شرح الكلمات:
اشتروا: اشتراه: مَلَكَه بالبيع؛ واشتراه باعه. وكلُّ مَن ترك شيئا وتمسّكَ بغيره فقد اشتراه (الأقرب).
على العموم فالمشتري هو دافعُ الثمن والبائع هو آخذ الثمن، “أما إذا كانت بيعَ سلعةٍ بسلعة صحَّ أن يُتصور كل واحد منهما مشتريًا وبائعا، ومِن هذا الوجه صار لفظ البيع والشراء يُستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر، وشريتُ بمعنى بعتُ أكثرُ، وابتعتُ بمعنى اشتريت أكثرُ. ويجوز الشراء والاشتراء في كل ما يحصل به شيء.” (المفردات)
الضلالة: الضلالة ضدُّ الهدى. ضلّ يَضِلّ: ضد اهتدى: أي جار عن دين أو حق أو طريق. وضلّ يضِلّ فلان الطريقَ وعن الطريق: لم يهتد إليه. وضلّ الرجل في الدين ضلالاً وضلالة: ضدُّ اهتدى. وضلّ فلان الفرسَ: ذهب عنه. وضلّ عني كذا: أي ضاع. وضلّ الماء في اللبن: خفي وغاب. وضلّ فلانٌ فلانًا: نَسِيَه. وضلّ الناسي: غاب عنه حفظُ الشيء. وضلّ سعيه: عمل عملاً لم يعُد عليه نفعه (الأقرب).
وللمزيد راجع شرح كلمات قوله تعالى (ولا الضالين) في سورة الفاتحة.
الهدى: راجِعْ شرح الكلمات في قول الله تعالى اهدنا الصراط المستقيم وقوله تعالى أولئك على هدى من ربهم .
ربِحتْ: ربحتْ تجارتُه: ربِح فيها وانتفع. (الأقرب)
مهتدين: راجعْ شرح الكلمات لقول الله تعالى اهدنا الصراط المستقيم .
التفسير:
لقوله تعالى: اشتروا الضلالة بالهدى معنيان: الأول، أنهم اشتروا الضلالة وباعوا الهدى في مقابلها. والثاني، أنه عُرض عليهم الهدى والضلالة فاختاروا الضلالة وتركوا الهدى.
وأساس المعنى الأول أن الله تعالى قد وهب كلَّ انسان فطرةً سليمة وزوّده بأفضل القوى والكفاءات، كما قال الله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا (الروم:31)، وقال تعالى أيضا: لَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين:5)، أي أننا خلقنا الإنسان بأفضل المواهب والكفاءات والقدرات. ولكنه يصبح محرومًا من فطرته السليمة وقدراته الطيبة إما بنفسه أو نتيجة مساوئ وأخطاء والديه، كما قال الرسول : «ما مِن مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» (البخاري كتاب تفسير القرآن، ومسلم كتاب القدر)، أي أن المولود يولد على الفطرة السليمة، ولكن والديه يستغلان طفولته فيجعلانه على دينهم، إما يهوديًا أو مجوسيًا أو نصرانيًا، وبتعبير آخر إنهما يضحّيان بهداية المولود الفطرية ويشتريان بدلاً منها الضلالة، أو أنه بنفسه عندما يكبر يسيئ استعمال قدراته الطيبة فيفسدها، فمثلا: قد وهبه الله الشجاعة، فيبدأ في ظلم الناس بدلاً من أن يستعمل شجاعته في مساعدة الآخرين، وهكذا فباستخدامه السيء يضيع ما آتاه الله من كفاءات وقدرات طيبة.
فالمراد هنا من (الهدى) تلك القوى والقدرات الفطرية الطيبة التي وهبها الله تعالى للإنسان، والمراد من (اشتروا) أن المشركين يستخدمون قواهم الطيبة التي أُعطوها للتقدم والرقي استخداما سيئًا، فيشترون بدلاً منها الضلالة ويصبحون محرومين من الفوائد الدينية والمادية.
