في صبيحة يوم الخميس، الثاني من آب عام 1990 اجتاحت القوات العراقية دولة الكويت. فكشفت تلك الحادثة الغطاء عن هشاشة النظام العربي، وفتحت الباب لبداية تطبيق ما سمي بالنظام العالمي الجديد، الذي تكشفت فيه أنياب الدجال وأصبح يصول ويجول في العالم بلا هوادة و دونما رادع.
وقد تسارعت بعد ذلك الأحداث وتصاعدت، وها هو العالم العربي والإسلامي يعاني من آثار تلك الفاجعة وعواقبها وما تمخض عنها من دمار كبير ألمَّ بالأمة العربية والإسلامية.
وفي اليوم التالي كانت خطبة الجمعة التي ألقاها إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله تعالى)، تتناول فيها هذا الموضوع الخطير وأعلن من خلالها أن القتال بين طائفتين مسلمتين هو من الأمور التي تناولها القرآن الكريم بالعلاج والحل، وأن المسألة ليست مشكلة عربية أو إقليمية، وإنما هي مشكلة إسلامية، ينبغي أن يُتَّبع في علاجها الوصفة القرآنية بأن يحلهـا المسلمون بأنفسهم بدلَ دعوة الغير للتدخل في أمورهم، حتى تكون يد الله تعالى مع أيدي المسلمين، وإلا تركهم لأنفسهم ولن يجدوا عندئذ علاجًا ناجعًا ولا حلاً صالحًا.
ومضت الأيام فالأسابيع ثم الشهور، وإمام الجماعة الإسلامية الأحمدية يرقب الأحداث بعين المؤمن المسلم المشفق على أمر أمة محمد فاتخذ من خطب الجمعة المتواترة مئذنة يرفع منها صوت الإسلام.. صوت التقوى المجردة من الهوى وألاعيب السياسة وأباطيل الساسة والاتجار بالكلمات. ولكن قادة العرب والمسلمين كانوا قد عقدوا العزم على صمّ الآذان وإغلاق العيون، وجلس الشيطان على عجلة القيادة، وسار بهم إلى النهاية المحتومة.. فوقعت كارثة الخليج.
لقد تمكّن الدجال من سَوْق الأمم المتحدة، وجنّد أجهزة الإعلام، وحشَدَ قواه.. وأنـزلَ بالأمة الإسلامية أشد الضربات. وذلك، لسوء الحظ، بسبب ما قام به بعض حكام المسلمين من إجراءات خاطئة حمقاء. فأصاب الأعداء أمة المصطفى بجروح عميقة لن تندمل، فيما يظهر، لأمد بعيد. لقد ضاعت في الكارثة أموال وثروات ومدّخرات كانت كفيلة بإنعاش بلاد إسلامية تحتاج اللقحة وشربة الماء. وأُزهقت أرواحٌ، وسُفكت دماء، وانتهكت حرمات، وضاعت كرامات، وانقطعت أرزاق، وشردت جماعات، وغُرست أحقادٌ وثأرات، وضاع الأمن والأمان من الملايين. وانكشف غبار المعركة.. فإذا بالمتقاتلين المسلمين في خسارة.. وإذا الرابح في المعركة طرف آخر لم يشترك فيها، وخرج بمعظم الأرباح. نعم.. لقد نالت إسرائيل كل الغنم، وحققت أغراضها، وضمنت أمنها، وتوقدت مكانتها، واستقرت قريرةَ العين هادئة البال.
لقد نبَّه حضرته، أيده الله، أمةَ الإسلام وكذلك سكان دول العالم الثالث عن دموية حلم النظام العالمي الجديد. وقد أكّدت الأحداث المتلاحقة على صحة كثير من هذه المخاوف، وما تخفي صدورهم أكبر والعالم الآن بانتظار مزيد من الويلات التي تلوح في الأفق.
