سيرة المهدي - الجزء 2 الحلقة 28
  • مناظرات حضرته بعد إعلانه أنه هو المسيح الموعود
  • اجتماع طرفي المناظرة يوم 20.10.1891
  • إصرار المسيح الموعود على أن يكون موضوع النقاش حول حياة عيسى عليه السلام
  • تحريض المشايخ الدهماء ضد حضرته
  • نجاته بفضل الله تعالى من الغوغاء

__

 

تحت عنوان «أسفار حضرته ومناظراته بعد إعلانه أنه هو المسيح الموعود» –  الرواية  رقم 420 – ذكرنا في عدد الشهر الماضي سفر حضرته إلى لدهيانة وأمرتسر ثم دلهي. وقد انتهى بنا المطاف إلى قبول حضرته المناظرة مع المولوي نذير حسين وألقينا الضوء على أجواء الفوضى والغوغاء التي أوجدها المعاندون.

نقدم لكم في ما يلي تتمة الرواية. (التقوى)

 

لقد دعا حضرته المولوي نذير حسين إلى المناظرة مخاطبا إياه بكلام يثير حَمِيَّته، فتقرر أن يجتمع الطرفان في 20 أكتوبر 1891 في المسجد الجامع في دلهي فإما أن يتناظرا حول قضية حياة المسيح الناصري ومماته، أو يسمع المولوي نذير حسين في المجلس العام أدلة المسيح الموعود في هذه القضية، ثم يقسم بالله ويقول إن هذه الأدلة باطلة، ويثبت من القرآن الكريم والحديث النبوي الصحيح المرفوع والمتصل أن المسيح الناصري حيّ وموجود في السماء بجسده العنصري وسينـزل إلى الأرض بهذا الجسد نفسه، ولو لم ينـزل بعد هذا القسم، على المولوي نذير حسين عذاب واضح من الله خلال سنة واحدة، لاعتُبر حضرته كاذبًا في دعواه.

وعليه فقد اجتمعت آلاف مؤلفة من الناس في المسجد الجامع بدلهي في 20 أكتوبر 1891 وخُشِيَ من وقوع فتنة في المدينة، فأشار بعض الصجابة على حضرته إزاء هذه الفتنة الموشكة ألا يذهب إلى محل المناظرة نظرا إلى نوايا أهل المدينة، التي لا تبدو حسنة على الإطلاق، فقال حضرته: لا يسعنا التراجع الآن، لأننا نحن من وجهنا هذه الدعوة وجعلنا اللعنة على من يتأخر عنها، وعليه، فمهما بلغت خطورة الظروف، سنذهب على أيَّة حال متوكلين على الله تعالى وحفظه. فوكَّل حضرته بعض الإخوة  بحراسة البيت وغادر، وكان يرافقه إذَّاك 12 من أصحابه، وذهب حضرته معهم في السيارات. فلما وصل إلى المسجد كان الآلاف مجتمعين هناك، وعلى أكثرهم أمارات حمِيَّة الجاهلية. تقدّم حضرته مخترقا هذا الحشد من الناس هو ورفاقه الاثنا عشر حتى وصل إلى محراب المسجد، وكان الناس ينظرون له وتكاد قلوبهم تتميز من الغيظ، ويتطاير من أعينهم الشرر، فلو لم تكن الشرطة هنالك لصدر منهم حتما ما لا يليق من التصرفات، ولكن ظل ضابط الشرطة، الذي كان أوروبيا، متحكّمًا في زمام الأمور، باذلا جهدا جهيدا وسعيا حثيثا للحيلولة دون وقوع مفسدة. وبعد قليل وصل المولوي سيد نذير حسين مع تلميذه المولوي محمد حسين البطالوي والمولوي عبد المجيد وغيرهم، وقد أجلسهم رفقاؤهم في بهوٍ قريب من المسجد. وخلال تلك الأثناء حانت صلاة العصر.  وبما أن حضرته كان قد جمع صلاتي الظهر والعصر في بيته مع رفقائه، فلم يشترك معهم في الصلاة عندما قامت. بعد الصلاة أخذ الناس يتكلمون عن شروط المناظرة وقالوا ينبغي ألا تكون المناظرة حول موضوع حياة المسيح الناصري ومماته بل ينبغي أن تكون حول ادعاء مرزا صاحب بكونه مسيحًا. لقد قال لهم حضرته إن تغيير موضوع المناظرة لن تكون عواقبه محمودة، وذلك لأنه قد ترسخ في أذهان الناس أن عيسى لا يزال حيًّا وموجودًا في السماء وأنه سينـزل إلى الأرض في الزمن الأخير، لذا سيكون البدء في قضية أخرى دون الانتهاء من القضية المذكورة أولا مضيعة للوقت. فإذا كان المقعد الذي يدعي حضرة المرزا الجلوس عليه ليس فارغًا عند الناس بل يجلس عليه المسيح الناصري فمن العبث النقاش حول ادعاء حضرته بكونه مسيحًا موعودًا، وذلك لأنه لا يمكن لأحد أن ينتبه إلى ادعاء حضرة المرزا وهو يؤمن بحياة المسيح الناصري. فلا يبدأ النقاش حول ادعاء حضرة المرزا كونه مسيحًا موعودًا إلا إذا ثبت خلوّ هذا المقعد وشغوره. لقد أدرك أهمية هذا الأمر ضابط الشرطة الإنكليزي، فحاول إفهام الناس أن ما يقوله «السيد المرزا» هو الصحيح، أي ينبغي أن يكون النقاش أولا حول حياة المسيح الناصري ومماته، إلا أن المشايخ لم يرضوا بذلك وأثاروا الشغب والضجيج. ثم دار الحديث حول حلف المولوي نذير حسين اليمين على بطلان الأدلة التي سيقدمها المسيح الموعود ، إلا أن المشايخ رفضوا ذلك متذرعين بحجج واهية. لقد كانت تسود الناس حالة عجيبة من الاضطراب والغيظ والغضب، وكان كل من هب ودب يدلي بدلوه، ولا يمكن الإصغاء لصوت أو فهمه وسط هذا الصخب واللغط…..