وأساس المعنى الثاني (أي أن المنافقين يفضّلون الضلالة على الهدى) هو أن الله تعالى قد وهب الإنسان من ناحيةٍ القدرةَ على التمييز بين الخير والشر، ثم خيّره في اختيار ما يشاء، ومن ناحية أخرى يرسل له تعاليمه الحسنة والهداية على أيدي الرسل، ولكن الشياطين يعرضون على الإنسان تعاليمهم السيئة، فالذين لا يستعينون بما وهبهم الله من العقل يرفضون ما أرسل الله لهم من الهدى، ويقبلون ما يعرِض عليهم الشيطان وأشياعه من الضلال، وهكذا يختارون الضلالة على الهدى.
أما قوله تعالى فما ربحت تجارتهم فلأنهم تركوا شيئا وأخذوا مكانه شيئا آخر، فسماه الله تجارة. يقول الله تعالى إن المنافقين يظنون أنهم قد قاموا بتجارة نافعة إذ اختاروا أمورا سيئة رافضين ما آتاهم الله من فطرة طيبة، أو اتّبعوا ما علّمهم الشيطان من أمور سيئة معرضين عن هدي الله تعالى ظانين أنهم سيربحون بذلك ربحًا كبيرًا، ولكن الواقع أنهم لن يربحوا شيئا بل سيتضررون ضررا كبيرا وستكون صفقتهم كاسدة خاسرة جدًا.
أما قوله تعالى وما كانوا مهتدين فهو نتيجة تابعةٌ للنتيجة السابقة، حيث بين الله تعالى أنهم لن يتضرروا ولن يذلوا في الدنيا فحسب بل ستكون هناك نتيجة أخرى وهي أنهم سيُحرَمون الهدى وتكون عاقبتهم سيئة.
لقد تبين من هذه الآية أن لكل فعل نتيجتين، عاجلة وآجلة. فمثلا إذا سرق المرء فالنتيجة الأولى أنه يُقبض عليه ويتعرض للذل والهوان والسجن أو لقطع اليد أو لعقاب آخر، والنتيجة الثانية لفعله أنه يفقد الصلاحية لقبول الهدى ويبتعد عنه. كذلك لكل حسنة نتيجتان إحداهما تظهر فورا، حيث يشعر قلبه بالانبساط والسرور نتيجة فعل الخير، وينال العز بين الناس، وينتشر صيته بينهم، والنتيجة الثانية أنه يزداد صلاحية لقبول الهدى ويزداد هدًى باستمرار، وإلى الأمر نفسه قد أشار الله تعالى بقوله وما كانوا مهتدين حيث بيّن أن هؤلاء يصابون بضرر ثانٍ وهو أنهم يبتعدون عن الهدى دائماً.
شرح الكلمات:
مَثَلُهم: المـَثَل هو الشِبْهُ والنظير؛ الصفةُ؛ الحجّةُ، يقال: أقام له مثلا أي حجة؛ الحديثُ؛ القولُ السائر؛ العبرةُ؛ الآيةُ (الأقرب).
والمثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدُهما الآخرَ ويصوّره. (المفردات)
استوقد: استوقد النار استيقادًا: أشعلَها. (الأقرب)
أضاءت: أَضاءَت (النار) أَي اسْتَنارَتْ وصارَت مُضِيئةً، وأَضَاءَتْه، يَتعدَّى ولا يَتعدَّى (اللسان)
حوله: قعَد حوله، أي في الجهات المحيطة به. (الأقرب)
ذهب به: أزاله. (الأقرب)
ظلمات: جمعُ ظلمة، والظلمة: ذهابُ النور، وقيل هي عدم الضوء عما مِن شأنه أن يكون مضيئا… وربما كُنِّيَ بالظلمة عن الضلالة كما يُكنىَ بالنور عن الهدى. (الأقرب)
وورد في المفردات: ويعبَّر بها عن الجهل والشرك والفسق.
