- ما حاجتنا إلى اللغة العربية علمًا أن لغة ” العولمة أبعد من أن تكون هي اللغة العربية بل هي اللغة الإنجليزية بإمتياز….” فالأستاذ أسعد عودة يدحض هذا الادعاء
الحَراك الإنسانيّ.. والعربيّة حِيالَ أخواتها اللّغات..
في إطار حديث إذاعيّ أجرِي معي في أعقاب نشاطيَ الكتابيّ المتواضع في مجال اللّغة، عبر أثير الإذاعة الرّسميّة باللّغة العربيّة، طرح المحاور الماهر مسألة ما يُسمّى “العَوْلَمَة”، الّتي يُرى إليها هُويّةَ عصر جديد، وعالم من حولنا متحرّك متغيّر، تلاشت فيه الحدود وكُسّرت القيود؛ هو نِتاج “تفجّر” العلم منذ النّصف الثّاني من القرن الفائت وحتّى السّاعة، بما أفرزه من أدوات لنيل المعرفة، وتحقيق الاتّصال بين البشر، بأسرعَ من لَمْح البصر، من قبيل الشّبكة العنكبوتيّة – أو الشّابِكة – ومتعلّقاتها. وكأنّ مُستضيفي الكريم يسألني، أو علّني أنطِقه فيقول: ما حاجتنا إلى اللّغة العربيّة، علمًا أنّ لغة هذه “العَوْلَمَة” أبعد من أن تكون هي اللّغة العربيّة، بل هي اللّغة الإنچليزيّة بامتياز؛ لا لشيء، إلاّ لأنّ أربابها ودعاتها ومسوّقيها ليسوا العرب، بل العرب فيها هم المُتلقّون السّالِبـون. فأرجو أن أقـول من خلال هذه السّطور ما لم يُسعفني الوقت لقـوله عبر الأثـير.
بادِئ بَدْءٍ، إنّ “العَوْلَمَة” الحقّة – في رأينا – هي، أوّلاً، تلك القائمة على تلاقُح ثقافات وخِبْرات ومعلومات بين شعوب أنداد، لا بين عبيد وأسياد. وهي، ثانيًا، تلك المُتطلّعة إلى خير الإنسان في كلّ زمان ومكان، غير المُتعالية ولا المُتغطرِسة، بل المُعترِفة بمساهمة جميع الشّعوب في رَكْب الحضارة الإنسانيّة، والدّاعمة لحقّ جميع البشر في الحرّيّة والكرامة والاستقلال والتّقدّم والرّقيّ والرّفاه، والمُتطهّرة من النّفْعِيّة المادّيّة وسَطوة المصالح ورأس المال، وبسط الهيمنة والنّفوذ، وفكرة حقّ الأقوى والأصلح في البقاء؛ إذ لا نراها، اليوم، تتعدّى كونها انفتاح الضّعيف على القويّ، والجاهل على العالم، والمُتخلّف على المُتقدّم، والمُستهلِك على المُنتِج، والفقير على الغنيّ، وباختصار: انفتاح العبد على السّيّد! وظنّي أنّنا، نحن – العربَ – الحلْقة الأضعف في هذه السَّيْرورة. ومساهمتنا في كوننا كذلك، أوّلاً، بأنّنا سَوّلت لنا أنفسُنا أن نكون عبيدًا، ورَضِينا بهذه المَنْزِلة، وذنْبنا في ذلك يفوق ذنْب من فرض علينا هذه العبوديّة، سواء أكان من عُودِنا أم من غير عُودِنا؛ أوَلَم نقرأ عليًّا – كرّم الله وجهه – إذ يقول: “الظّالمُ والرّاضي بالظّلم.. سَواء”! كما أنّنا تجاهلنا – هذا على فرض أنّنا قرأناه أو سمعناه، أصلاً – قوله – رضي الله عنه وأرضاه -: “علّموا أولادكم بغير علمكم؛ فقد خُلقوا لزمانٍ غير زمانكم”. ومساهمتنا في كوننا كذلك، آخِرًا، بأنّنا “لبِسنا قشرة الحضارة والرّوح جاهليّة…”؛ أوَلَم يقُل لنا نزار في “هوامشه” “على دفتر النّكسة”:
“خلاصةُ القضيّةْ
توجَزُ في عبارةْ:
لقد لبِسنا قشرةَ الحضارةْ
والرّوحُ جاهليّةْ…”.
