- شرح عذاب يوم أليم
- ديدن أعداء كل الأنبياء على صدقهم
- فحص الأمور للوصول إلى الحق
- الفضل الحقيقي فيما أراد الله
التفسيـر:
لقد حار بعض المفسرين في تفسير هذه الآية متسائلين: كيف وصف اليوم بكونه (أليمًا) مع أن العذاب هو الذي يكون أليمًا وليس اليوم (تفسير الطبري)؟
والحق أن حيرتهم ترجع إلى قِلة تدبرهم إذ لم يدركوا أن الكلام الذي يهدف إلى بيان دقائق المعارف ولطائف الحقائق لا بد أن يستخدم أساليب مبتكرة وتعابيـر غير عادية، وإلا يستحيل التعبير عن تلك المعاني اللطيفة. وكل من يتدبر في هذا القول يدرك البَون الشاسع بين التعبيرين (عذابًا أليمًا) (وعذاب يومٍ أليمٍ)، إذ يجد التعبيرَ الثاني أبلغ في تصوير شدة العذاب. ذلك أنه مما لا شك فيه أن العذاب يكون مؤلـمًا، ولكن هناك أيامًا هي أكثر إيلامًا من العذاب نفسه، إذ لا تزال ذكراها تعذِّب ذاكرة الناس، فتقشعر أبدانهم لمجرد تصور آلامها وإن مرت عليها آلاف السنين. ذلك أن العذاب يؤلم الناس الذين يحل بهم، ولكن ذكرى أيام العذاب المؤلم جدًّا تظلُّ تُسبّبُ الآلام للأجيال القادمة أيضا. فقوله (عذاب يوم أليم) إشارة إلى هذه الحقيقة اللطيفة، إذ يعني سيدنا نوح بهذا القول: أنني أخاف عليكم عذابا مؤلما هائلا للغاية بحيث إنه يظل رادعًا ومزدَجرًا للناس على مر العصور. والواضح أن ما يوجد في هذا التعبير من جدة وجودة لا يوجد في قولنا (عذابًا أليمًا) فقط.
إلا أن الإنسان لا يستعد إلى الآن لقياس صدق كلام الله ورسله بالمعايير التي وضعها الله لهذا الغرض، وإنما يريد أن يقيس صدقهم بما اخترعه من عند نفسه من مقاييس زائفة.
ثم إن الواقع أيضا يؤكد ذلك إذ كان ولا يزال طوفان نوح يمثل عبرةً ومزدجرًا للناس، إذ يعتبرونه حتى اليوم كارثة هائلة ويومًا مروِّعًا رغم مرور آلاف السنين على وقوعه، ويتملك قلوبهم هول عظيم وأذىً شديد من ذكر ذلك اليوم المخيف.
شرح الكلمات:
بَشرًا: عُبِّرَ عن الإنسان بالبَشَر اعتبارًا بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الشعر أو الوبر. واستوى في لفظ البشر الواحدُ والجمع والمثنّى، فقال تعالى: أنؤمِنُ لبَشَرَين ، وخُصَّ في القرآن كلُّ موضع اعتبر من الإنسان جثته وظاهره بلفظ البشر (المفردات).
أما أنا فأرى أن هذه مصطلحات تُطلق على حالاته المختلفة، فيسمى (إنسانًا) إشارةً إلى حقيقته وأخلاقه، و(بشراً) بالنظر إلى هيكله الظاهري، و(آدميًّا) نظرًا إلى بدايةِ مَنشَئِهِ.
أراذل: جمعُ أرذَل، مِن رذُل بنفسه رذالةً، أو مِن رَذَله رَذلاً جعله رذيلاً، ضدّ انتقاه. والأرذل في هذه الصورة بمعنى المرذول. والأرذل: الدُون في منظره وحالاته كالرّذل والرذيل، يقال: ثوب رَذَل ورذيل: وسخ رديء (الأقرب).
باديَ الرأي: أي ظاهِره من بدَا يبدو، ومنهم من جعلهُ مِن بَدأ يبدأ، والمعنى أول الرأي.
التفسيـر:
المراد من قولهم (ما نراك إلا بشرًا مثلَنا) أنه لا فرق بيننا وبينك من حيث المظهر والشكل، فكيف إذن نعتبرك مختلفًا عنا في الباطن وأنك صاحبُ حظوة وزُلفى في البلاط الإلهي، وأنك أُوتيت دوننا قدراتٍ تستطيع بها سماع كلام الله الذي لا نسمعه.