وجاءت كلمة ظلمات (بصيغة الجمع) إشارةً إلى أن هذا المكان محفوف بشتى الأخطار الأخرى أيضا، فضلاً عن الظلمة الظاهرية.
ولقد وردت هذه الكلمة في القرآن دائما بصيغة الجمع، وجاءت دائما للإشارة إلى أمر أخلاقي أو روحاني، ذلك لأن المعاصي والأخلاق السيئة لا تبقى على حالها، بل تزداد وتتفاقم وتولد السيئةُ سيئةً أخرى، والبليّةُ بليةً أخرى.
لا يبصرون: أبصرَه: رآه؛ أخبره بما وقعت عينه عليه. وأبصرَ فلانًا: جعله بصيرًا. وأبصرَ الطريقُ: استبان ووضح. (الأقرب)
التفسير:
لقد ضرب الله هنا مثالاً لبيان حال المنافقين عقيدةً، أي أنهم كانوا كفارًا في قلوبهم، ولكنهم كانوا مع جماعة المسلمين في الظاهر. لقد ذكر النبي في حديث له كلماتٍ مماثلةً لهذه الآية، فظن البعض أنَّ الحديث شرحٌ للآية، والحديث المشار إليه هو: « عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَتْ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ» (مسلم، كتاب الفضائل، باب شفقته على أمته).
وقوله (فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تَقحّمون فيه) يعني أنكم تقعون في هذه النار بلا هوادة وأنا أمسككم من ظهوركم لكي لا تقعوا فيها.
لا شك أن هذا الحديث النبوي يحتوي على تمثيل ويذكر شخصًا أوقد نارًا، ولكن النبي يقول فيه إن هذا مثلي ومثل أمتي، بينما الآية قيد التفسير تتحدث عن الكافرين عقيدةً، أي الذين يوقنون في قلوبهم أن رسول الله كاذب، والعياذ بالله، والذين وصفهم الله تعالى بقوله وما هم بمؤمنين ، فكيف يمكن أن يُعَدّوا مِن أمة الرسول ؟ فثبت أنه مما لا شك أن هذا الحديث يذكر كلمات مماثلة لكلمات الآية، ولكنه لا يتحدث عن المنافقين، بل يتحدثُ عن بعض الآثمين من الأمة الذين يؤمنون بصدق الرسول ، ولكنهم ضعفاء في أعمالهم لقلة تقواهم.
أرى أن هذه الآية تتحدث عن الحالات والمراحل التي مرّ بها المنافقون، إذ إنهم أوقدوا النار بأنفسهم أولاً، ثم إذا انتشر ضوؤها، حُرموا الرؤيةَ ولم ينتفعوا بها. والمراد من إيقاد النار هنا هو رغبتهم لوصول الدعوة الإسلامية إلى المدينة، ذلك أن دعوة الحضور إلى المدينة قد تلقاها الرسول من أهل المدينة جميعًا بمن فيهم هؤلاء المنافقون، ولكن عندما انتشر نور الإسلام أصابهم البغض والحسد، حتى فقدوا بصيرتهم. ومن الحقائق الروحية أن من يضلّ بعد الاهتداء يهوي إلى دركٍ سحيق، ويفقد ما ناله من قبل من درجة الصلاح.
واستخدام لفظ النار بمعنى التعاليم الإلهية والآيات السماوية ثابت في القرآن الكريم، فعندما كان موسى عائدا من مَدْيَن رأى تجليًا سماويا بصورة النار حيث قال الله تعالى إن موسى آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً (القصص: 30). ثم لما اقترب موسى منها ناداه الله تعالى: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (القصص: 31). فلفظ النار يُستعمل للتجلي الإلهي أيضًا، وهذا هو المراد هنا، أي أن هؤلاء المنافقين أوقدوا نارًا في أول الأمر، أي استدعوا التجليَّ الإلهيَّ (محمدًا رسول الله ) إلى المدينة، ولكنهم بدأوا يحسدونه بعد ذلك، فحرموا من بركات الانتماء إليه.