وفي هذه الأثناء جاء أحد أعيان عليغرهـ، السيد محمد يوسف، وكان قاضيًا فخريًا أيضا، وقال لحضرته: لقد كثر الحديث بين الناس عن مخالفة عقيدتك للإسلام. فإن لم يكن الأمر كذلك فاكتب ما تعتقد حتى أقرأها بصوت عال على الملأ، فكتب حضرته فورًا: إنني مسلم أؤمن برسالة النبي وأؤمن بشريعة القرآن أنها آخر الشرائع، ولا أنكر أية عقيدة إسلامية أخرى، وما إلى ذلك. إلا أنه يثبت عندي من القرآن الكريم أن المسيح الناصري الذي كان رسولا إلى بني إسرائيل قد مات.

وحاول محمد يوسف كثيرا أن يقرأ ما كتبه حضرته بصوت عال جدًّا، إلا أن محاولاته راحت أدراج الرياح، إذ ما كان المشايخ الخبثاء الطوية ليسمحوا له أن يقرأها، فقد حرَّضوا القوم ونفخوا في نار غيظهم وغضبهم. فلما أحسَّ ضابط الشرطة بأن انفلات زمام السيطرة على غيظ الناس بات وشيكا، أمر معاونيه بتفريق الجموع، فأعلن هو والقاضي الفخري السيد محمد يوسف بصوت عال إلغاءَ المناظرة، ويغادر الجميع المكان، وبالتالي أخذ عناصر الشرطة يفرّقون الناس، فكان المولوي نذير حسين وتلميذه والمشايخ الآخرون معه أول المغادرين، لأنهم كانوا جالسين بالقرب من الباب، فاغتنموا هذه الفرصة وذهبوا. وعندما خلا المسجد من معظم الناس قام حضرته وخرج، وكان عدد كبير من رجال الشرطة حوله. فلما وصل حضرته إلى الباب الشمالي للمسجد أخذ خدام حضرته يبحثون عن العربات التي كانوا قد استأجروها ودفعوا أجرة الذهاب والإياب سلفًا، ولكنهم فوجئوا بمغادرة العربات بعد إقناع الناس أصحابها بالمغادرة، وحالوا دون اقتراب أية عربة أخرى من المكان. وهكذا ظل حضرته منتظرا إلى ربع ساعة على الباب. وفي هذه الأثناء حاول حشد من الغوغاء الوصول إلى حضرته بنية الإيذاء. كان ضابط الشرطة رجلاً يقظًا ونشيطًا فنصح حضرته باستقلال سيارته فورًا والاتجاه نحو بيته لأن نوايا الناس تنذر بالشر. فاستقل حضرته والمولوي عبد الكريم السيارة وغادرا، أما البقية فقد لحقوا بهما سيرا على الأقدام.