هذه السلسلة من الخطب قُدِّمت للقارئ العربي في صورة كتاب “كارثة الخليج والنظام العالمي الجديد” بعد تعديلات مناسبة وإضافات ضرورية من صاحبها. وها نحن نقدم مختارات من هذا الكتاب اجتهدنا في اقتطافها وفقا لما رأيناه مناسبا للوقت أو المرحلة، أو لما أردنا أن نذكر به القارئ المؤمن النجيب. فإن الذكرى تنفع المؤمنين. آملين من الله تعالى التوفيق.
وإليكم فيما يلي المقتبس:
منذ قرون عديدة ومنطقة الشرق الأوسط لا تبرح تعاني من تدهور مستمر، وتحدق بها الحروب والاضطرابات وأحداث العنف، وتنـزل بها صنوف البلايا والشدائد الأليمة. وقد زادت هذه الأمور ولا تزال تزداد في العقود الأربعة الأخيرة من هذا القرن. ولعله لا يتعذر معرفة العلة وراء ذلك، ولكن لا الشرق ولا الغرب يبدون اهتماما لتحري الأسباب. والواقع أن السلام في هذه المنطقة قد اختل في الأربعين سنة الماضية مرات عديدة، وفي كل مرة تعرض سلام العالم كله للاضطراب. ولكن كان رد فعل الغرب على ذلك أنهم في كل مرة صعَّدوا هذه الأخطار بدلا من إزالتها. وبعد كل تجربة من هذه التجارب كانت ردود فعل المسلمين الذين يعيشون في هذه المنطقة هي نفس ردود الفعل التي تعود عليهم بالضرر، وتزيد من معاناتهم مرة بعد أخرى. إنهم بعد مرورهم في تجارب متكررة يصلون إلى نفس النتائج التي ثبت خطأها. وهذا ليس من سمات أهل العقل والذكاء بأي حال. ولكن وجود رجال أذكياء في الجانبين أمر لا مراء فيه، فلا بد إذن من سبب آخر.. لأنه بدلا من أن يحل الموقف فإنه يزداد سوءا.
إن جبال الدنيا لا تملك القدرة على تـحمل جلال هذا الوحي؛ ولكن المصطفى كان وحده أعظم الجبال وأعلاها وأشدها. فالمراد من قوله “فحرِّز عبادي إلى الطور” أن عُودوا إلى عَظَمة المصطفى ، وتعوذوا بتعاليم المصطفى . الجئوا إليها واستمدوا القوة منها. إذا فعلتم ذلك وابتهلتم إلى الله .. يكون دعاؤكم قد غُذِيَ من عظَمته، فلا يضيع أبدا، وتنالون نصيبا من عظمته….
أساس الاضطرابات
الحق أن أساس كل هذه الاضطرابات هو إسرائيل. ومع أن الغرب كان بعد كل حرب يقدم تحليلا للموقف، ويخبر بالأخطاء التي وقع فيها أهل الشرق الأوسط وقادتهم، والتي تسببت في كل تلك الأضرار.. لكنهم لم يستبينوا جذور المرض أبدا، ولم يلقوا بالا نحو تصحيح موقفهم.
ومثالا لذلك فإنهم كانوا يلومون الرئيس المصري عبد الناصر، ويتهمونه بالجنون، وفقدان الاتزان، وأنه لم يكن يدرك خطورة القوى العظمى ضده، وأنه وحلفاءه العرب جميعا لا يساوون شيئا إزاء تلك القوى العظمى.. وأنه في كل مرة يذهب إلى الحرب ليبوء بالهزيمة، ويزداد موقفه سوءا. فطبقًا لتحليل الغرب: يقوم قائد مجنون، ويستولي على قلوب شعبه بفضل حماسه، ولكنه محروم من الذكاء، فلا يفعل لهم شيئا مفيدا. ونتيجة لذلك فإن تصرفاته حيال أعدائه تنقلب عليه وعلى أصدقائه. وفي كل مرة يحارب فيها الآخرين لا يحقق أهدافه، بل يؤوب دائما بالخسران.