لم يزل أعداء الأنبياء على مر العصور يثيرون هذا الاعتراض نفسه، وحجتهم أن الإنسان إنما يفضل على غيره بما يكتسب بجهده من علوم ومهارات، ولكنّ صاحبنا هذا خِلوٌ من هذه الميزة، فكيف نصدق إذن أنه يمتاز علينا بقدرات باطنية غير عادية؟ وهذا ما يقوله المعارضون لنوح: لو كنت موهوبًا بقدرات باطنية خاصة للزم أن يكون مظهرك ذا طابع خاص وأن تكون حائزًا على علوم مادية بشكل غير عادي، ولكننا لا نراك تملك هذه الميزة، فكيف نسلّم بأنك تملك قوى باطنية غير عادية.
لقد قدّموا – في زعمهم – حجةً فلسفية قوية، ولربما كانوا يعرضون على نوح صورًا لبعض أهل الله رسموها في مخيلتهم قائلين له: انظر هكذا تكون وجوه أنبياء الله تعالى. ولربما كانت لهذه الصور عدة رؤوس ووجوه، تماما كما يصنع عندنا الهندوس مع تماثيل كبارهم حيث قدّموا “غنيش جي”، وهو أحد كبارهم، في صورة غريبة جداً لها عدة رؤوس ووجوه. ذلك أن الناس في الزمن البدائي جدًا ما كانوا ليقتنعوا بأنه يمكن أن يكون النبي بشرًا مثلهم شكلاً ومظهرًا. ولربما كان أعداء نوح يرقصون فرحًا وابتهاجًا لدى إدلائهم بهذه الحجة، ولكن الواقع أن حجتهم واهية وليس فيها من الوزن والقيمة من شيء.
ثم يتخذ أعداؤه خطوة أخرى دعمًا لحجتهم السابقة حيث يعيّرونه بقولهم (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئَ الرأي)، أي أنك خِلو من قوىً خارقة، فأنت بشر مثلنا، وليس هذا فحسب، بل إن أتباعك أسوأ منا حالاً، فأيّ انقلاب ستحققونه أيها الجهال الأراذل.
ولقولهم: (وما نراك اتبّعك إلا الذين هم أراذلنا باديَ الرأي) عدة معانٍ نظرًا إلى مدلولات مختلقة لكلمة (باديَ الرأي)، نذكرها فيما يلي:
إذا كانت (بادي الرأي) مشتقة من (بدأ يبدأ) ومتعلقة بكلمة (أراذلنا) فالمراد: أن أتباعك، يانوح، ربما يكونون طيّبـي النفوس، ولكنا نجدهم لأول وهلة أراذل مستضعفين، ولعلنا نراهم أحسن حالاً في المستقبل. وهذا أسلوب للكلام يراد به الاستنكار الشديد. وذلك كقول البعض في صيغة الاستفهام: ربما نحن اللئام؟ والمراد: لسنا بلئام أبداً. فالمراد من قولهم أنه لا شك في خِسّة أتباعك ورذالتهم.
أما إذا اعتبرناها مشتقةً من (بدا يبدو) ومتعلقةً بكلمة (أراذلنا) فالمراد أنهم أراذلنا في مظهرهم دونما شك، ولا يبدو لنا من محاسنهم ومزاياهم شيء، وربما تكون أنت وحدك مطّلعاً عليها. وهذا أيضا تعيير بهم.
أما إذا كانت (بادي الرأي) متعلقة بفعل (اتبعك) فالمعنى: أنه لم يتبعك هؤلاء الأرذال إلا اتباعا سطحيًا دونما إدراك وتبصُّر، ولو أنهم فكروا في حقيقة ما تدعوهم إليه لما اتبعوك. وهذا احتقار بشع منهم في حق سيدنا نوح .
وهناك معنىً آخر لهذه الجملة وهو: أنه قد اتبعك هؤلاء اتباعًا ظاهريًا فحسب، ولم يؤمنوا بك من صميم قلوبهم، وذلك طمعًا في بعض المنافع المادية.
ويستمرون في احتقارهم لسيدنا نوح فيقولون: (وما نرى لكم علينا من فضل).. أي أننا نسلّم جدلاً بأن فيكم من المزايا الباطنة والكفاءات الخفية ما أكسَبَكم هذه الحظوة عند ربكم، ولكن أخبِرونا أما كان حريًّا بكم أن تتمتعوا بالعز والجاه بشكل خارق، لأن الذي يفوق أقرانه بمزايا خاصة يصبح غالبًا عليهم، ولكنا لا نرى لكم علينا من شرف ولا غلبة.
ثم ذكروا النتيجة التي توصَّلوا إليها (بل نظنكم كاذبين).. أي أننا واثقون تمامًا أنكم كاذبون، إذ لا دليلَ على ادعائكم بأنكم أهل الحق وأن الله قد فضّلكم علينا.