وكان في هذه المناسبة مع حضرته المولوي عبد الكريم السيالكوتي، وسيد أمير علي شاه وغلام قادر فصيح، ومحمد خان الكفتهلو، والحكيم فضل دين البهيروي وبير سراج الحق وستة أصحاب آخرون.

بعد هذا الحادث الذي حصل في المسجد الجامع، تمت في بيت حضرته مناظرة كتابية بين حضرته وبين المولوي محمد بشير البهوبالوي، وتقرر فيما بينهما أن كلا من الطرفين سيتقدَّم بخمسة بيانات، ولكن لما رأى المسيح الموعود أن المولوي محمد بشير لا يقدّم أي دليل جديد، وأخذ يعيد تلك الأدلة القديمة التي أبطلها حضرته سلفًا، أنهى حضرته هذا النقاش على ثلاثة بيانات فقط بعد إخباره الطرف الآخر بأن استمرار المناظرة بهذا الأسلوب ليس إلا تضييع للأوقات، ولم يبالِ في ذلك بطعن الطرف المعارض واستهزائه. ولقد نشرت هذه المناظرة تحت عنوان: «الحق مناظرة دلهي»، ويمكن للقراء ملاحظة أن حضرته قد أنهى النقاش حين نفد كل ما كان عند المولوي محمد بشير، ولم يكن يحاجج إلا بالأمور المتكررة.

الحق أن الأنبياء والمرسلين لا يبتغون كسب الصيت في العالم، وإنما بُغيتُهم إرساء الصدق في العالم، وهم يضحون بكل نفيس في سبيل تحقيق هذا الهدف. إنّ عزّتهم كلها بيد الله تعالى، فلا يكترثون بعزة الدنيا وصِيتها، وعندما يركلون جميع أنواع العزة الدنيوية وصيتها لوجه الله، يُعِزهم الله تعالى من عنده، ويُكلَّلون بعزة الدين والدنيا معا.

كلما أقرأ الواقعة التالية أشعر بتيار عجيب من اللذة والسرور يسري في داخلي، و يتراءى لي مشهد عجيب لغيرة الله القدوس ومحبته ووفائه وتكريمه لعبده

لقد رُويَ أنه قبل إعلان حضرته عن كونه مسيحًا موعودًا، دعاه بعض الناس للنقاش مع المولوي محمد حسين البطالوي حول بعض القضايا المختلف فيها بين الحنفية والوهابية، وقد احتشد الكثير من الناس لسماع هذا النقاش. ألقى المولوي محمد حسين كلمة بثّت في الناس حماسًا عجيبًا، فتحولوا إلى آذان مصغية للاستماع لردّ حضرته، إلا أنه لم يردّ على ذلك إلا بقوله: لا أرى شيئًا يمكن الاعتراض عليه فيما قاله المولوي محمد حسين، لذلك لا أريد أن أقول شيئا ردًّا عليه، لأن هدفي هو إحقاق الحق لا اللجاج الذي لا طائل منه. يمكن تصور اليأس الذي ولّده ردُّه في الناس، وموجة الاستهزاء التي صدرت منهم، إلا أن حضرته لم يبال بصيته ولا بتشوه اسمه وسُمعته مقابل قول الحق، وسمع أقوالا من قبيل: إنه جبُن، وهرب، وذُلّ وأهين، غير أنه قام من هناك وغادر. إن هذه الهزيمة التي رضي بها عبد الله هذا لوجهه سبحانه وتعالى أصبحت أحبّ إليه من جميع الانتصارات، ولم تكد تمضي على هذا الحادث ليلة واحدة إلا وأوحى الله تعالى إلى عبده هذا وحيًا معناه: لقد رضي ربّك بفعلك هذا، وسيباركك بركاتٍ كثيرةً حتى إن الملوك سيتبركون بثيابك. ثم أُري حضرته في الكشف هؤلاء الملوك أيضا وكانوا يمتطون صهوات الجياد، وكانوا سبعة. ولعلّ في ذلك إشارة إلى أن الملوك من القارات السبع سيدخلون في جماعته ويتبركون به.