وكان الحال كذلك أيضا مع من تبعه من القادة. وهم يقدمون نفس التفسير بشأن الرئيس صدام حسين، ويوجهون الأنظار إليه قائلين: هاكم قائدا مجنونا آخر قد قام، ترتكز جذوره على الناصرية، بل والنازية الهتلرية. وهم يعرضون في التلفزيون هذه الأيام أفلام هتلر، وأحداث الحرب العالمية، يسترجعون بها ذكرى أيام هتلر، ليثيروا الغرب دونما حاجة للتعليق، وليربطوا بطـريقة لا شعورية بين صدام حـسين ودوافعه وبين النـازية ودوافعـها.
شخِّصوا المرض أولاً
هذا هو التحليل الغربي. ولكننا لم نسمع من أي خبير غربي يبين لنا: إذا كان هؤلاء القادة مرضى حقا، فما هو المرض الذي أوجد هذه العقولَ المريضة؟ ولم يفكروا أنه حتى لو قطعت تلك الرؤوس المريضة فسيبقى المرض، ليتولد منه مزيد من الرؤوس التي لن تكون أبدا خالية من المرض وتأثيراته.
ما هو هذا المرض؟ إنه إنشاء دولة إسرائيل في هذه المنطقة، ثم استمرار التمييز في تعامل الغرب مع إسرائيل. فما كان هناك موقف يثير مسألة رعاية مصلحة إسرائيل في مقابل مصلحة العرب المسلمين.. إلا وكان الغرب دائما وأبدا، ودونما حالة استثنائية واحدة، يهرَع إلى تفضيل مصلحة إسرائيل، وتضحية بمصالح العالم العربي المسلم. ولقد عبر أحد الشعراء عن جوهر هذا الموقف بما معناه:
من كان يلبس كلبه وشيًا ويقلع لي جلدي
فالكلب خير عنده مني، وخيرٌ منه عندي
هذا هو التشخيص الدقيق النهائي للمرض، وهذا هو ما غُرس في قلوب العرب. وتحليلهم هذا يقوم على حقائق واقعة. فالعالم الغربي لا شك يكسو كلابه، ويتركهم عراة. هذا هو الحال الذي يطابق تماما ما يجري مع إسرائيل مقارنة بالعرب. هكذا كانت دائما استجابة الغرب في كل مناسبة ليتخلصوا من العالم العربي الجاهل في نظرهم، ويحموا العالم من أذاه، وسبيلهم الوحيد لذلك هو تفكيك العرب وتفتيتهم إلى قطع صغيرة، وتدمير كل إمكانيات نهضتهم في المستقبل.
هذا هو التحليل الغربي، وإن كان ليس بالفظاعة والإجرام مثلما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، ثم تكرر بعد الحرب الثانية، وتحليلهم في الحالَينِ كان خاطئًا. فما داموا لا يلقون نظرهم على الأسباب الأساسية التي ولدت النازية أو الناصرية أو الصدامية، ولا يشخصون المرض تشخيصا صحيحا، ولا يتنبهون إلى علاجه الصحيح.. فإن تلك الرؤوس ستقوم مرات ومرات لتقطع مرات ومرات، وستبقى سببًا مستمرا لقطع رؤوس أخرى، ولا بد أن يكبر هذا الورم السرطاني، إلى أن يأتي وقت يفلت فيه من سيطرة حكومات الغرب القوية….
مفهوم الأمانة عند الغرب
إنهم يتحدثون عن الأمانة في أماكن أخرى، ولكن يتغير مفهومهم عن الأمانة عندما تكون تحت قبضتهم.. يقولون: عندما يذهب مواطن منهم إلى بلد آخر يكون أمانة لديهم، ويجب ألا يخونوا هذه الأمانة؛ ولكن فيما يتعلق بالثروات التي وضعت لديهم في البنوك في زمن السلم بناء على نظام الحماية التي تمنح للنظام الاقتصادي العالمي، أو وقوعا في خطأ الاعتماد عليهم.. فإنهم يضعون أيديهم على تلك الثروات، قائلين: نحن نجمدها لصالح العالم. كم من دولة شرقية جمدوا أموالها في حالة الحرب وزمن الخطر! والآن جمّدوا أموال الكويت.. بقصد إعادتها فيما بعد لأنهم أصدقاء، وجمّدوا كل ثروات العراق في جميع البلاد. هذه هي أشكال دقيقة من الخداع.. ولكنهم مَهَرة في تقديم الخداع وكل تلك المظالم في لغة مصقولة. إنهم أساتذة هذا الفن.