آهٍ، لقد دَأَبَ أهل الدنيا منذ القدم على أن يقيسوا صدق الأنبياء بمقاييس ابتدعوها بأنفسهم، وحينما لا يجدونهم – في زعمهم – صادقين يجلسون هادئي البال مطمئنين، ظنًا منهم أنهم قد درسوا دعواهم بدون أي تعصب ووجدوها باطلة. وبالرغم مما حققه الإنسان من تقدم مذهل، وبالرغم من مجيء هذا العدد الضخم من أنبياء الله الكرام لهداية الناس إلا أن الإنسان لا يستعد إلى الآن لقياس صدق كلام الله ورسله بالمعايير التي وضعها الله لهذا الغرض، وإنما يريد أن يقيس صدقهم بما اخترعه من عند نفسه من مقاييس زائفة. فكيف يمكن أن يهتدي إلى الحق والصواب بهذه العقلية؟ كلا، ثم كلا.
شرح الكلمات:
نُلزم: ألزَمَ فلانا المالَ والعمل: أوجَبَه عليه (الأقرب)
التفسيـر:
يقول نوح لمعارضيه: افترِضوا – ولو للحظة – أنني بالفعل تلقيتُ من الله البراهينَ والبينات على صدق دعواي وخَصَّني ربي برحمةٍ عظيمة منه، ثم لنفترض أن هذه البينات قد نزلت علي نزولاً يحيطه الغموض والإبهام ولذلك لا تستطيعون رؤيتها، فأخبِروني كيف نشرحها لكم إذن حتى تفهموها، اللهم إلا أن تتدبروا فيها بأنفسكم. إذ لا بد للإنسان – لإدراك حقيقة ما – أن يُعمل فيها فكره ويتدبرها بأسلوب يساعده على تفهُّمها، ولكنكم ترفضونها مِن أول وهلة كارهين حتى الإصغاء إليها، فأَنَّى لكم أن تفهموها إذن، اللهم إلا أن تُجبَروا على ذلك جبراً، وهذا لن نفعله معكم أبدًا.
إن هذه الآية تهدم نظرية الإكراه في الدين من أساسها، إذ تبين أنه إذا كره أحد عقيدة ما فلا يمكن إكراهه على فهمها واعتناقها. كما تخبرنا الآية أن الذي ينظر إلى أمـر مـا نظرةَ كـراهـةٍ بدلاً من أن يسـعى لفحصه ومعـرفة كنهـه فـإنه يبقى محرومًا من الوصول إلى الحق. لذا يجب على من يبحث عن الحق أن يطهّر قلبه من التعصّب دائما ويتعود على البحث الصادق.
شرح الكلمات:
طارِد: اسم الفاعل من طَرَده أي أبعَدَه (الأقرب)
التفسـير:
بعد أن وصفهم نوحٌ بما هم فيه من تعصب وعناد بدأ الآن بتبرئة ساحته مما اتهموه به، فقال: إن العاقل لا يقوم بأي عمل إلا لهدف وغاية. فإذا كنت -كما تزعمون – مفتريًا على الله تعالى فهل ترون أنني أكسب من هذا الكلام المفترى أي منفعة شخصية؟ إنكم تعلمون جيداً أنني لا أطالبكم بأي مقابل أو أجر على ما أدعوكم إليه، فما الداعي – والحال هذه – لأن أقوم بالافتراء أصلاً؟
ربما يقول هنا بعض المعترضين: صحيح أن نوحًا لم يطلب منهم أي مال، ولكنه كان يريد بذلك التسلط عليهم، وما أكثر ما يكذب الناس طمعاً في الحكم!
الواقع أن هذا الاعتراض باطل، لأن أنبياء الله عليهم السلام يكونون أكثر الناس عملاً بما يأمرون به وأسبَقَهم إلى ما يدعون إليه، إذن فلا يمكن أن تُعد حالتهم هذه حُكمًا. وإذا كان لا بد من تسميتها حكومة فإنها حكومةُ خادمٍ فقط، ولا يمكن أن يُعزى صاحبها إلى الجشع والطمع.
وبعد أن برّأ نفسه مما نُسِب إليه أخذ في تبرئة ساحة أتباعه فقال: (أولا) إنهم ما داموا قد آمنوا بي في الظاهر فلا يحق لي أبدًا أن أطردهم بناءً على الشبهات والوساوس. و(ثانيا) ما دمت لا أطالب أحدًا بأي أجرٍ، سواء عندي الثري والفقير، فلماذا أطردهم لفقرهم. إن الإيمان هو أهم شيء عندي وهم أهل الإيمان، وحيث إنهم يملكون أمرًا ذا قيمة في نظري فلا أقيم لقولكم وزنًا بأنهم أراذل القوم.
