ما من قلب رحيم وضمير يقظ وعقل سليم في هذا العالم إلا ويعرب عن قلقه من طغيان المادية على المبادئ والقيم في سلوك الإنسان الحديث وطرق تفكيره ومواقفه، وقد لا يحتاج هذا الأمر دليلا لتأكيده أكثر مما يؤكده واقع عالمنا المعاش في مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفي العلاقات الدولية بين الأمم والشعوب.
لقد استهدفت العقلية المادية أول ما استهدفته القيمَ الروحية والمبادئ حينما جعلت المصلحة المادية على هرم اهتماماتها حتى ولو كانت على حساب المعاني الجليلة والفضائل المثلى؟؟ فالعدل والحق والإنصاف والرحمة والمساواة الخ.. في الميزان المادي قد لا تساوي الكثير إذا ما قيس ذلك بمنظار الربح والخسارة الذي يُنظر إليه نظرة اعتبار وفوقية، وإذا كانت القيمة الروحية هي الرسالة المشتركة بين جميع الشرائع السماوية تعتبر الأخلاقيات والمبادئ أمرا مقدسا من الثوابت، فإن العقلية المادية ترى على خلاف هذا إذ تعتبرها من المتغيرات؟؟
صحيح أن الحضارة الغربية قد بلغت ذروتها في الميادين والاختصاصات العلمية المادية المتعددة ووصلت بها إلى مستويات غير معهودة من قبل من حيث كمها ونوعها إلا أن المفارقة العجيبة في هذا هو أنه بقدر ما تزداد الحضارة المعاصرة اهتمامًا بالماديات إلى أقصى درجة تنحدر من تلقائها أخلاقيا وروحانيا نحو الحضيض في هوة سحيقة من مجاهل الفساد والانحلال؟؟ وما أدل على ذلك ما يسود المجتمعات الغربية الاستهلاكية من متناقضات أخلاقية على الصعيد الاجتماعي، من تفكك أسري وارتفاع في معدلات الجريمة.. أما على المستوى الثقافي الفكري فقد سادت ثقافات جديدة همَّشت دور الفضيلة وأحلت محلها الرذيلة، وبناء على هذه المعطيات التشخيصية المادية الغربية ومدنيتها لا يليق بنا من الناحية الاصطلاحية أن نسميها “حضارة” بما في هذا المعنى من دلالة لغوية ذات معنى لا يستقيم دون أن تتوفر له شروطه، لأن الحضارة تشمل في مكنونها التعريفي المبادئ والأهداف والغايات والمنجزات السامية التي تبني الإنسان ماديا وفكريا لتصل به نحو سبل الرقي والسعادة والسلام. فهل تتمتع الحضارة الراهنة بتلك المواصفات السالفة الذكر؟
وقد مرّت على وجه الأرض حضارات عديدة لكنها لم تكن نموذجية في جوهرها، غير أن الحضارة التي ولّدها الإسلام كانت نموذجا تعريفيا للحضارة والمدنية المؤسسة على التقوى لا على المادية المجردة من القيم، ولا من شعار: الغاية تبرر الوسيلة.
كثير من المعجبين بالمدنية المادية الغربية لا يفرقون بين الحضارة الحقة ومظاهر الحضارة، لذلك نجد البعض يقيّم لنا الحضارة برفاهية العيش وماديته وشعارات إشباع الحاجة دون أدنى اعتبار للقيم والمواقف الأخلاقية التي يجب أن ترافق أي تطور مادي يلازم المادة والروح. فالحضارة الإسلامية التي أشرقت الدنيا بشمس منجزاتها وعطاءاتها والتي علّمت البشريةَ معنى التحضر والمدنية لم تكن لتصل إلى ذلك المقام الرفيع لولا ترسيخ مقاصد الدين الحنيف في فكر المسلمين الأوائل مبادئ أخلاقية جعلتهم يحدثون في كل المجالات والاهتمامات والاختصاصات أعظم انقلاب فكري وعلمي عالمي بحسب ذلك العصر، إذ بلغت دعوته التي جمعت بين المادي والروحي من الحيوية والسمو والطهر والموافقة لروح الإنسانية، والنظريات الاجتماعية والمذاهب الفكرية شأنا شهد به الفلاسفة والمفكرون والاجتماعيون والمشرعون في كل جيل وزمن. فإذا كان خصوم الإسلام المعجبون بالحضارة الراهنة يفتخرون بما لديهم من تقنيات ومعلوماتيات راقية ووسائل تكنولوجية متطورة كدليل على نجاح نهجهم المادي الفكري كنموذج يستدعي فصل القيم والإيمان عن الفكر والسلوك، فإن المعجبين بالإسلام حينما يستذكرون تاريخ الحضارة الإسلامية يَعزُون منجزاتِ هذه الحضارة إلى الإسلام وليس إلى فكر بشري بحت. ونجاح المنهج الرباني في إشباع كل النزعات الفكرية المادية والروحية بشكل متوازن يحقق المصلحة الحقيقية للإنسان كفرد وكمجتمع.