أكبر غلطة للمسلمين
وفي مقابل هذا، وفي كل مرة، يحاول العالم العربي التعس محاربة الذكاء بالعاطفة ويدعون عواطفهم ترتطم بالذكاء فإنها تتحطم هباء بدون فائدة، ويقع المسلمون في العار والمذلة أكثر فأكثر.
إن أكبر غلطة وقع فيها العالم العربي، ولا يزال يكررها، أن الأهداف السياسية والأمور الدنيوية التي لا يتغير رد فعل الأمم الأنانية إزائها دونما تفرقة دينية، فإنهم بدلا من الاحتفاظ بها في إطارها الذي تنتمي إليه.. يحولونها إلى قضية دينية. فتتزايد الكراهية التي خلقوها باسم الإسلام.. مع أن المجتمع الإنساني يعطيهم حق مقاتلة الذين هاجموا مصالحهم، ولكنهم يحولونها بلا مبرر إلى جهاد ديني. فيعطون المهاجمين فرصة إضافية؛ فبعد أن كانوا يهاجمون العالم الإسلامي فقط.. إذا بهم يهاجمون الإسلام أيضا، ويقولون للدنيا كلها: إن المرض الحقيقي هو الإسلام ذاته وليست إسرائيل وراء هذه المشاكل. إنما الإسلام هو الدين الملتوي ويعلّم الالتواء. إنه دين غير منصف، وينشر الفكر الظالم، وكل هذه الأمراض هي ثمار الفكر الإسلامي…
فالقادة الذين وصفهم الغرب أمام العالم بأنهم مرضى – والحق أنهم مرضى، بسبب ما خلقوه من شرور – هم الذين أعطوه الفرصة لينسب المرض إلى الإسلام، وليعرض هذا التشخيص الخاطئ أمام العالم حتى يُرغَم العالم على قبوله.. لأن كلمات المريض مسموعة أكثر. المريض يقول: أنا مصاب بصداع، وتناولت كيت وكيت من الطعام فأصابني الصداع. إذا قال الطبيب غير ذلك فلا يقتنع الناس، ويقولون: إن المريض خير مَن يشخص سبب مرضه. يعرضون هذه الرؤوس المريضة قائلين: هذه الرؤوس بنفسها تعلن: ديني هو المجنون. ديني يأمرني بظلم النساء والأطفال، والقيام بعمليات التخريب، وإفساد أمن المدن بالمتفجرات، والانتقام لمعاناتنا بأي صورة كانت، والله يعيننا، فالإسلام يؤيدنا ويعلّمنا أن نفعل ذلك باسم الدين!
إن هذا خطأ تماما، وليس ثمة تبرير لـه مطلقا. كل ما قلته لكم أمور حيثما عرضتموها على العالم سيضطر إلى قبولها كتبرير لوجود هذه الرؤوس المريضة ويعرف سبب مرضها. ولكن الأسف أن هؤلاء الظالمين لم يسمحوا للعالم أن يهاجمهم وحدهم، بل وعرضوا الدين أمامهم ليكون أيضا هدفا للهجوم.