وقد شبّه القرآن الكريم في موضع آخر أيضا الكلامَ السماوي بالنار حيث قال الله تعالى: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ (النور: 36)، أي أن زيت الفطرة السليمة قويٌ بحيث يكاد يضيء بدون نار الوحي، بمعنى أن هذا الزيت وإن كان يشتعل بنار الوحي إلا أنه وشيك الاشتعال سلفًا من حيث قوته الذاتية.
باختصار، يراد بلفظ النار التجلي الإلهي والكلام السماوي بحسب التعبير القرآني، وعليه فمفهوم هذه الآية أن المنافقين أضاءوا بيوتهم بنار كلام الله تعالى في أول الأمر، ولكنهم أصبحوا محرومين من فوائدها في نهاية المطاف.
وتشبيه التجلي الإلهي أو الكلام الإلهي بالنار ليس معيبًا، لأن النار تحرق ولا شك، إلا أنها يُعبَّر بها عن الحب أيضًا، لأن الحب يولّد رغبة عارمة لا تنتهي. كذلك فإن ما يقضي على الأفكار السيئة والرغبات الآثمة ويحرقها، فتشبيهه بالنار تشبيه سليم ولطيف للغاية. وهذا هو تأثير التجلي الإلهي والكلام السماوي، أي حرق الأفكار والرغبات الآثمة، وبالتالي فإنّ تشبيهه بالنار جائز نظرًا لتأثيره. كما أن تشبيه الكلام الإلهي والتجلي الإلهي بالماء جائز نظرًا إلى تأثيراته الأخرى، وقد شبهه القرآن بالماء أيضًا.
ويُعبَّر في العربية بالنار عن الحرب أيضًا، وعليه فمفهوم هذه الآية أن المنافقين أشعلوا نار الحرب بالتآمر مع الكفار ظنًا منهم أنهم سيضرّون بها رسول الله وأصحابه، ولكن النتيجة كانت على عكس أمانيهم، لأن هذه الحروب زادت الإسلام قوة وشوكة وعزًا، أما المنافقون ففقدوا البصيرة، أي أصبحوا حيارى ولم يدروا ماذا يفعلون، لأن النتيجة جاءت خلاف ما توقعوا.
وقد شاع استعمال النار بمعنى الحرب عند العرب، حيث يقال: خمدت نارهُ، أي انهزم جمعُه في الحرب. وقد ربط العرب النار بالحرب بحيث إذا خمدت نار فريق أثناء المعركة تشاءموا بالهزيمة. وقد فرَّ أبو سفيان بجيش المشركين في غزوة الأحزاب بسبب انطفاء نيرانهم (سيرة ابن هشام).
وقد استخدم القرآن الكريم هذا التعبير في قوله تعالى: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ (المائدة: 65)، أي كلما أجّجوا نار الحرب أخمدها الله، أي خلق أسبابَ هزيمتهم وهوانهم.
وعليه، فمفهوم هذه الآية أن المنافقين ألهبوا نار الحرب ضد المسلمين للقضاء على الإسلام، ولكنهم دُمِّروا في النهاية.
ومن معاني قول الله تعالى: ذهب الله بنورهم أن العباءة النورانية للإسلام التي لبسها هؤلاء المنافقون قد نزعها الله منهم نتيجة الحروب، بمعنى أن الكفار لم ينتصروا في هذه الحروب ولكن انكشف نفاق المنافقين بسببها، ذلك أن عدم حضورهم الحروبَ لنصرة المسلمين كشَف بطلان ادعائهم بالإيمان، وعلِم المسلمون الذين كانوا يحسنون بهم الظن خطأً أن هؤلاء منافقون ولا يمتّون إلى الإسلام بصلة.
