يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث

من كلام الإمام المهدي

الحمدُ للهِ الذي نوّر عيونَ المؤمنين بمصابيح الإيمان، وأيّد قلوب العارفين بفهم دقائقِ العرفان، وألْهمَهم نكاتٍ وأسرارًا وعلـومًا ما يُلقّاها إلا من أُوحِيَ مِن الرحمن. وجعلهم شموس الأرض وحُجج الدِّين وحِرْز الأمان. وأضرمَ في الخافِقَيْن نارهم وبلّغ أذكارهم في الآفاق والأحْضان. وجعلهم منهلاً لا يغور، ومتاعًا لا يبور، وجعل أعداءهم كعصْفٍ مأكولٍ، أو كقِرْفٍ سقط من الإِهان. وجعلـهم أسْعدَ ناسٍ لا يرهقهم ذلّةٌ ولا يغشاهم دخان، ولا يضرّهم طعنُ المِطْعان. قد هاجروا الأوطان، وتبتّلوا إلى الله الرحمن. بهر قمرُهم، وثرّ ثمرُهم، وكان معاداتُهم عنوان النحوس، وإيذاؤُهم لباس ذي البُؤس، وشِعار الشّقيِّ الـمرْقعان. فنحمد الله على آلائه الذي أرسل عُرفاءَه وخلفاءه وأولياءه لتخليص الناس مِن نعاس الغفلة وأيدي الشيطان. الذي طهّر الأنفاسَ من رجس الأوثان، ووضَع الفأسَ على أشجار الخبث والعصيان. الملِك الحكيم الودود، الذي خلق الشمس والقمر لتنوير ظاهرِ العالَمِ، وخلق الأنبياء والرسل والمحدّثين لتنوير بواطن نوعِ الإنسان، وأقام الشريعة وأدخل في أُخْراتِها فُحول الوقتِ ومَصاليت الدوران. سبحانه، ما أعظمَ شأنَه! هو مرسِلُ الرُّسلِ ومسهِّلُ السُّبلِ ومؤسِّس الأديان، ومُتِمُّ الحجّةِ في كلّ أوان، وكلّ يوم هو في شانٍ. خبع الأسرار وأترعَها في كلّ عين من الأعيان، فبأَيِّ أسرارِه يحيط الإنسانُ. لا تقعدوا في خيمة العقل وحده وقد سقط البُوانُ، واسْعوا إلى الله بإمحاضِ الطاعة وإخراجِ غيره عن الجَنان. ويلٌ لكلِّ جامدٍ سامدٍ عقر النفس وأبار، وطُوبى لِمنْ سنّ وسار، وجاهد في سُبُل الرحمن. والصلاة والسلام على سيدِ رسله وخاتمِ أنبيائه وإمام أوليائه وسُلالة أنواره ولُبابِ ضيائه.. الرسول النبيّ الأُمّـيّ المبارك.. الذي سدّد للرَّعاع، وشفى الأنعام من الـدُّكاع، وبيّن للأتباعِ أحكام الفرقان بأحسن البيان، وفجّر ينبـوع نفثاته كالرِّثانِ، وأتى بالكتاب الذي فيه لكلِّ أَكُولةٍ مرعى وزُلالٌ لكلّ عطشان. وأخرجَ الأجِنّة من ظلماتٍ ثلاث: شـركٍ مطوِّحٍ من الجِنان، وأعمالٍ محرقةٍ في النيرانِ، وأخلاقٍ مقلِّبةٍ من الفطرة الإنسيّة إلى طبائعِ السِّباع والثعبان. الناصح الموقظ الذي أشفق على الناس كلّ الإشفاق، وأذهب الوسنَ من الآماق، وأعطى الأفْرُخَ الضعيفة قُوتَ الزفيفِ والطيران. وهدى الناس إلى أهدى سبيلٍ، وأطرد النفوس بين وَخْدٍ وذَميل. وجعل الأُمّـة أمّـةً وسطًا سابِقَ الأممِ في اللمعان كأنها الأزْهرانِ، وجذبهم بقوّته القدسيّة حتى أصحبوا لـه أطْوعَ مِن حذائه في كل موطنٍ وميدان. وكمّل النفوس وربّى الأشجار حتى استأثر الثمرُ وتسمّنَ ومالت الأغصانُ. فدخلوا في دين الله مجدِّين شارين أنفسهم ابتغاءَ مرضات الله الرحمن. وزُلزِلوا زلزالاً شديدًا حتى ضاق الأمر عليهم والتقتْ حلقتا البِطانِ. فارتحلوا مدلجين راضين بقضاء الله على ضعفٍ من المريرة، حتى أشرقتْ عليهم شمسُ نصر الله ونزلوا فرِحين برَوحٍ وريحـان. ودخلوا في حضرة الله بجميع قوّتهم، وكسروا قيودًا عائقةً، وأوثانًا مانعةً من ذلك الإيوان. وجعلوا نفوسهم عُرضةً لمصائب الإسلام، ونسوا كلَّ رُزءٍ سَلَفَ قبل هذه الأحزان. وباتوا لِربّهم سُجّدًا وقيامًا، وما طعموا النوم إلا مثاثًا من الأوان. وفنوا في اتّباع رسول اللهِ، وما أبدعوا وما خرجوا في استقراء المسالك مِن كلام الله الحنّـان، واقتحموا كلَّ مَخوفةٍ لدين الله الرّيّان. وقطعوا للهِ ورسوله مِن كلّ وليّ وحميم، حتى برّزوا السيوف من الجِفان، وآثروا أسمالاً على ألبسةِ تنعُّمٍ ودلال، ونضَّوا عنهم لذّة البطن ورَوْح البال، وقنِعوا بالحميم من الزُّلال، وتراءت الدنيا في أعينهم كالإِران. واتّقَوا الله حقّ التّقاة في الأفعال والكلمات، وفزِعوا مِن فتن اللُّسْن وحصائد الألسنة، حتى صاروا كبِكْرٍ خَفِرةٍ في إيثار الصمتِ وكفِّ اللسان، وحذوا مثال رسولِ الله في أقوالهم وأفعالهم، وحركاتهم وسكناتهم، وأخلاقهم وسِيرِهم، وعِمارةِ الباطن والاقتـيان. فأعطاهم الله قلبًا متقلّبًا مع الحق، ولسانًا متحلّيًا بالصدق، وجنانًا خاليًا من الحِقْد والغِلِّ والشّـنآنِ. رضِي الله تعالى عنهم وأحلّهم جنّاتِ الرضوان. ندب إلينا ذِكرهم بالخير، إنهم برهان رسالة سيدِنا وحجةُ صدق مولانا ونجومُ الهدى ووسائل الإيقان. كلُّ واحد منهم أوذيَ في سبيل الله، وعُنِّيَ فيما وُلِّيَ، وخُوِّفَ بالسّيف والسِّنان. فما وهنوا وما استكانوا حتى قضوا نحبهم وآثروا المولى على وُجودٍ فانٍ. تلك أُمّةٌ روحانية وقومٌ موجَعٌ لخدِينٍ أحبِّ الأخـدانِ.