هذا ملخص طغيان الغرب وظلمهم الذي يعتبرونه اليوم شرعيًا. ومن أهم الأمور الآن أن تتفهم القيادةُ الإسلامية الأسبابَ، وتوجه كل انتباهها إلى المرض الحقيقي، وتنبه الآخرين إليه. عليهم أن يقدموا هذا التحليل أمام العالم بوضوح، ويقولوا: إننا اضطررنا للانضمام إليكم ضد صدام حسين.. ولكن ذلك لا يعني أنكم أبرياء، وأن الخلاص من صدام حسين أو القضاء على العراق هو العلاج للعالم الإسلامي؛ بل سيكون ذلك سببا إضافيا لهدمه، وتستمر الأسباب تفعل فعلها، وتبقى الأمراض التي تسبب اضطراب السلام مرة بعد مرة في منطقة الشرق الأوسط، ويشعر العالم بالأخطار من قِِبلهم مرة تلو الأخرى.
وإذا تحدثنا عن العدالة، فسترون أنه بعد كل حرب تحتل إسرائيل جزءا من بلاد المسلمين، ويساندها الغرب ليصبح الاحتلال أبديا. إنهم لم يعيدوا شبرا من الأرض التي احتلوها إلا لمصر. ولم يسلِّم الإسرائيليون سيناء لمصر إلا بعدما اضطروها لركوع أمامهم وقبول شروطهم.
لقد اضطرت في النهاية إلى عقد معاهدة مع إسرائيل، اعتقدوا أنهم يقطعون بها مصر عن العالم الإسلامي نهائيا، وتصبح هدفا لكراهيتهم، ويصبح استمرار وجودها متوقفا علينا، وما دمنا نعضدها فإنها تعيش، وإلا تتحطم وتنهار. هكذا كانت توقعاتهم التي على أساسها أعادوا تلك المنطقة الصحراوية لمصر بعد أن احتلتها إسرائيل. وسوى ذلك لم يعيدوا أي أرض احتلتها إسرائيل للمسلمين الذين لم يقبلوا بمعاهدة تضطرهم للسجود أمامهم.
كم طالت بالأردن مصادقتهم؟ إنهم حتى اليوم يذكرون في نشرات الأخبار.. أن انظروا أصدقاءنا.. كنا نعتمد عليهم أكثر من أي شيء. كم كنا حمقى! لقد ظهر أنهم أصدقاء غير مخلصين. ولكن الغرب لا يرون إلى معاملتهم تجاه الأردن. طوال هذه المدة لا يزال شطر كبير من الأردن تحت احتلال عدوه، ولم يزل هؤلاء الأصدقاء يساعدون العدو على الاستمرار في هذا الاحتلال غير الشرعي.. ومع ذلك استمر الأردن على صداقته لهم!
متى تحرم موالاةُ الكفار؟
وحيث يقول القرآن المجيد بعدم موالاة الأعداء.. خلق بعض المُلاَّت (المشائخ المتعصبون من مدرسة العصور الوسطى) انطباعا خاطئا حول ذلك الأمر، ونتيجة لذلك أعانوا أعداء الإسلام على تشويه سمعته. ألاَ، هذه هي الأوضاع التي يقول فيها الإسلام لا توالوا أعداءكم! لا توالوهم على حساب متطلبات الإسلام والعدل. هذه هي حكمة ذلك التعليم القرآني؛ فقد صرح القرآن المجيد بأن الله تعالى لا ينهى عن مصادقة أولئك الذين لا يضمرون العداوة لكم ولا يظلمونكم، بل أحرى بكم أن تعاملوهم بالحسنى. يقول تعالى:
هذا هو الإسلام، ولكنهم تجاهلوا تعاليم الإسلام الحكيمة، واتبعوا فهمهم الذي ألبسوه رداء الذكاء. فحيث تحرم الموالاة كانوا يوالون، وحيث أُمروا بالصداقة والموالاة وعُلِّموا كيف يوالون تجنبوها!
هذا هو آخر شكل من أشكال مرضهم. إنهم ابتعدوا عن التقوى.. وعن تعاليم الإسلام. قال المصطفى : لا يُلدغ المؤمن من جحر واحدٍ مرتين.. ولكن ما أكثر ما لُدغوا، ثم يضعون أصابعهم في نفس الجحر، وحتى اليوم لم يفهموا.