إنه تجل للغيرة والمحبة الإلهية والوفاء الإلهي وإنعام الله تعالى على المتواضعين، ولم يكن الأمر مقتصرًا على حضرته، بل كل من أنشأ مع الله صلة لا تشوبها شائبة نفسانية وكانت لوجه الله فحسب فسيجد الله تعالى رحيمًا وعطوفًا على النحو المذكور. لأنها سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

باختصار، كان المسيح الموعود قد أنهى النقاش مع المولوي محمد بشير على ثلاثة بيانات فقط بدلا من خمسة، ثم غادر دلهي في اليوم نفسه ووصل إلى بتياله حيث كان جدّنا لأمنا مير ناصر نواب موظّفًا، ونشر من هناك في 31 أكتوبر 1891م إعلانًا دعا فيه المولوي محمد إسحاق للمناظرة حول قضية وفاة المسيح الناصري وحياته، إلا أنه لم تُعقَد أية مناظرة هناك، فغادر حضرته قافلا إلى قاديان، ولكنه عزم على السفر مرة أخرى في 1892م فسافر إلى لاهور أولا حيث ألقى خطابًا في الجمهور في 31 يناير، وعُقِدت مناظرة بينه وبين المولوي عبد الحكيم الكلانوري وانتهت في 3 فبراير 1892م. سافر حضرته من لاهور إلى سيالكوت ومن هناك إلى جالندهر ثم إلى لدهيانه ومن ثم إلى قاديان.

وهكذا انتهت هذه الأسفار، وكانت أولى أسفاره بعد إعلانه كونه مسيحًا موعودًا.

ثم خرج حضرته من قاديان في مايو من عام 1893م فخاض مناظرة خطية مع عبد الله آتهم المسيحي في أمرتسر، وقد نشرت تفاصيلها في كتاب «الحرب المقدسة»، لقد بدأت هذه المناظرة في 22 مايو 1893م وانتهت في 5 يونيو 1893م، وفي البيان الأخير أنبأ حضرته بإعلام من الله عن آتهم، والذي لقي مصيره تحقيقا لهذه النبوءة. وخلال هذه الأيام باهل حضرته المولوي عبد الحق الغزنوي في 10 ذي القعدة 1310هـ الموافق لـ 27 مايو 1893م في مصلى العيد بأمرتسر، مع أن حضرته قد دعا في إعلانه المنشور في 30 شوال 1310هـ جميع مكفّريه من العلماء والمشايخ المشهورين في الهند كلها إلا أنه لم ينبرِ منهم للمبارزة إلا المولوي عبد الحق الغزنوي.

(وللتفاصيل يرجى الرجوع إلى تأليفات حضرته التالية: إزالة الأوهام، والحق مناظرة لدهيانه، والحق مناظرة دلهي، والحرب المقدسة. والإعلانات التالية: الإعلان بتاريخ 30 شوال 1310هـ، وبتاريخ 9 ذي القعدة 1310هـ، والإعلان بتاريخ 2 أكتوبر و6 أكتوبر، و17 أكتوبر، و23 أكتوبر 1891م، والإعلان بتاريخ 28 يناير و3 فبراير و17 مارس 1892م.

كما يمكن الاطلاع على المراسلة بين حضرته وبين مير عباس علي بتاريخ 6، 7، 9 مايو 1892، وتذكرة المهدي الجزء الأول وسيرة المسيح الموعود تأليف الخليفة الثاني أيده الله بنصره)

والجدير بالذكر هنا أنه لم تحدّد مدة للفصل في هذه المباهلة، كما لم يدعُ حضرته على الفريق المخالف له، إنما دعا بالآتي: إن كنت كذابا ومفتريا فلينـزل الله تعالى عليّ اللعنة والعذاب الذي لم ينـزله على أحد من الكفار من لا إيمان لهم منذ بدء الخلق.

لقد نشر ذلك حضرته قبل المباهلة في إعلان له بتاريخ 9 ذي القعدة 1310هـ الموافق 26 مايو 1893م قائلا: سأدعو مثل هذا الدعاء عن نفسي فحسب.

وبدهي ذلك الرقي والازدهار الذي أناله الله تعالى حضرتَه بعد هذه المباهلة.

ثم نشر حضرته إعلانًا آخر للمباهلة في 1896 في كتابه «عاقبة آتهم»، وقد حدّد حضرته فيه مدة عام وتحدّى فيه قائلا: إن تعرضت للعذاب الإلهي خلال هذه المدة أو إذا نجا واحد من المباهلين من عذاب الله غير العادي ولو كان عددهم يبلغ الألوف فسأُعْتَبر كاذبًا. ولقد أثار حضرته حَمِيَّةَ المشايخ بكلمات مؤثرة، إلا أنه لم يخرج أحد منهم لمواجهة حضرته.

Share via
تابعونا على الفايس بوك