- ما السر وراء الطواف حول الكعبة المشرفة؟!
- وما سر تسميتها بهذا الاسم؟!
- ما الأصل الروحاني الذي جُعلت الكعبة إشارة مادية إليه؟!
- إلام يشير الحجر الأسود؟!
- أيُعدُّ تقبيله طقسا وثنيا كما يظن الخصوم؟!
- كيف أحب الله العالم؟!
__
في البدء كانت روح الكلمة
الطريق إلى اللب عادة ما يبدأ بتساؤل قد يبدو ساذجا بادي الرأي، غير أنه يؤدي إلى متعة غير معهودة، إنها متعة التوصل إلى الحقيقة وتذوق لبها، وهي متعة لا يجربها إلا ذووها، الذين وصفوا في التنزيل الحكيم بأولي الألباب،
وموضوع اليوم ليس استثناء من ذلك الأمر، فله من الدلالة الروحية ما يدفعنا إلى الغوص بغية اقتنائه، فمثله دُرٌّ لا يُضاع.
الكعبتان: مادية، البيت الحرام. روحانية، الإنسان الكامل (سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم)
ما من مسلم إلا يقر بحج الكعبة المشرفة بيت الله الحرام مؤديا بهذا ركنا من الأركان التي ينبني عليها الدين الحنيف، وبطبيعة الحال، فما من شيء يُجعل ركنا أو أساسا إلا وراءه حكمة بالغة، بحيث يتوقف عليه رسوخ البناء. وكما نعلم، فالحج ركن ركين من أركان الدين، بيد أن موضوع المقال لن يتناول الحج تفصيلا، وإنما يركز على بعض عناصره من منظور تأصيلي لساني روحاني، بحيث نرد الألفاظ إلى معانيها الأصلية، فنصل إلى دلالة مسمياتها الروحانية التي من أجلها وُجِدَت. نتناول فيما يلي ذكر الكعبة، ودلالتها الروحانية في علم الرب العليم الحكيم، وسرا من أسرار تسميتها بهذا الاسم، أي «الكعبة».
لب الدلالة اللفظية، ماذا تقول المعاجم؟!
ورد لفظ «الكعبة» في التنزيل الحكيم في موضعين اثنين متقاربين من سورة المائدة المباركة، وأول ما يتبادر إلى الأذهان بادئ الأمر أن المراد منه هو البيت الحرام الذي رفع حضرة إبراهيم وابنه حضرة إسماعيل (عليهما السلام) قواعده، ليحجه الناس، وليكون لهم مثابة وأمنا.
فلنضع تلك المعلومة في الحسبان حين استقراء دلالة «الكعبة» كرمز روحاني عميق لا يتسنى للحرفيين أولي القشور بلوغه، فلربما سهَّل علينا المبدأ السالف الذكر مهمة الغوص لبلوغ العمق بعض الشيء.
جاء في المعاجم العربية من معاني الكعبة أنها:
البيتُ الحرام بمكَّة، أوّل بناء وضع للنَّاس من أجل العبادة؛ مُكعَّب الشّكل، رفع بناءه النَّبيّ إبراهيم بمكّة، وجدَّدته قريش، وتسمَّى كذلك بالبيت العتيق، والبيت الحرام:
ومن المعاني الاستعارية للكَعْبَةُ، المُتَّجَه والمقصد، وكل مكان يفد إليه الناس لهدف مشترك فهو كعبتهم على نحو تشبيهي، كأن يقال: كانت بغداد كعبة العلماء.
والكَعْبُ كذلك كلّ ما ارتفع وعلا، ونقول: رجلٌ عالي الكَعْب، أي موصوف بالشَّرَف والظَّفَر.
والكعب: العظم الناشز عند ملتقى الساق والقدم(3). وقد أنكر الأصمعي قول الناس من أنه في ظهر القدم، وهذا الإنكار في حد ذاته يقودنا إلى نتيجة مفادها أن الفكر الجمعي منذ عصر الأصمعي وربما قبله وحتى أيامنا هذه يفهم الكعب على أنه العقب..
وسواء وافقنا الأصمعي أم اختلفنا معه في تحديد ماهية معنى الكعب، أهو العظم الناشز على جانب القدم أو في مؤخرها، إلا أن الجميع متفقون على أن كعب أي شيء ما ارتفع منه وبرز، وعليه فإننا نميل أكثر إلى أن كعب القدم هو العظم الناشز في مؤخرها، كونه أكبر عظامها كما هو ملحوظ، أي أننا نخلص إلى أن كعب القدم هو عقبها.
(ولأمانة الطرح، ألفت نظر القارئ الكريم إلى أنني سأنتقل من مناقشة لفظة «كعب» إلى لفظة «عقب»، الأمر الذي قد يغفل عنه البعض حين الاسترسال في القراءة)
والعَقِبُ : عظم مؤَخَّر القدم كذلك، وهو أَكبر عظامها. والعَقِبُ أيضا الآخرُ من كلّ شيء، ومن معانيه الولد، ونقول: سار في أعقابهم، أي تبعهم واقتفى أثرَهم، فالأعقاب هم الأتباع المتأخرون. وأعقاب الأمور وعواقبها: أواخرها ونتائجها المترتبة عليها. ونكص على عقبيه: رجع عمَّا كان عليه من خير.
