ الباطل؛ الأمرُ المقضيّ؛ العدلُ؛ المِلك؛ الموجودُ الثابت، اليقينُ بعد الشك؛ الموتُ (الأقرب)
ضلّ: ضَلَّ يَضِلّ: ضِدُّ اهتدى. ضلّ فلان عن الطريق: لم يهتدِ إليه. وضل الرجل في الدين ضلالاً وضلالةً: ضدُّ اهتدى. ضلَّ الفرسُ: ذهب عنه. وذهب عني كذا: ضاع. وضل الماء في اللبن: خفي وغاب. وضلّ فلان فلاناً: نَسِيَه. ضلّ الناسي: غاب عنه حِفظُ الشيء. ضل عملُه: عَمِلَ عملاً لم يعُد عليه نفعُه. (الأقرب)
التفســـير:
لقـد وضّح المولى سبحـانه وتعـالى في هذه الآيـة أن حقيقة كـل شيء – بكل تفاصيلها – لا تنكشف في هذه الدنيا، وإنما ستتجلى حقيقة الأشياء كلها بصورة كاملة واضحة في الآخرة فقط، ولهذا سيصدر هنالك القضاء الأصلي من قِبل المالك الحقيقي، وبسبب انكشاف كل أمر على الجميع هناك لن يلجأ الناس إلى الكذب أبدًا،لأنهم لن يستطيعوا خداع أحد بالكذب، لأن كل واحد يكون مطلعًا على الأمر الواقع.
وبقوله تعالى مولاهم الحق أشار إلى معظم ما ذكرناه آنفا من معانٍ لهذه الكلمة. كما نبّه العباد قائلا: إلى أين ستتجهون مُعرضين عن هذا الإله العادل، القائم بذاته، المنعم عليكم، وأَنَّى لكم أن تَفِرُّوا من عذاب هذا القدير القائم الثابت منذ الأزل.
أما قوله تعالى وضل عنهم ما كانوا يفترون فَلَهُ معنيان، الأول: أنهم سوف ينسون أعمالهم، لأن الإنسان إذا أدرك خطأه حاول نسيانه. والثاني أنهم لن تغني عنهم أعمالهم شيئًا.
فـإن الإنسـان لن يكفيه العـقل وحده لضـمان هدايته الروحانية، وإنما مَثل العقل الإنساني كمثل الأرض العطشى، فما لم يَرتوِ العقل بماء الوحي الإلهي فإنه لن يقدر على إخراج النبات الروحاني الذي يغذي الروح.
التفســير:
هناك آيات معدودة جدّا من القرآن الكريم التي أشاد بها المفسرون المسيحيون، وهذه الآية واحدة منها. يكتب القسيس “وهيري” فيقول: إن هذه الآية تحتوي على أدلةٍ قوية على عقيدة التوحيد، ومثل هذا التعليم القرآني كان سببًا كبيرًا في نجاح الإسلام وانتشاره (تفسير وهيري للقرآن).
والعجب كلّ العجب أن هؤلاء القسيسين الأفاضل يُدْلون بهذا الاعتراف الواضح بفضل الإسلام من ناحية، ومن ناحية أخرى وفي الوقت نفسه يعزون رقيّ الإسلام إلى السيف والإغراء حينًا، وإلى التعاليم الأخلاقية المنحطة – على حدّ زعمهم – حينًا آخر.
لقد نبّه المولى عز وجل العبادَ هنا إلى أن رزقهم إنما يأتي من السماء والأرض كلتيهما، بمعنى أن الرزق الآتي من مصدر واحد فقط لا يكفيهم. فمثلا لو نزل المطر غزيرًا متواليًا، ولكن حُرمت الأرض القدرةَ على الإنبات فلن يجدي المطر شيئًا، أو لو أن المطر انقطع لمدة طويلة فلن تغني الأرض الخصبة شيئًا. كذلك هو الطبع البشري، فإن الإنسان لن يكفيه العقل وحده لضمان هدايته الروحانية، وإنما مَثل العقل الإنساني كمثل الأرض العطشى، فما لم يَرتوِ العقل بماء الوحي الإلهي فإنه لن يقدر على إخراج النبات الروحاني الذي يغذي الروح. فكيف يمكنهم إذًا أن يدّعوا القدرة على الوصال بالله تعالى بعقولهم وحدها دون اتباع وحيه الذي أنزله على رسوله الكريم. إن للعقل نفعه دون شك، ولكنّ شأنه شأن العين، فكما أن العين وحدها لا تقدر على الرؤية بدون الضوء من مصدر خارجي كالشمس، كذلك فإن العقل وحده لا يستطيع التوصل إلى النتيجة الصائبة بدون نور الوحي السماوي.
ثم سأل عز وجل أمّن يملك السمع والأبصار .. أي أنَّه لَو كان السمع والبصر مِلْكًا لأحد بينما كانت هداية الناس مسؤولية كائن آخر لَحقَّ لكم أن تحتجوا بقولكم: إن هذا المسؤول لم يبالِ بأداء واجبه إذ لم يهيّئ للسمع والبصر الروحانيين ما ينفعان به. أما إذا كان الذي وهب لكم السمع والبصر هو نفسه المسؤول عن هدايتكم أفليس من الحماقة والغباء أن يُظن أنه خلق لكم هاتين الحاستين، ولكنه تركهما عاطلتين ولم يُهييء وسيلةً تساعدكم على الانتفاع بهما.