والمعنى الآخر لقول الله تعالى: ذَهَبَ اللهُ بنورهم هو أن ازدهار الإسلام كشف عن حقيقة المنافقين، ذلك أنه كلما اكتمل الدين وازداد النور الإلهي كثرت أحكام الشريعة، فيشقّ هذا على المنافقين أكثر فأكثر، مما يفضحهم، فيسلب عنهم لباس النور.
وقوله تعالى وَتَرَكَهم في ظلماتٍ لا يُبْصِرون يعني أن المنافقين أوقدوا نار الحرب لتحقيق أهوائهم واسترجاع مجدهم، ولكنهم فُضِحوا وانكشف نفاقهم فوقعوا في الظلمات أكثر، أي أصبحوا حيارى لا يدرون ما يفعلون. أو معناه أن مرض نفاقهم تفاقمَ أكثر.
أما إذا اعتبرنا النار بمعنى الإسلام، فستعني الآية أنهم استدعوا الإسلام بأنفسهم ثم أعرضوا عنه، فحرمهم الله من نور الفطرة السليمة الذي يوهب لكل إنسان، وتركهم على حالهم، فأصبحوا محرومين من نور وحي الله تعالى ومِن هداية الفطرة السليمة أيضًا.
اعترض البعض على هذه الآية قائلا إنها تذكر شخصًا واحدًا أوقد النار، ولكنها تذكر بعد ذلك ضمير الجمع، فلماذا؟
والجواب: لقد ذكرت هذه الآية مُوقد النار بلفظ الذي ، وهذا اللفظ يُستعمل للواحد والاثنين والجمع، ويصحّ في العربية ذكرُ ضمير المفرد نظرًا إلى اللفظ وضمير الجمع نظرًا إلى المعنى. فقد ورد في كتاب “همع الهوامع” للإمام السيوطي، وهو كتاب عظيم في النحو، تحت عنوان “الموصول” قولُ الأخفش:
ثم أورد السيوطي برواية الأخفش شطر بيت كالتالي:
وقد ورد هنا لفظ (الذي) للجمع وهم الأشياخ.
وقد ورد “الذي” للجمع في مواضع أخرى في القرآن الكريم حيث قال الله تعالى وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (الزمر: 34). فهنا ذكر الذي و جاء و صدّق وكلها للمفرد، ثم أشار إلى الجمع بـ أولئك . وقال الله تعالى أيضا: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا (التوبة: 69)، والمراد وخضتم كالذين خاضوا.
باختصار قال الله تعالى في الآية قيد التفسير أولاً استوقدَ نظرًا إلى لفظ الذي ، ثم قال بنورهم إشارةً إلى أن المراد من الذي جماعة من الناس.
وهناك جواب آخر وهو أن كلمة استوقد قد تكون إشارة إلى زعيمهم الذي أشعل النار، أما قوله تعالى: فذهَب الله بنورهم فإشارةٌ إلى أن هذا الشخص لم يكن وحيدًا بل كان معه جماعة.
وقد يُراد بهذا التعبير أن رأس المنافقين هو الذي بدأ الفساد في أول الأمر، ولكنهم كلهم هلكوا في نهاية المطاف.
ومن الاعتراضات التي تُثار على هذه الآية أنه قيل أولًا مثلهم ثم قيل كالذي استوقد نارًا ، أي أنه ذكَر أولًا حال جماعة، ولكن بعد ذلك تحدث عن شخصٍ واحد.
والجواب الأول هو ما ذكرنا آنفًا بأن الحديث هنا ليس عن شخص واحد، وإنما جاء فعل استوقد نظرًا إلى لفظ الذي ، ولكن المراد به جماعة.
والجواب الثاني: إن حال جماعة تشابهُ حال شخص واحد، ولا غرابة في ذلك.