أما موقف الغرب فكل عاقل متبصر إذا حلله وجد أنه أيضا في الحقيقة موقف جاهل أحمق. فإنه برغم تكبد الخسائر مرة بعد أخرى لم يستطع تشخيص المرض، ولم يدرك أنه مادام هذا المرض فستستمر الأخطار تحوم حول العالم بنفس الطريقة تماما. ومن الناحية الأخرى، فإن البلاد الإسلامية أيضا، بالرغم مما قاسته مرارا وتكرارا.. لم يتعلموا من أخطائهم المتكررة. فما هو العلاج؟
العلاج الوحيد
إنه علاج واحد، علَّمنا إياه سيدُنا محمد المصطفى .. وقد ذكرته من قبل، وأود اليوم أن أذكركم به. هناك نبوءات طويلة أريد أن أشير إلى واحدة منها. جاء في الحديث النبوي الشريف: “… أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجتُ عبادًا لي لا يَدانِ لأحد بقتالهم، فحَرِّزْ عبادي إلى الطور (أي اجعله لهم حماية)… فيرغَب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله تعالى.. (أي يدعون الله ويرغبون إليه في إهلاك يأجوج ومأجوج، وإنجائهم من مكابدة بلائهم وشرهم..”. (صحيح مسلم، كتاب الفتن)
يقول النبي الأكرم في حديثه عن الأيام الآخرة إن يأجوج ومأجوج سوف يتسلطون على الأرض، وأنهم ينهضون موجة بعد موجة، وأن موجات سلطانهم سوف تغطي المعمورة كلها، وأن المسيحَ الموعودَ مجيئُه في الأمة الإسلامية سيحاول مع أتباعه قتالهم بقصد هزيمتهم. وعندئذ يخبر الله تعالى المسيح الموعود بأنه لا يملك إنسان على الأرض القوة على قتالهم، بل ولم يُعط المسيح الموعود نفسه هذه القوة أيضا. هناك علاج واحد: إنه اللجوء إلى الطور(الجبل) والابتهال إلى الله تعالى. فالدعاء هو وحده القوة التي تـؤدي إلى الفوز على هذه الأمم.
المراد من “الطُّور”
ولكن ما المراد بالطور، أي الجبل؟ أعتقد أن النبي الكريم هو المراد بالجبل هنا. يقول الله تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيتَه خاشعًا متصدِّعًا من خشيةِ الله ؛ أي لو أوحى الله تعالى هذا القرآن إلى جبل لاهتز لعظمته ولتحطم إلى شظايا. إن جبال الدنيا لا تملك القدرة على تحمل جلال هذا الوحي؛ ولكن المصطفى كان وحده أعظم الجبال وأعلاها وأشدها. فالمراد من قوله (فحرِّز عبادي إلى الطور) أن عُودوا إلى عَظَمة المصطفى ، وتعوذوا بتعاليم المصطفى . الجئوا إليها واستمدوا القوة منها. إذا فعلتم ذلك وابتهلتم إلى الله .. يكون دعاؤكم قد غُذِيَ من عظَمته، فلا يضيع أبدا، وتنالون نصيبا من عظَمته، كما تأخذ دعواتكم قسطا منها.
وإنما يؤكد على التقوى التي تُورث الفراسة، فتجعل المؤمن يرى بنور الله تبارك وتعالى. إن العقل والتقوى اسمان لمسمى واحد، وكل ذكاء محروم من التقوى سوف يؤول في النهاية حتما إلى الفشل والخسران. سمُّوه إن شئتم مهارة، ولكنه ليس ذكاء. فعالم اليوم.. من الشرق أو من الغرب.. خالٍ من الذكاء والفطنة الحقة.. لأنه محروم من التقوى.
العبرة الثانية
والعبرة الثانية..أنه لم يَرِد في الأحاديث أن الله تعالى أمر أحدًا من مسلمي ذلك الوقت أن يبتهل ويدعو؛ إنما أمر أتباع المسيح الموعود بالدعاء. ومعنى هذا أن إيمان الآخرين من مسلمي ذلك الوقت بقوة الدعاء يكون قد رُفع من الناحية العملية، ولن يولوا اهتماما بالدعاء. ومن لا قيمة عندهم للدعاء فلا معنى ولا فائدة من إشراكهم في وصفة الدعاء.