كما عيّروه أيضًا بأن أتباعه صدّقوه بأفواههم لا بقلوبهم، فردّ عليهم: إنني لا أريد منهم أجرًا، كذلك هم لا يتلقون مني مقابلاً على إيمانهم، فكيف يحق لي إذاً أن أشك في إيمانهم هذا. إنهم ينشدون فضل الله، وهو عالم الغيب، وإنهم ماثلون أمامه في يوم من الأيام. فمن كان صادقًا في إيمانه ظفر بلقاء الله وقُربه، ومن كان زائف الإيمان فأمره بيد الله الذي سيعامله معاملة ملائمة. فلا حاجة لي أن أُقحم نفسي فيما بين العبد وخالقه.
والاعتراض الثالث الذي أثاروه عليه هو قولهم إننا لا نرى لكم علينا من فضل، بل نظنكم كاذبين، وأنكم لئام وأقزام، فرد عليهم بقوله (ولكني أراكم قومًا تجهلون).. أي أنكم لستم مستعدين لقبول الأمر الواقع. إنكم تعرفون جيدًا ما إذا كنت أنا وأصحابي من ذوي الأخلاق الفاضلة أم أننا من أهل الرذائل، وإنكم تعلمون يقينًا ما إذا كنّا صادقين في حديثنا أم كاذبين، ولكنكم تخفون الحق وتتجاهلون الواقع بسبب العداوة والعناد.
إنه لمن سنة الله المستمرة أن كل من اصطفاه الله نبيًا تكون حياته قبل دعواه حياة طاهرة تمامًا بعيدة عن الكذب والريبة، وليس سيدنا نوح بمستثنى من هذه القاعدة الكلية، ولذلك فقد عرض على الكفار هذا الدليل نفسه قائلا: إنكم بأنفسكم شاهدون على صدقي وأمانتي قبل دعواي، فلا شك أنكم ترمونني الآن بالكذب والافتراء ظلمًا وعداءً.
كما تخبرنا الآية أن الذي ينظر إلى أمـر مـا نظرةَ كـراهـةٍ بدلاً من أن يسـعى لفحصه ومعـرفة كنهـه فـإنه يبقى محرومًا من الوصول إلى الحق.
وقد أشار بقوله إنهم ملاقو ربهم إلى أمر هام آخر، حيث قال: إنكم تزعمون أنه لا فضل لأتباعي عليكم، ولكني أحس برؤية وجوههم الوضّاءة أنهم يزدادون باستمرار تقرّبًا وحظوة لدى الله عز وجل. أما أنتم فبما أنكم محرومون من المعرفة الروحانية فإنكم لا تَرون أنوار الإيمان في وجوههم فتقولون وما نرى لكم علينا من فضل ، في حين أن الله لا يزال يشملهم بفضله ويشرّفهم بقربه. وإذا لم تلمسوا آثار الفضل فيهم فالذنب ذنبكم أنتم.
إن المخلوق الغبي لا يرى الفضل والشرف إلا في الأشياء المادية، ولكن أهل الله يرون الشرف الحقيقي فيما يراه الله هو فضلاً وشرفًا. فكان سيدنا نوح ينظر ويفرح بما يحققه أتباعه من قرب الله تعالى، ولكن الكفار كانوا ينظرون إلى طعامهم البسيط وأسمالهم البالية، وهذا البون الشاسع بين وجهتي النظر هاتين ما كان ليوصل إلى نتيجة واحدة، ولذلك نجد الفارق بين الرأيين كما بين السماء والأرض. فكان أحد الفريقين يراهم أراذل مهانين، بينما يراهم الفريق الآخر أشرافًا مكرمين.
وقد يكون قول نوح ولكني أراكم قوما تجهلون دحضًا لزعمهم: بأن أصحابك لم يؤمنوا بك إلا في الظاهر، فأشار بقوله هذا إلى ما كان أصحابه يبذلونه من تضحيات جسام. ذلك أن تصديق النبي في بداية دعواه ليس بأمر هين، بل هو بمثابة القفز في النار. ولذلك نجده يوجه اللوم إلى الكفار ويقول: ألا ترون إلى ما يبذله أتباعي من ثمن باهظ لإيمانهم. فما أشدَّكم غباءً إذ ترون منهم هذا الثبات والصمود والفداء والإخلاص وتظنون أنه تظاهر كـاذب وأنهم لم يؤمنـوا إلا في الظاهر.