إن عالمنا اليوم يعاني من مادية لا أخلاقية ضربت القيم بعرض الحائط وشوهت المفاهيم الإنسانية النبيلة حتى صار التنادي بصحوة الضمير والفضيلة غوغائية وبنصرة المظلومين والمستضعفين فوضائية وبالتمسك بالشرائع رجعية؟
أين عالمنا من شعاراته الرنانة، أين قوة الخير والسلام والعدالة والإنصاف في التعاطي مع حقوق الشعوب والأمم المنكوبة والمظلومة؟ إنها حضارة مزعومة أو بالأحرى حضارة الدجال الذي أنبأت به نبوءات المصطفى في أبيَنِ وصفٍ وأفصَحِ كلمٍ عن مادية هذه القوة وجورها وسطوتها في الدجل واستنزافها للثروات والخيرات حيثما كانت، وهكذا هي هذه القوة في عصرنا وقد بان دجلها ومعدنها، إذ فرضت على الشعوب الضعيفة المستنزفة رقًّا اقتصاديا وسياسيا بعدما استعمرتها وأنهكت مقومات نهوضها. فأين عدالة الحضارة المعاصرة من عدالة الإسلام التي حرّمت الاستعباد والطغيان والاستغلال في شتى صوره؟ ومتى سوّغت حضارة الإسلام ومدنيته إزهاق الأرواح، وانتهاك الحرمات مثلما تفعل الحضارة الراهنة، كلما تعارضت مصالحها المادية مع مصالح ومواقف الشعوب. كما أنه لم يرد في التاريخ أن حضارة المسلمين مع مجدها وقوتها دمرت المدن أو حاصرت البلدان لتفتك بحياة الأطفال والمرضى والكهول، أو لإزهاق أرواح المدنيين بلا حساب في حروب تقودها حضارة دول الدجال الراهنة بما يعجز العقل عن تصور هولها وفظاعتها. فالإنسانية اليوم ما زالت على ما يبدو في ناحية من نواحي تفكيرها وسلوكها أقرب إلى عصور الماضي الذي يفتك القوي فيه بالضعيف، بالرغم من مظاهر التقدم والمعاصرة التي تتحدث عنها، وهذا لأن العقلية المادية وسلوكيتها هي حالة أخلاقية لا ترتبط بزمان ومكان، وقد نجد آثارها في حضارات قديمة عند البحث في أسباب سقوطها أو انهيارها. لقد رسم الإسلام الجليل للإنسانية جمعاء المنهج السليم في التفكير والسلوك عقيدة ومسلكا، وهذب النفس وجعل الأخلاق والقيم لبنة لأي تقدم حضاري سليم وعادل، وقد مرّت على وجه الأرض حضارات عديدة لكنها لم تكن نموذجية في جوهرها، غير أن الحضارة التي ولّدها الإسلام كانت نموذجا تعريفيا للحضارة والمدنية المؤسسة على التقوى لا على المادية المجردة من القيم، ولا من شعار: الغاية تبرر الوسيلة. فعلى أمتنا الإسلامية إن أرادت أن تسترجع عزتها ومجدها أن تتمسك بخير زاد وهو التقوى عسى أن تتحقق لها العزة الحضارية من جديد وتعطى للدنيا نموذجا من الحضارة الحقة ذات القيم والأخلاق. هذا الوازع الذي طالما افتقده عالمنا الذي يعاني أزمة قيم ومبادئ.