بوسعكم الآن رؤية تصريحات الحكام المسلمين التي تصدر الآن. فمنهم من يقول: هلموا إلى أمريكا، واطلبوا معونتها وحمايتها. ومنهم من يقيم معاهدة مع إيران أو يتفق معها في أمور لينتفع من قوتها. ولا أحد منهم يقترح الاتجاه إلى الملاذ الإلهي، ويفكر في ملجأ المصطفى . لم يذّكرهم أحد: أيها المسلمون، هذا وقت الدعاء والابتهال إلى الله تعالى.. لأنه السبيل الوحيد للنصر على الأعداء. ولكن هناك جماعة وحيدة فريدة.. جماعة الإمام المهدي والمسيح الموعود.. مسيح محمد المصطفى ..قدّر الله تعالى أن تكون نجاة العالم الإسلامي بفضل دعائهم، بشرط أن يلوذوا بملاذ عظَمة محمد المصطفى ، ويتحصنوا بشخصيته وسنته، ويواظبوا على التضرع والابتهال إلى الله تعالى.
ولو اقترِِحَ حل مؤقت لهذه المشكلة.. فليكن من المعلوم أنه سوف يكون الحل الذي يسير بأهل الشرق الأوسط وبالعالم كله نحو وضع أسوأ مريع للغاية. لن يكون حلا يزيل البلايا. إذا كان هناك حل فهو معكم أنتم.. يا جماعة المسيح المحمدي. عليكم أن تتضرعوا إلى الله تعالى بلا انقطاع، لأن هذه الآلام سوف تستمر إلى زمن طويل، وللموقف تقلبات كثيرة، وسوف يدخل في مراحل متجددة. وإذن فلا تؤخروا الدعاء، فلم يفت الوقت بعد، ونحن القوم الذين دَعَوْا من قبل.
وعلى ضوء الموقف كما حللته أمامكم.. أؤكد لكم أنه لا علاج لأمراض هذه الدنيا، وأمراض الأمة الإسلامية سوى الدعاء. وعليكم أيضا أن تبتهلوا من أجل العالم الغربي، كي يمنحهم الله العقل والفطنة. لقد فشلوا من قبل مرات عديدة في أن يحلوا مشكلات الدنيا بمكرهم وسياستهم. لم ينجح مكرهم وذكاؤهم مرة واحدة، ولم يكن لـه نفع للعالم، بسبب دوافعهم الأنانية وراء مهارتهم، وإفراطهم في الغرور خلف قراراتهم النهائية. إن الذكاء الحقيقي هو في التقوى، والدنيا لم تفهم هذا السر بعد. عندما يؤكد القرآن الكريم على التقوى فإنه لا يقصد أن نكون كالملات المجانين (المشائخ المتعصبين)، وإنما يؤكد على التقوى التي تُورث الفراسة، فتجعل المؤمن يرى بنور الله تبارك وتعالى. إن العقل والتقوى اسمان لمسمى واحد، وكل ذكاء محروم من التقوى سوف يؤول في النهاية حتما إلى الفشل والخسران. سمُّوه إن شئتم مهارة، ولكنه ليس ذكاء. فعالم اليوم.. من الشرق أو من الغرب.. خالٍ من الذكاء والفطنة الحقة.. لأنه محروم من التقوى.
فيا جماعة محمد المصطفى .. يا جماعة المسيح المحمدي ( ).. الذين حملتم أمانة التقوى.. أَوْفُوا بحق هذه الأمانة. وما دمتم باقين عليها مستحقين لهذه الأمانة.. فلسوف يهبكم الله النصر، وتمضون قادرين على قلب المستحيل ممكنا، ولسوف تظهرونه للعالم. عسى الله تعالى أن يعيننا على تحقيق ذلك! آمين!
24 أغسطس 1991