وفي التنزيل جاءت معاني العقب وفق قسمين اثنين، أولهم:ا الآخِر والذرية والأتباع، نحو قوله تعالى:
والقسم الثاني ورد فيه لفظ العقب في سياق يشير إلى الارتداد والنكوص عن الحق، خصوصا إذا ورد لفظ العقب في حالة التثنية أو الجمع، نحو قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ (5).
وقوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (6)
وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (7)
وقوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ (8)
وقوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (9)
وقوله تعالى: قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (10)
مما سبق، تبين لنا أن من العرب من يطلقون على عقب القدم (مؤخرها) كعبا، ولعل مضمون المعنى يشتمل على النكوص والارتداد، فالنكوص يعبر عنه بحركة جسدية، وهي الالتفاف على محور العقب (مؤخر القدم والذي يسمى كعبا في بعض لهجات العرب المعاصرة، ومنها اللهجة العربية المصرية حتى الآن) أو الرجوع إلى البداية بوجه عام.
فالكعبة (البناء المقدس لدينا نحن المسلمين) استحقت هذا الاسم من بابين، أولهما لتشريف الله تعالى إياها وجعْلها حرما، والثاني لأنها جُعلت مرجعا للناس (مثابة لهم)، يقول تعال: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا (11) .. فجمعت هذه الآية المباركة كلا البابين في تسمية البيت الحرام بهذا الاسم، حيث تحقق لها معنيا الشرف والعظمة، وكذلك رجوع الناس إليها.
لم نتجاوز إلى الآن قشرة اللفظ، ولم نبلغ بعد لبه اللذيذ.
لقد كانت الكعبة قبل مبعث النبي الخاتم ، بل حتى قبل مولده السعيد غرضا لهجوم القائد النصراني «أبرهة الحبشي»، لم تكن الكعبة كبناء في حد ذاتها هدفا لأبرهة، وإنما كان الهدف من الهجوم عليها طمس المعنى الروحاني الكامن وراءها، الذي فسره المصلح الموعود ببعث نبي في العرب تكون الكعبة مركزا له وتذكيرا به.
في معرض تفسيره لسورة الفيل، ذكر المصلح الموعود حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد حقائق من نوع غريب، والحقيقة كما يقال «مُرَّة»، إلا أن ما ذكره الخليفة الثاني في التفسير الكبير لهو من قبيل الحقائق الحلوة بكل المقاييس. يقول المصلح الموعود ما تعريبه: «كان من المقدَّر أن يُبعث إنسان عظيم لهداية الناس وفقًا لدعاء إبراهيم، ولتحقيق هذا الهدف كانت هناك حاجة إلى مركز، فجعل الله هذا المقام مقدسًا ومرجعًا للناس لهذا الغرض، ولكنه ليس مقصودا بحد ذاته في كل حال، بل المقصود الحقيقي هو ذلك المبعوث الذي كان سيظهر نتيجة دعاء إبراهيم، والذي كان من مهامه، كما قال الله، أنه يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ. هذا المقام كان مجرد علامة للمقصود الحقيقي الذي سيبعث هناك»(12)..
يتضح جليا من خلال ضم المعنى اللغوي الذي يتضمنه لفظ «الكعبة» إلى المعنى الذي أوضحه المصلح الموعود في تفسيره، يتضح أن الكعبة إشارة روحانية لطيفة إلى حضرة خاتم النبيين ، ويزيد الحقيقة الروحانية رسوخا بيت شعر من نظم المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) يقول فيه مادحا حضرة نبينا المصطفى :
لِكُلِّ ظَـــــــلامٍ نُورُ وَجْهِكَ نَيِّرُ (13)
فلكأني بالمسيح الموعود ينادي سيده النبي الخاتم بحقيقته الروحانية قائلا: «يا كعبة الورى التي إليها رجوعهم في نهاية المطاف بحثا عن الأمن المفتقد»!
فحضرة خاتم النبيين هو الكعبة الروحانية التي هي مثابة الورى وإليها مرجعهم حين تذوب الفوارق بين الأمم وتندمج جميعها في أمة واحدة موسومة بشعار الخاتمية.
فماذا عن «الحجر الأسود»؟!