ومساهمتنا في كوننا كذلك، أوّلاً وآخِرًا، أنّنا أمّة لا تقرأ!!! فإسرائيل، مثلاً، يُقرأ فيها في العام الواحد خمسة وثلاثون مليون كتاب!!! بينما حصّة الطّفل السّنويّة من القراءة في العالم العربيّ، سطر واحد!!! وما تنشره دار نشر فرنسيّة واحدة يُضاهي ما تنشره دور النّشر في العالم العربيّ كلّه مجتمعة!!! ذلك رغم أنّ النِّتاج البحثيّ العربيّ في مجال اللّغة والأدب فيه، قد بلغ القمّة – مقارنة بالنِّتاج البحثيّ العلميّ المهترئ، أو شبه المعدوم، أصلاً – ورغم أنّ أعداد المُبدعين والمفكّرين الأفذاذ فيه، بعدد حبّات رمل صحاريه، غير أنّ صحراءه الأوسع هي صحراء القراءة القاحلة، رغم بعض الواحات هنا أو هناك؛ فأزمتنا الأكبر والأعمق والأخطر هي أزمة القراءة، الّتي أنذرت – ولا تزال – بالمصيبات والويلات، تلك الّتي أتت، وتلك الّتي لم تأتِ بعد. وقد كان لي أن أشاهد، قبل وقت ما، لقاءً تلفزيونيًّا مع جرّاح القلب الكبير، العالم المصريّ الجليل، العالميّ الصّيت، الأستاذ الدّكتور عادل إمام، وعندما جاء السّؤال عمّا علّم هذا الإنسانُ أولادَه، أجاب بمَحْكِيّته المصريّة: “عَلِّمْتُهُم إلْأخْلاء وِلْإرايَه”. فليت كلاًّ منّا يعلّم أولاده الأخلاق والقراءة، بل القراءة والأخلاق، في هذا السّياق.
وشأن اللّغة في ذلك كلّه أنّها أداة القراءة والكتابة، والاستماع والحديث، والإدراك والفهم والتّفاهم والتّعبير والتّواصل، والإنتاج الفكريّ والعلميّ. وشأن اللّغة العربيّة في ذلك، أوّلاً، أنّها أداة صقل كينونتنا كعرب، بعميق ما يعنيه ذلك، وقد سبقت منّا الإشارة إليه من خلال حلقات هذه الزّاوية. وشأنها في ذلك، ثانيًا، هو تعاملنا بها، لغتِنا العربيّة الزّاخرة، مع ما تفرضه هذه الحداثة والعصرنة و”العَوْلَمَة” من مصطلحات وأدوات وآليّات، بوعي وعلم ومعرفة وإدراك وقوّة، لا بجهل وضُعف وشعور عارم بالنّقص والرّجعيّة والتّخلّف والتّبَعِيّة؛ وحُسن استيعابنا هذا المنتَجَ الأجنبيّ الضّخم – اللّغويّ الاصطلاحيّ المصطلَحيّ، في هذا السّياق – وتعاطيه، انطلاقًا من قاعدة كيانيّة لُغويّة صُلبة، مُدركين معناه ومبناه، وسياقه وجوّه ونبضه وموسيقاه، وأبعاده وتداعياته وإسقاطاته في اللّغة الأمّ، والرّغبة العارمة القائمة على الوعي والمعرفة وحُبّ العلم، في نقل ذلك كلّه إلى اللّغة العربيّة، بأمانة ومِهْنيّة ومَوهَبة وفنّيّة وحِرْفِيّة عالية، وذلك – في هذه المرحلة – هو أضعف الإيمان.
فلماذا، مثلاً، لا يكون “تِـلِفُون” “هاتف”، و”مُوبُل/مُوبايْل” “محمول” أو “نقّال”، و”سِـلْيُولار” “خَلْيَوِيّ” أو “خَلَوِيّ”، و”أنْتِنـا” “هَوائيّ”، و”سْكْرِين” “شاشة”، و”باتِرِي” “بَطّارِيّة (فرنسيّة معرَّبة)” أو “مِرْكَم”، و”باتِرِي تْشارْجِر” “شاحِن”، و”هانْدْز فْرِي تِلِفُون” “ناطِقة”؛ و”أڤِالابُل” “مُتاح”، و”نَتْ أڤِالابُل” “غير مُتاح” أو “خارج الخدمة”؛ و”مِسِيدْج” “رسالة” أو “بلاغ”، و”إسْ.إمْ.إسْ” “رسالة قصيرة”، و”أنْسِرِينْچ مَشِين” “مُجيب”. والقائمة أكبر من المِساحة المُتاحة لي لهذه الزّاوية! ألُغتنا العاجزة، إذًا، أم نحن العاجزون؟!
لَشَدّما يبعث فيّ السّرور ويُضيء فيّ الأمل، تلقّي تعليقاتكم على، وتساؤلاتكم عمّا تطرحه هذه الزّاوية، عبر عُنـوان البريد المُسـجّل أدناه. وإلى لقاء آخر، إن شـاء الله!
الكاتـب دارس عاشـق للّغـة العـربيّة،
مترجم ومحرّر لغويّ / asarabic@gmail.com