والجواب الثالث: إن تشبيه جماعة بشخص واحد لا يتنافى مع كلام الناس، فقد قال القرآن الكريم في موضع آخر: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا (الجمعة: 6)، أي أن الذين أُمروا من عند الله تعالى بالعمل بالتوراة ثم لم يعملوا بأحكامها، مثلُهم كالحمار الذي يحمل كتبًا.
شرح الكلمات:
صُمٌّ: جمعُ أَصَمّ. صَمَّ الرجلُ صَمًّا وصممًا: انسدت أذنُه وثقُل سمعُه، فهو أَصَمُّ. والأصمّ أيضًا الرجلُ لا يُطمَع فيه ولا يُرَدُّ عن هواه. (الأقرب)
بُكم: جمعُ أبْكَم. والبَكَمُ: الخَرَسُ مع عيٍّ وبَلَهٍ. وقيل هو الخَرَسُ ما كان. وقال ثعلب: البَكَمُ أن يولَد الإنسان لا ينطق ولا يسمع ولا يبصر. وقال الأزهري: بَيْنَ الأخرس والأبكم فرقٌ في كلام العرب، فالأخرس الذي خُلق ولا نطقَ له كالبهيمة العجماء، والأبكم الذي للسانه نطقٌ وهو لا يعقِل الجوابَ ولا يُحسن وجه الكلام. (اللسان)
عُميٌ: جمعُ أعمى. عَمِيَ: ذهب بصره كله من عينيه كلتيهما. وعمي فلان: ذهب بصرُ قلبِه وجَهِل؛ غَوِيَ. (الأقرب)
لا يرجعون: رجع الرجل: انصرف (الأقرب)
التفسير:
يقول الله تعالى إن المنافقين صم وبكم وعمي، فلا يرتدعون عن شرورهم. إنهم صمٌ لأنهم سمعوا القرآن ولم ينتفعوا منه، وإنهم بكمٌ لأنه كان من واجبهم إذا انتابتهم الشبهات أن يسألوا عنها لتصفو قلوبهم، ولكن أخذتهم العزة بالإثم، إذ قالوا كنا أساتذة القوم فكيف نتعلم من الآخرين! فلم يسألوا وصاروا كالصم. وإنهم عميٌ لأنهم رأوا بأم أعينهم التغييرات الطيبة الحاصلة في المؤمنين الصادقين، ولكنهم لم ينتفعوا من ذلك. لقد تخلص المئات من الأوس والخزرج من عيوبهم الخُلقية، وصارت قلوبهم عامرة بحب الله تعالى، وفاضت عيونهم بذكر الله تعالى، وتغنت ألسنتهم بأغاني تقديس الله تعالى، كانوا يعيشون في الدنيا ومع ذلك كانوا منقطعين عنها. كان المنافقون يعرفون هؤلاء المؤمنين وكانوا مطلعين على ما حصل فيهم من ثورة روحانية بعد الإيمان، وإذا كان المنافقون لم يفهموا القرآن الكريم وخجلوا أن يقدموا شُبهاتهم لمعرفة الحقيقة، فلِمَ لمْ يروا هذه الثورة العظيمة الحاصلة في بيوتهم أمام أعينهم. كان ابنُ عبد الله بن أُبيّ بن سلول مسلمًا مخلصًا، ألم يرَ عبد الله كيف أن رسول الله جعل ابنَ كاذبٍ مثلِه إنسانًا صادقًا صالحًا، وكيف جعل ابنَ جبانٍ مثلِه شجاعًا باسلًا، وكيف جعل ابنَ عابدٍ للدنيا مثلِه يخرّ ساجدًا أمام عرش الله ذي الجلال. هذه التغييرات الطيبة والثورات الروحانية كانت تقع في بيوت مَن سواه من المنافقين وبيوت جيرانهم أيضًا، ولكن عميت قلوبهم فلم يروا منها شيئًا.