ثم يقول: ومَن يُخرج الحي من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ .. أي من ذا الذي يُخرج الأبرار من صلب الأشرارَ والأشرار من ذرية الأبرار، ويُخرج الأحياء من الأموات ويأتي بالعكس أيضا. تُلقون في الأرض البراز كسمادٍ وهو شيء لا حياة فيه، ولكن يخرج به زرعٌ خَضِرٌ، كما ترون الزرع الخَضِر يموت ويصبح هشيمًا، أو يصير برازًا عندما يأكله الناس والحيوانات. وما دمتم ترون عملية خروج الأحياء من الأموات، والأموات من الأحياء، فكيف تتوقعون من الله تعالى أن يتعجَّل عِقابَ الناس بكفرهم دون أن يمنح لهم فرصةً للتوبة والصلاح. فإذا كان الشيء الميت في الظاهر تعود فيه آثار الحياة فلماذا تستبعدون أن تتفجر من قلب ميت عينُ الحياة الروحانية في وقت من الأوقات. وما دام هذا الاحتمال واردًا فلماذا لا يمنحهم الله مهلةً لكي يُحييَ منهم من كان له في الحياة الروحانية نصيب.
ثـم يتسـاءل الله تعـالى ومن يدبِّر الأمر .. أي مـن ذا الـذي يشـرف علـى إدارة النظام الكوني؟ فسيقولون الله . قل: أوليس عجيبًا أن يقوم هذا المشرف على تدبير الكون بتدميره وتخريبه بيده، كما تزعمون؟ هل المشرف على شيء يصنعه أو ماكنة يديرها.. ترونه مهتمًا بسلامة هذه الأشياء أم يدمّرها؟ كلا، لا أحد من العقلاء يُقدِم على تدمير ما يملكه وإنما يسعى للانتفاع به ما استطاع إليه سبيلاً. فلماذا يعجّل الله إذًا بتدمير صنعته الكونية هذه التي تتجلى بها قدرته وعظمته، وإنما ينبغي أن يسعى لإنقاذها من الدمار بدلاً من تدميرها بيديه.
وهذا ردّ على اعتراض الكفار أنه ما دام الله قد أنذرنا بالهلاك فلماذا لا يحقق إِنذاره هذا على الفور.
الاتقاء معناه: اتخاذ الشيء سترًا وجُنَّةً احتماءً من الأذى. وبناءً عليه فالمراد من قوله تعالى أَفلا تتّقون هو: لماذا لا تدخلون في الحماية الإلهية رغم مشاهدة هذه السنن الربانية مع أهل الصدق والحق. وما دمتم ترون في السنن الإلهية كلها أن كفة الرحمة والتَّمهُّل راجحة على كفة الغضب والعقاب أفلا ينبغي لكم أن تنتفعوا برحمته الواسعة وتسعوا للتصالح معه سبحانه وتعالى، بدلاً من أن تُلحّوا في مطالبة إنزال العذاب عليكم!
تدبروا هذه الآية، وانظروا ما أروعَ ترتيبَها. ففي أَولها ذَكَرَ الله الرزقَ الذي هو سبب استمرار الحياة. ثم تحدث عن السمع والبصر وهما مدار العقل والفهم. ثم ذكر الموت والحياة وهما رمز للقوة العملية التي تلي العقل أهميَّةً. وأخيرًا ذكر التدبير الذي تمس إليه الحاجة بعد البدء في العمل، لأن التدبير معناه: إقامة نظام سليم لتنسيق شتّى الأعمال. وباختصار فقد ذكر الله هنا الوسائل الأربع التي لا بد منها لتحقيق غاية الخلق الإنساني، وذكَرَها بحسب درجاتها الطبيعية.
