وإنّا لا نقول أن أهل الجنّة بعد انتقالهم إلى دار الآخرة يُحبسون في مكان بعيد من الجنة إلى يوم القيامة، ولا يدخل الجنة قبل القيامة إلا الشهداء، كلاّ.. بل الأنبياء عندنا أول الداخلين. أيظن المؤمن الذى يُحب الله ورسوله أن النبيين والصديقين يُبعدون عن الجنة إلى يوم البعث ولا يجدون منها رائحة، وأما الشهداء فيدخلونها من غير مكث خالدين؟
فاعلم يا أخي أن هذه العقيدة رديئة فاسدة ومملوءة من سوء الأدب. أما قرأت ما قال رسول الله أن الجنة تحت قبري وقال إن قبر المؤمن روضة من روضات الجنة وقال عز وجل في كتابه المحكم:
(الفجر:28-31)، وقال في مقام آخر: قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ (يس:27). وقص علينا قصة رجل مات ودخل الجنة، وكان له صاحب في الدنيا فاسق فمات صاحبه أيضا ودخل النار، فذكر الذي دخل الجنة قصة صاحبه عند أصحاب الجنة وقال:
وأنت تعلم أن هذه القصة تدل بدلالة صريحة على أن المؤمنين يدخلون الجنة بعد موتهم من غير مكث، ثم لا يُخرَجون منها ويتنعّمون فيها خالدين. وكذلك يثبت من القرآن أن أهل جهنم يدخلونها بعد الموت من غير مكث، كما لا يخفى على الذين يتدبرون في آية: فَرَآهُ في سَوَاءِ الْجَحِيمِ ، وكما قال الله تعالى: مِمَّا خَطِيئآتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا (نوح:26). وإن كنت تطلب شاهدا من الحديث فانظر إلى أحاديث المعراج، فإن النبي رأى جهنم في ليلة المعراج وكذلك رأى الجنة، فرأى في الجنة أهلها، وفي جهنم أهلها، فريقا في النعيم وفريقا من المعذبين.
وإن قلت ان كتاب الله والأخبار الصحيحة شاهدة على أن البعث حق والميزان حق وسؤال الله عن عباده حق واقع لا شبهة فيه، ثم بعد كل هذه الواقعات.. أعني بعد حشر الأجساد والحساب ووزن الأعمال يدخلون أهل الجنة مقام جنتهم ويدخلون أهل النار مقام نارهم. وإن كان هذا هو الحق فكيف يمكن دخول أهل الجنة وأهل جهنم في مقامهم إلاّ بعد حشر الأجساد ووزن الأعمال وغيرها كما تقرر في عقائد المسلمين؟
قلنا لو حملنا ألفاظ تلك الآيات على ظواهرها لاختل نظام كتاب الله وما بقى توافق آيات الله، بل وجب في هذه الصورة أن نُقر بأن القرآن مملوء من الاختلافات والتناقضات وبعض آياته يُعارض بعضا. ألا ترى الآيات التي تدل على دخول أهل الجنة وأهل جهنم في رياض الخلد ونيران السعير من غير مكث وتوقف؟ فاعلم أن في هذه الآيات ليست مُخالفَة، وليس المراد من الحساب ووزن الأعمال وحشر الأجساد أن يخرج أهل الجنة من جنتهم ومقام عزتهم وأنهم يؤخذون ويُحاسَبون لعلهم كانوا من أهل النار، يخرج أهل النار من نارهم وينظر في أمرهم لعلهم كانوا من أهل الجنة لأن الله تعالى يعلم الغيب ويعلم إيمان الناس وكفرهم قبل أن يخلقوا ولا يعجز علمه عن درك المغيبات، بل الحساب والميزان لإظهار مكارم المكرمين وإراءة مفاسد المفسدين.
ولا شك أن أهل الصلاح وأهل المعصية يرون ثمرات أعمالهم بعد الموت بغير مكث طرفة عين، وجنتهم ونارهم معهم حيث ما كانوا ولا تفارقانهما في آن. ألا تنظر إلى ما قال رسول الله أن القبر روضة من روضات الجنة أو حفرة من حفر النار؟ والميت قد يُدفن وقد يُحرق وقد يأكله الذئب وقد يغرق في البحر، وفي كل صورة لا يفارقه روضة جنته أو حفرة ناره. وقد ثبت أن كل مؤمن وكافر يُعطى من جسم بعد موته، ويوضع جنته أو جهنمه في قبره، ثم إذا كان يوم القيامة فيبعث كل ميت ببعث جديد، ويحضرون لوزن أعمالهم، وتمشي معهم جنتهم ونارهم ونورهم وغبارهم، ثم بعد حساب الأعمال والسؤال بطريق إظهار العزة أو إراءة الذلة والوبال، وبعد الوزن وغيرها من الأمور التي نؤمن بها، تقضي رحمة الله تعالى وغضبه تجليات جديدة، فيُمثل الله الجنة في أعين أهلها بصورة ما رأتها أعينهم قط كما وعد في كتابه للمسلمين، فيكون لهم ذلك اليوم يوم المسرّة العظمى، والسعادة الكبرى، فيدخلونها فرحين آمنين.
وكذلك تمثل جهنم في أعين أهلها، ويُريها في صورة تفجعهم رؤيتها، ويسمعون تغيظها وزفيرها وشهيقها، ويحسبون أنهم ما رأوا مثلها من قبل وما دخلوها، فيكون لهم ذلك اليوم يوم الفزع الأكبر. ولله مجالي كثيرة في أقداره وأسراره وحكمه، فلا تعجبوا من مجالي الله، وادعوا الله يلهمكم طرق المهتدين. وكل ذلك مكتوب في كلام الله وما كتبنا حرفا من عندنا، وما حرّفنا وما اقترينا، ومن كذّب القرآن فهو هالك، ومن اختار سبيلا غيره فيَتُبَّ وتأكله السماء بأنيابها، فاستمسك بكتاب الله ولا تركن إلى غيره فتضل، وحسبنا كتاب الله إن كنا مؤمنين.
(حمامة البشرى، الخزائن الروحانية ج 7 – ص 249 – 251)