كلام الإمام

 “ألا يعزبنّ عنكم، أنه ليس باستطاعة الإنسان بتاتًا أن يدرك حقيقة شؤون الله التي أدق ما تكون، بل إن أعماله أدق وأسمى وأبعد من إدراك العقل والفهم والقياس. ولا ينبغي أن يغتر الإنسان بعلمه التافه هذا قائلاً بأنه قد ألم بشيء من تسلسل العلل والمعلومات؛ لأن علم الإنسان هذا أقصر ما يكون وهو كالجزء من عشرة الملايين من قطرة واحدة من البحر. والحق أن الله عز وعلا كما لا يحد وجوده بحدود، كذلك إن أعماله غير متناهية، وإن إدراك حقيقة عمل من أعماله أسمى وأعلى من مبلغ الإنسان. غير أنه يمكننا أن نقول ناظرين في صفاته القديمة التي لا تتعطل أبدًا: أن نوعًا من أنواع المخلوقات كان قديمًا قدامة نوعية، أي كان ولا يزال نوع من تلك الأنواع موجودًا منذ القديم، لكن القدامة المتشخصة المحددة باطلة بتاتًا، ومع ذلك أيضًا الصفة الإلهية من الإفناء والإهلاك ما زالت ولا تزال عاملة غير معطلة منذ الأزل. إن علماء الطبيعيات الجاهلين وإن استفرغوا جهودهم لأن يقحموا ظهور الأجرام السماوية والأجسام الأرضية في نطاق الكليات الطبيعية ويحددوا لظهور كل كائن أسبابًا مادية، لكن الحق الذي لا ينكر هو أنهم أخفقوا في مساعيهم، وكل ما ادّخروا من بحوثهم الطبيعية يسوده النقص ويعوزه الكمال، ومن أجل ذلك إنهم لا يطمئنون بشيء، وما برحت نظرياتهم المختلفة عرضة المتغير، وما يدريك مدى تغيرها في المستقبل. وبما أن بحوثهم العلمية لا تتأسس إلا على مجرد العقل والقياس، وليس لهم حظ من إعانة الله تعالى، فلذلك إنهم ليسوا بخارجين من الظلمات، وليس لأحد من الناس أن يعرف الله تعالى حق المعرفة ما لم تبلغ به معرفته إلى اليقين بأن كثيرًا من شؤون الله تعالى تسمو وتفوق عن طوق البشر وإدراكه وفهمه. ولا يكون الإنسان قبل هذا النوع من المعرفة إلا ملحدًا لا يؤمن بوجود الله أو أنه يتمسك بإلهه الذي هو وليد استدلاله الملفق ولا يمت إلى الإله الذي يتجلى بنفسه والذي لا يحيط بأسرار قدرته عقل إنساني. ومنذ مكنني الله من المعرفة بأن لإلهنا عجائب القدرة وأعمقها وأبعدها عن الإدراك، قد أيقنت بأن هؤلاء العلماء والفلاسفة كفَّار حقًا، كما قد رأيتم ملاحدة مستخفين، ولقد شاهدت بنفسي أن عجائب القدرة العديدة قد تراءت لي بحيث لا أراها. إلا أنها وجدت من العدم، كما قد ذكرت شواهد ذلك في بعض المواضع من كتبي. والذي لم يحظ بمشاهدة مثل هذه القدرة المعجزة، فكأنه أشقى ما يكون، بلى إنما نؤمن بالإله الذي تجليات قدرته غير محدودة ولا مقصورة ولا متناهية كذاته “. (جشمه معرفت “عين المعرفة”، ص 268، 269).