فأيها الناس، صـلُّوا وسلِّموا على رسولٍ حُشِرَ الناس على قدمِه، وجُذِبوا إلى الربّ الرحيم المنّان. الذي أخرج خَلْقا كثيرا من الـمفاوز المهلـكة المبرحة إلى روضاتِ الأمن والأمان، وشجّع قلوبًا مزءودة، وقوّى هِممًا مجهودة، وأبدع أنوارًا مفقودة، وجاء بأبْهى الدُّررِ واليواقيت والمرجان. وأصّل الأُصول وأدّب العقول، ونجّى كثيرًا من الناس من سلاسل الكفر والضلالة والطغيان. وسقى المؤمنين المسلمين الراغبين في خيره كأس اليقين والسكينة والاطمئنان، وعصمهم مِن طُرق الشرّ والفساد والخسران، وهداهم إلى جميع سبل الخير والسعادة والإحسان. ومِن جملة مِننِه أنه أخبرنا مِن فتن آخر الزمان، ثم بشّرنا بتأييدٍ وتداركٍ من الربّ المنّان.

اللّهمّ فصلِّ وسلِّمْ على ذلك الشفيع المشفَّـع المنجي لنوع الإنسان، وأيِّدْنا أن ننتجع ونستفيض مِن حضرة هذا السلطان، ونجِّنا به مِن شرِّ كلّ يدٍ قاسطةٍ، بالجور باسطةٍ، ومِـن علماء يسعون لتطلُّبِ مَثالبِ الإخوان، وينسون معائبهم كلّ النسيان. لا يحصر لسانُهم عند السبِّ واللّعن والطّعن والبهتان، ولكن يحصر عند شهادة الحقّ وبيان الحقيقة وإقامة البرهان. يعظون ولا يتّعظون، ويدَعون ولا يَدْعون، ويقولون ولا يفعلون، ويُفسدون ولا يُصلحون. ويشُقُّون ولا يحُوصون، يُكفرون بغير علم ولا يخافون. ويحثّون الناس على الخير وهُمْ على شرِّهم راصعون. ويقولون للمؤمنِ: لستَ مؤمنا، ولا يبالون مِن أخْذ الله تعالى ولا يتفكرون. اللّهمّ فاحفظْنا من فتنتهم وبرِّئْنا من تُهمتهم، واخصُصْنا بحفظك واصطفائك وخيرِك، ولا تَكِلْنا إلى كلاءةِ غيرك، وأوزِعْنا أن نعمل صالحًا ترضاه. نسألك رحمتك وفضلك ورِضاءك، وأنت خيرُ الراحمين.

ربِّ كُنْ بفضلك قوّتي، ونور بصري وما في قلبي، وقِبلة حياتي ومماتي. واشْغَفْـني محبّةً، وآتِني حُبًّا لا يزيد عليه أحد من بعدي. ربِّ فتقبّلْ دعوتي وأعطِـني مُنْـيتي، وصافِـني وعافِـني، واجذِبْـني وقُـدْني، وأيِّدْني ووفِّقْـني، وزَكِّـني ونَـوِّرْني واجـعلْني جميعًا لك، وكُنْ لي جميعًا.

ربِّ تعـال إليّ مِن كلّ باب، وخلِّصْني من كلّ حجاب، واسْـقِـني من كلّ شراب، وأَعِـنّي في هيجـاء النّفْسِ وجذباتها، واحفظْـني مِن مَهالِكِ البينِ وظلماتها، ولا تَكِلْني إلى نفسي طُرْفـةَ عين، واعصِمْـني من سيّئاتها، واجعلْ إليك رفعي وصعودي، وادخُـلْ في كلّ ذرّة من ذرّات وجودي، واجعلْني من الذين لهم مسْبحٌ في بحارك، ومسْرحٌ في رياض أنوارك، ورِضاءٌ تحت مَجاري أقدارك، وباعِدْ بيني وبين أغيارك.

ربِّ بفضلك وبنورِ وجهك أَرِني جمالك، واسْقِني زُلالك، وأَخرِجْني من كل أنواع الحجاب والغبار، ولا تجعلْني من الذين نُكسوا في الظلمة والاستتار، وتَناهوا عن البركات والإشراقات والأنوار، وانقلبوا بعقل• الناقصِ وجَدِّهم الناكصِ مِن دار النعيـم إلى دار البوار. وارزُقْـني إمحاض الطاعة لوجهك، وسُجودَ الدوام في حضرتك، وأعطِني همّةً تحلّ فيها عينُ عنايتك، وأعطِني شيئا لا تعطيه إلا لوحيدٍ من المقبولين، وأنْـزِلْ عليّ رحمةً لا تنـزلها إلا على فريد من المحبوبين.