ثم قال مستفهمًا: أليس من الغباء الظنُّ أن يهب الله تعالى للإنسان حياة، ثم يخلق فيه شعورًا، ثم يزوده بقوة للعمل، ثم يخلق فيه نظامًا لتنسيق الأعمال، ثم بعد كل هذا الخلق المدهش يتخلى عنه دون أن يهديه ويعلّمه كيفيَّةَ استغلال هذه الأسباب والقوى لتحقيق هدف سامٍ نافع؟ إنَّ مثل هذا العَبَث لا يمكن أن يجيزه كلُّ ذي عقلٍ سليم. فالذي خلق هذه القوى الأربع لا بد أن يحدد لها غاية سامية، وعليه فإنه لا يعقل أبداً أن الله الخالق يترك عباده بدون هداية ولا يُشرّفهم بوحيه وإلهامه، أو أن يهلكهم قبل أن يتيح لهم الفرصة للهداية. لو كان الله يريد هلاكهم بالعذاب على عجل دون أن يمهلهم فلماذا خلق هذا النظام المتناهي في الدقّة واللطافة والروعة؟
إن هذه الآية تحتوي على دحض للشرك أيضا، حيث تقول: ما دمتم تسلّمون بكون الله تعالى رازقًا للإنسان، خالقًا لما فيه من القوى، مالكًا للحياة والموت، ومدبِّرًا للنظام الكوني أجمعه، فما هو برهانكم على قولكم بأنَّ كذا وكذا من الأمور هو من عمل شركاء الله. إذا كان الله سبحانه وتعالى لا يزال يقوم بهذه الأعمال كافَّةً منذ الأزل، فكيف تُعزى بعض هذه الأعمال إلى كائنات أخرى؟ وإذا كان الله هو مخرج الأحياء من الأموات، فكيف تقولون بأن مولودًا كذا هو هبة من شريك آخر لله تعالى؟ وَلماذا لا يقال: إن الذي يهب الأولاد عمومًا هو الذي وهبنا هذا المولود أيضا؟ مع العلم أن إخراج الحي من الميت لا يعني أن الحياة يمكن أن تتولد في الواقع من شيء ميت حقًا، وإنما يدور الحديث هنا عن خروج الحياة من أشياء تبدو ميتة أوّل وهلة.
شرح الكلــمات:
الضلال: الهلاكُ؛ الفضيحةُ؛ الباطلُ؛ ضدُّ الهدى (الأقرب)
التفــسير:
هنا قال ربكم الحق ، ومن قبل (في الآية رقم 31) قال مولاهم الحق . ذلك أن الحديث هناك كان عن الجزاء والعقاب، وأما هنا فعن تكميل مدارج الخلق الإنساني، فكانت الصفة الإلهية الملائمة هنا هي صفة “الرب”، لأن معناها: الذي يخلق الشيء ويوصله إلى درجة كماله. فالآية تكملة للآية السابقة إذ تقول: إن هذا الإله الذي يربّي الإنسان طورًا فطورًا حتى يصل إلى كماله، إذا أعرض عنه الإنسان واتجه إلى إلهٍ غيره فلا شك في أنه أحمق وغبيّ.
وقد جاء بكلمة (الحق) وصفًا لـ (ربكم) ليبيّن أن الأرباب نوعان: ربٌّ يقوم بالتربية ولكنه ربٌّ فانٍ وتربيته ناقصة، وربٌّ آخر حقيقي قائم بذاته وهو أسمى من أن تصل إليه يد الفناء، وتربيته هي التربية الحقيقية الكاملة. فالله تعالى ليس ربًّا فحسب، بل هو رَبٌّ أزلي أبدي، وَلا يمكن أن يكون أحد أَكثر منه كمالاً ولا أحسَنَ منه تربيةً. فهل يعني التوجه إلى ربٍّ غـيـره إلا الهــلاك والدّمار.
فكما أن العين وحدها لا تقدر على الرؤية بدون الضوء من مصدر خارجي كالشمس، كذلك فإن العقل وحده لا يستطيع التوصل إلى النتيجة الصائبة بدون نور الوحي السماوي.
شرح الكلــمات:
الكلمة: اللفظُ؛ كلُّ ما ينطق به الإنسان مفردًا كان أو مركّبًا (الأقرب)
فسقوا: فَسَقَ الرجل فِسقًا وفسوقًا: تَرَكَ أمرَ الله؛ عصى وجار عن قصد السبيل؛ خَرَجَ عن طريق الحق. وفَسَقَت الرُطَبة عن قِشرها: خرجت (الأقرب)
التفــسير:
يقول: كما أنه من الثابت والمؤكد أن ليس دون الحق إلا الضلال والهلاك، كذلك قد جرت السُّنة الإلهية عن الفاسقين – أي المارقين من الدين – أنهم لا يؤمنون.
إن الآية لا تعني أبدًا بأن الله يحرم البعض من الإيمان، وإنما تَنصُّ صراحةً على أنَّ القانون الإلهي يقضي بأن من سار على طريق الخطأ ازداد ضلالاً، ومن سار على طريق الصواب ازداد صلاحًا. والحق أنه لا بد من هذا القانون إذا كان للخلق الإنساني غاية وإلا لَعَمَّتِ الفوضى العالم ونال الظالمون درجات عليا في الحياة الروحانية، وأصبح الصالحون في عداد الضالين. الذي يُعرَض عليه الدَّليل تلو الدليل، ثم لا ينفك سادرًا في رفضه وغيّه.. كيف يُستساغ أن يهديه الله قسرًا؟ كلا؛ إنه لا يهدي أحدًا قسرًا، ولا يُضلّ أحدًا جبرًا. نعم، إذا غيّر الإنسان ما في قلبه تغيرت المعاملة الإلهية معه تلقائيًا.
فانظروا كيف أنَّ كلامَ الله القرآنَ يفيض محبةً وحنانًا. إنه أولاً يعرض على الإنسان البراهين العقلية على صحة تعاليمه، ثم يذكّره بنبرة ملؤها الحب والرقة بإصلاح حاله.