“إن القرآن العظيم ليحتوي على تعاليم تدعو الناس إلى حب الله دعوة ملحة، طورًا تتجلى بحسنه وجماله وتارة تذكّر الإنسان نعمه تعالى ومننه، لأن الإنسان يشغف بحب شيء إما لأجل حسنه أو إحسانه…. إن الله تعالى واحد لا شريك له من جهة صفاته العليا، لا عيب يوجد فيه، إنه لمستجمع لجميع الصفات الكاملة ومظهر لكل القوى الخارقة السامية، ومبدأ لكافة المخلوقات، وإنه لمنبع لكل الفيوض والخيرات، وإنه لمالك يوم الدين، ومُستجمع لجميع الأمور. وإنه لبعيد مع قربه وقريب مع بعده. وإنه يفوق كل شيء ويسوده، لكن ليس من الصحيح أن نقول أن شيئًا من الأشياء أظهر منه وأجلى. إنه لحي بذاته وقيوم لكل شيء، وإنه لقائم بذاته، لكنه قوّام لكل شيء. إنه يرفع كل شيء بقوته، لكن ما من شيء يرفعه. وما من شيء وجد بنفسه دون إيجاده، ولا يستطيع أن ينال الحياة دون إحيائه. إنه لمحيط بكل شيء لكن ما يدرينا كيفية تلك الإحاطة. إنه لنور السماوات والأرض وكل مستنير ليستمد من نوره، ويضيء بإضاءة ذاته، إنه لرب العالمين، وما من روح إلا وهي تنشأ وتتربى بربوبيته، وما من قوة من قوى الروح إلا وهي مستعارة منه. إن رحمته على نوعين: أحدهما الذي تم ظهوره دون عمل سابق للإنسان كالأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم والماء والهواء والنار وكل ذرات هذا العالم التي سخرت لأجل راحتنا، وكذلك هُييء حتى قبل ولادتنا كل ما كنا بحاجة إليه في هذه الحياة، وأُتيح لنا قبل وجود أنفسنا كل ما يلزمنا، حينما لم نكن نحن ولا من عملنا شيء. من الذي يجترئ على أن يدّعي بأن الشمس خلقت من أجل عمله أو وجدت الأرض لعمل له صالح. وبالجملة، إن هذه الرحمة هي التي ظهرت قبل وجود الإنسان وأعماله، وليست ثمرة جهود أحد من الناس. والنوع الثاني من الرحمة هي التي تتأتى على أعمال الإنسان، إنها لغنية عن بيان وإيضاح. وكذلك قد ورد في القرآن أن الله منزه عن كل عيب ومبرّئ عن كل منقصة، وإنه تعالى ليجب أن يكون عباده أيضًا متطهرين من المعائب باصطباغهم بصبغته كما يقول : مَنْ كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، أي أن الذي يبقى في هذه الدنيا كالعميان ولم يحظ بتجلي الله له، هو بعد موته أيضًا يظل أعمى، ولن تفارقه الظلمات، لأن الإنسان يوهب في هذه الدنيا قوى حساسة خارقة ليتمتع برؤية الله. فالرجل الذي لا يتزوّد بهذه الحواس لآخرته، لن يستطيع أن يتمتع برؤية الله في الآخرة أيضًا. ولقد بيّن الله تعالى في هذه الآية مدى التقدم الروحاني الذي يقتضيه من عباده ومقدار ما يمكن أن يبلغه الإنسان من المراتب العليا بفضل اتباع تعاليم الله . ثم إنه يقدم التعاليم التي بتطبيقها يشُق له الطريق إلى تجلي الله عز وعلا، كما يقول تعالى:

فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ،

أي إن الذي يريد أن يتجلى له الله الخالق لكل شيء في هذه الدنيا، فليعمل أعمالاً لا تشوبها شوائب الفساد. أي يجب أن لا تكون أعماله رياء للناس ولا تكون مثار الكِبْر والأنانية في نفسه ولا تكون ناقصة يعوزها التمام، ولا تشتم منها رائحة كريهة تنافي حبّ الله الذاتي، بل من الأجدر بها أن تكون فياضة بحماس الصدق والوفاء. وكذلك من أوجب واجباته مع هذه الأعمال أن يتجنب الشرك، ولا يتخذ من دون الله آلهة، لا الشمس ولا القمر، لا النار ولا الماء ولا شيئًا آخر من الموجودات. وعليه كذلك أن لا يقيم للأسباب الدنيوية وزنًا ولا يعتمد عليها اعتمادًا يجعلها أندادًا لله ، ولا يعتد بهمته ولا بجهوده أي اعتداد، لأنه هو أيضًا من دواعي الشرك، بل عليه أن يحسب كل جهوده لا شيء، ولا يغتر بعمله، بل عليه أن يعد نفسه من الجاهلين المقصرين حتى تكون روحه دائمة الخضوع والسجود لعتبة الله عز وعلا، ويجتلب ويستسقي فيضه بالأدعية المتضرعة حتى يكون كرجل متعطش بائس مخذول، فانفجرت له عين صافية عذبة فتخاذل زاحفًا بين تجشم وانهيار إلى تلك العين حتى مستها شفاهه، فلم يُفارقها حتى ارتوى. ثم يقول إلهنا الحق في القرآن:

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ

أي إن إلهكم هو الإله الذي هو واحد بذاته وصفاته، لا ذات مثل ذاته الأزلية الأبدية، ولا شيء متصف بمثل صفاته. إن علم الإنسان يحتاج إلى تعليم معلّم، ثم إنه لمقصور ومحدود، لكن علمه لم يكن بحاجة إلى معلّم ومع ذلك لا يحد بحدود. والإنسان في سمعه لأحوج إلى الهواء، ثم إن نطاق سمعه لضيّقٌ جدًا، لكن سمع الله ذاتي وغير محدود أيضًا. إن بصر الإنسان ليتوقف على ضوء الشمس أو غيرها من الأنوار ثم إنه مقصور المدى، لكن بصيرة الله تنبعث من ذاته ثم إنها لتسع السموات والأرض. وكذلك قوة الخلق في الإنسان لأفقر ما تكون إلى مادة ومدة، ثم إنها لمحدودة، لكن على عكس ذلك إن خالقية الله تعالى لا تعوزها المادة ولا المدة ولا تعرف الحدود ولا القيود؛ لأن جميع صفاته منقطعة النظير عديمة المثيل وهي كذاته لا عديل لها ولا شبيه، فإذا كانت إحدى صفاته ناقصة كانت سائرها غير كاملة، ولذلك لا يتأصل توحيده ولا يتثبت ما لم يكن وحيدًا فذًّا عديم النظير في جميع صفاته. ثم إن الآية تصرح بأنه ليس بوالد ولا مولود، لأنه غنيٌ بالذات عن الآباء والأولاد. هذا هو التوحيد الذي علّمه القرآن العظيم والذي هو مدار الإيمان وقوامه”. (lecture Lahore، ص 9 إلى 13).

Share via
تابعونا على الفايس بوك