ربِّ أَحْيِ الإسلام بجهدي وهمتي ودعائي وكلامي، وأَعِدْ بي سحْنتَه وحِبْرَه وسِبْرَه، ومَزِّقْ كلَّ مُعانِدٍ وكِبْرَه. ربِّ أرِني كيف تُحيي الموتى. أرِني وُجوهًا ذوي الشمائل الإيمانية، ونفوسًا ذوي الحكمة اليمانية، وعيونًا باكيةً من خوفك، وقلوبًا مقشعِـرّةً عند ذكرك، وأصلاً نقيًّا يرجع إلى الحق والصواب، ويتفيّأُ ظِلالَ المجاذيب والأقطاب، وأرِني عرائِكَ ساعيةً إلى المتاب والإعداد للمآب.

ربِّ ظهر الفساد في البرّ والبحر، والعمارات والصحراء، وأرى عبادَك في البلاء، وحيطانَك بالبيداء، ودينَك في البأساء والضرّاء، وأرى الإسلامَ كمحتاجٍ تَرِبَ بعد الإتراب، أو كشيخٍ مرتعش تباعدَ من زمان الشباب، أو كشُذّاذِ الآفاقِ، أو كغريبٍ تناهى عن الرِّفاق، أو كحُرٍّ ابتُلِيَ في الإرقاق، أو كيتيمٍ سقط من الآماق. يميس الباطلُ في بُرْدِ الاستكبار، ويُلطَمُ الحقُّ بأيدي الأشرار. يسعون لإطفاء نوره سَعْيَ العفاريت، واللهُ خيرٌ حافظًا ومَـنْ لنا غير ذلك الخِـرِّيت؟ انْتهى أمرُ الدينِ إلى الكساد، وثارتْ بالأحداث حصْبةُ الفساد وجُذامُ الارتداد. خرجوا مِن قيود الشريعة الغرّاء، ونبذوا أنفسهم بالعراء. تركوا أسوةً حسنةً، واتّخذوا الفلاسفة الضالّة أئمّـةً، واستحْلَوا كلامهم واستجادوا أوهامهم، وأُشرِبوا في قلوبهم عِجْلَ خيالاتِ  اليوْرفِين، وما هم إلا كجسدٍ له خُوار، وما شمُّوا عرْف العارفين.

وأيْمُ اللهِ، قد كنت أُقمتُ مِن الله لأجدّد الدين بإذنه، وأجدعَ أنْفَ الباطل مِـن مارِنه، وأُمـرتُ لذلك من الله القدير البديع، فلبّيتُ دعوته تلبية المطيـع، وبلّغتُ أوامره وبذلت فيها جهد المستطيعِ. فارتاب القوم بعَزْوتي، وأبوا تصديق دعوتي، وسُبِرَ فيه غورُ عقلهم ودعوى نقلهم. فاشتعل المبطلون، وظنّوا بي الظنون، ونهضـوا إليّ بالتكفير، وما لهم بذلك مِن علمٍ مثقـالَ القِطْمير. دخلوا فيما لم يعلموا، وأخذوا اللعن شِرعةً، ولم يفتّشوا حقيقةً. وكلُّ ذلك كان مِن لهبِ الغِلِّ، أَخَذَهم كداءِ السلِّ.

وأما أنا فما كنتُ أن آبى مِن أمر ربّي، أو أفتري عليه مِن تلقاء نفسي. هو محسني ومنعمي. أسبغَ عليّ مِن العطاء، وأتمّ عليّ من كلّ الآلاء، وأعطاني توفيقًا قائدًا إلى الرشد، وفَهْمًا مُدرِكًا للحقّ، وآتاني ما لم يُؤْتَ أحدٌ من الأقران، وإنْ هي إلا تحديث بآلاء الرحمن. هو كفلني وتولّى، وأعطى ما أعطى، وبشّرني بخير العاقبة والأُولى، ودنا مني وأدنى، وحمدني مِن عرشه ومشى إليّ، ورفعني إلى السماوات العُلى. وتلك كلها من بركات المصطفى، الظلُّ بأصله اقتدى، فرأى ما رأى. فالآن لا أخاف ازدراءَ قادحٍ، ولا هَتْكَ فاضحٍ، وأفوّض أمري إلى الله. إِنْ أكُ كاذبًا فعليّ كذبي، وإنْ أَكُ صادقًا فإن الله لا يضيع أمر الصادقين. (دافع الوساوس)

Share via
تابعونا على الفايس بوك