تقبيل الحجر الأسود، يعد سنة مؤكدة محببة تبلغ مبلغ الوجوب على من يستطيع دون إيقاع ضرر أو إحداث مزاحمة، والجميع يعلم ما ورد في تقبيل الصحابة الكرام إياه، تأسيا بحضرة خاتم النبيين ، حتى ورد عَنْ حضرة عُمَرَ أَنَّهُ جَاءَ إلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، وَقَالَ: إنِّي لأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ، لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ.. إن الشيء لا يقبل إلا لجماله، ويبدو أن الحجر الأسود تكمن وراءه حقيقة جمالية متعلقة بالكعبة الروحانية (حضرة سيدنا ومطاعنا محمد المصطفى)، فماذا عساها تكون تلك الحقيقة؟! لقد بدا نور المعرفة الروحانية يلوح في الأفق بخصوص اكتشافنا لماهية الحجر الأسود الروحانية، إنه مبرز جمال حقيقة كعبته. الآن أخذت الأمور في الاتضاح، أليس كذلك؟!
ولعل من اللطائف أن الشيء الجميل إلى جانب تقبيله يُتَمَسَّحُ به، أو يُمْسَحُ به، أو عليه، يعطي تصورا إضافيا عن السبب في أن مظهر جمال الحقيقة المحمدية يسمى مسيحًا.
وهناك وحي بالفارسية تلقاه المسيح الموعود وهو:
شخصے پاۓ مَن بوسيد ومَن گفتم كه سنگ اسود مَنَم. (14)
أي: رأيت شخصًا يقبّل قدميّ، فقلتُ: نعمْ نعمْ، أنا الحجر الأسود.. لقد سمّاني الله تعالى في وحيه «بيت الله» أيضًا، وفيه إشارةٌ إلى أن المعارضين كلما سعوا لهدم بيت الله هذا، خرجتْ منه كنوز المعارف والآيات السماوية. وبالفعل أرى أنني كلما تعرضت لأذى ظهر كنـزٌ ما.
ويشير المسيح الموعود إلى نفسه بوصفه الحجر الأسود فيقول: «قال المعبِّرون: إن المراد من الحجر الأسود في علم الرؤيا المرءُ العالم الفقيه الحكيم» (15)
وقد تحدث المصلح الموعود عن هذا الإلهام، فقال ما تعريبه: «والحق أن كل مأمور رباني في أي زمن يكون بمثابة الحجر الأسود لجماعته، لأنهم يقبّلونه ويلتفّون حوله مما يزيد الدين قوة. وإن تقوية الدين اليوم منوط بالمسيح الموعود وحده، وهو الحجر الأسود الروحاني في هذا العصر، إضافةً إلى الحجر الأسود المادي الموجود في الكعبة المشرفة. ثم إن آيات سورة الفيل قد أوحيتْ إلى المسيح الموعود أيضا» (16)
وهكذا أحب الله العالم
إن الحب الإلهي للخلق نابع من فيض ربوبيته لهم، فهو ينعم على العالمين بالتربية ويتعهدهم بالتنمية، حتى أن أولى صفاته التي عرفناه بها كانت «الربوبية»، فاستحق أن يكون أول حمدنا إياه على تلك الصفة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (17)
وحبه تعالى للعالم ما كان أبدا بحاجة إلى تمثيلية فداء مأساوية غير مستساغة بحال، بل إن ذلك الحب تجلى أعظم تجلٍّ في خطة إلهية لبعث مُخَلِّص حقيقي للعالم أجمع، مُخَلِّص يضطلع بمهمة تخليص الجميع من براثن الشيطان، حتى من أبى سيناله من الحب ولو شيئا قليلا.
لقد أحب الله العالم حتى أنه مع بشائر الإنسانية المبكرة وضع اللبنة الأولى لصرح يذكر العالمين بالخلاص والعفو العام، ذلك البيت الذي هو مهد الإنسانية، وفيه ربى آدم بنيه على أن يحبوا بعضهم متخلين عن همجيتهم السالفة، فكان ذلك البيت الحرام أول بيت وضع للناس ليتعلموا فيه مبادئ الحب للجميع ولا كراهية لأحد، حتى تجلى ذلك المبدأ أسطع تجل على يد حضرة خاتم النبيين محمد المصطفى الذي هو روح الكعبة الحقيقية، ثم تلاه شاهد منه ليعيد إلى حقيقة التوحيد جمالها الغابر، ولأنه لبنة من لبنات الحقيقة المحمدية وحجر زاويتها، كما الحجر الأسود من لبنات الكعبة وحجر زاويتها، فاستحق بكل جدارة أن يقبله الناس، وهل يقبل الشيء إلا لجماله؟!
5. البقرة: 144
6. آل عمران: 145
7. آل عمران 150
8. الأنعام: 72
9. الأنفال: 49
10. المؤمنون 67
11. البقرة: 125
12. مرزا بشير الدين محمود أحمد – التفسير الكبير – ج10 – ص3
13. حضرة مرزا غلام أحمد القادياني (عليه الصلاة والسلام) –
14. التذكرة ص 36 15. حضرة مرزا غلام أحمد القادياني – الاستفتاء
16. مرزا بشير الدين محمود أحمد – التفسير الكبير – ج10 – ص96
17. الفاتحة: 3