حضرة مولانا نور الدين
رضي الله عنه
الخليفة الأول لسيدنا المهدي والمسيح الموعود
قال سيدنا المهدي والمسيح في بيت شعر بالفارسية:
ما أجمل أن يكون كل واحد من الأمة (نور الدين) وهذا ممكن فقط إذا ما كان كل قلب مفعما بنور اليقين.
وقال: لقد قربه الله إليه بيده القوية وأثرت القوة السماوية فيه تأثيرا خارقا للعادة. لقد آمن بي بدون تردد في الوقت الذي انهالت فيه علي الأصوات بالتكفير وفسخ العديد من المبايعين بيعتهم وغيرهم ضعفوا وترددوا. وأول رسالة جاءتني منه عندئذ في قاديان وصدقني فيها في دعواي بكوني المسيح الموعود كتب فيها: آمنا وصدقنا فاكتبنا مع الشاهدين)
(إزالة الأوهام الجزء الثاني الخزائن الروحانية ج3 ص 521)
ولد حضرة مولانا نور الدين في عام1842في بلدة بهيرة من مقاطعة سرجودا (بباكستان الآن) إسم والده المحترم حافظ غلام رسول ووالدته نور بخت. وينتهي نسبه إلى سيدنا الفاروق بعد تعاقب إثنين وثلاثين جيلا. وأمه من سلالة سيدنا علي كرم الله وجهه. لقد توفي والده وجميع إخوانه قبل أن يعلن سيدنا المهدي والمسيح الموعود عن دعوته ماعدا واحدة من أخواته التي كانت حية عندما ذهب حضرة نور الدين لأول مرة إلى قاديان لرؤية سيدنا المهدي .
في عام 1853وهو في الثانية عشرة من العمر سافر حضرته إلى لاهور لتحصيل العلوم الدينية ثم رجع إلى مسقط رأسه بهيرة بعد عامين. ويجب التذكير هنا بأن المدارس في تلك الأيام لم تكن ملائمة كما هي اليوم وأن الأساتذة المتعلمين كانوا يدرسون المواضيع الخاصة في منازلهم. وخلال تلك الفترة أصبح حضرة نور الدين مهتما شديد الأهتمام بتعلم ودراسة القرآن الكريم.
في عام 1855و1856 ابتدأت الحرب بين تركيا وروسيا فاستأذن حضرته والده للانضمام إلى صفوف الجيش التركي للجهاد في الحرب المقدسة ولكن والدته لم تأذن له بذلك فلم يذهب طاعة لها إلى تركيا.
في عام 1858 التحق حضرته بمدرسة عادية في راولبندي، وفي تلك الفترة بدأ يطلع على الديانة المسيحية. وبعد أن أنهى دراسته من المدرسة اشتغل كمدير لمدرسة متوسطة في مقاطعة جهلم كما درس هناك اللغة الفارسية أيضا.
بعد ذلك بقليل سنحت له الفرصة بتحصيل دراسة عليا في رام بور حيث نال حظا وافرا من لقاء حضرة شاه عبد الرزاق وقد تعلم منه الكثير من العلوم الروحية. وبعد أن مكث هناك مدة ثلاث سنوات توجه منها إلى لكنهو للاستزادة من المعرفة ولكنه عاد إلى رامبور وتلقى بعض العلوم في الطب. ومن هناك توجه إلى بلدة ميريت ومنها إلى دلهي حيث تابع دراسة الطب واللغة العربية أيضا من محمد إسماعيل وشاه عبد الغني وغيرهما. ولكنه لم يكتف بتلك المعرفة والعلوم التي اكتسبها فسافر إلى بهوبال حيث أتيحت له الفرصة بالإقامة مع منشي جمال الدين وكان يعتبر من علماء ذلك العصر.
في عام 1865 أو 1866توجه حضرته إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وهناك أقام في منزل صديقه القديم محمد حسان الذي كان ينتمي أصلا إلى مقاطعة السند. وخلال إقامته في مكة انكب حضرته على قراءة كتب الحديث للرسول التي كانت بحوزة الشيخ محمد خزرجي الذي علمه بعض الكتب مثل: سنن أبو داود، وابن ماجة، والموطأ، وخلال فترة إقامته بلكهنو ورامبو كان يدَرِّسُ بعض التلاميذ بجانب متابعته لدراسة علوم الطب الشرقي، ولكن خلال السنة والنصف التي أقامها في مكة، اهتم اهتماما خاصا للأساليب الغربية في التداوي.
بعد ذلك توجه إلى المدينة المنورة حيث نال ثروة علمية بحفظه أربعين حديثا صحيحا للرسول من الأستاذ شاه عبد الغني. وقد وصل إلى درجة مشرفة في هذا المجال حتى اعتبره العلماء بأنه المحدث العشرون للأحاديث النبوية الشريفة، وتلك الأربعون حديثا التي حفظها حضرته هي نفسها التي نشرها الأستاذ شاه ولي الله الدهلوي في الكتاب المعروف بــ “الأربعين”.
في العام 1868 إلى 1869 عاد حضرته إلى مكة لأداء الحج مرة ثانية. وبعد الحج توجه إلى جدة حيث ركب الباخرة إلى بومباي ومنها توجه إلى دلهي حيث كان الأستاذ محمد قاسم النانوتوي يدرس الأحاديث النبوية في ذلك الوقت.
وعندما وصل إلى بهيرة واجه عاصفة شديدة من المعارضين نظرا لطريقة تفكيره الحر الذي أثار غضب العلماء ورجال الدين الذين ترأسوا تلك المعارضة حتى حاول بعضهم قتله. ولكن عامة الناس رحبوا به واحترموه.
تزوج حضرته للمرة الأولى وسنُّه حوالي 30 عاما. أما زوجته فكانت من عائلة محترمة جدا وهي فاطمة بيبي ابنة الشيخ مفتي قريشي.
وفي بهيرة بدأ بإعطاء دروس القرآن الكريم في المسجد القريب من منزله. كما بدأ في مزاولة مهنته كطبيب. ولكن بعد قليل من الوقت استلم رسالة من الأستاذ منشي جمال الدين من بهوبال يسأله فيها أن يعمل كطبيب هناك. وهكذا توجه إلى بهوبال. ولكنه استلم الخبر المفجع بوفاة أخيه الكبير. مما اضطره للعودة إلى بهيرة ولكنه عاد بعد فترة وجيزة إلى بهوبال. وكان وجوده موضع سرور ومنفعة لسكان تلك البلدة لاكتسابهم من علومه الروحية ومن علمه كطبيب أيضا. ونال من الشهرة بحيث أن مهراجا (كشمير وجامو) طلب منه أن يكون مستشاره الطبي الخاص. فقبل العرض وسكن في بلدة سري نكر كطبيب للمهراجا.
في عام 1880 و81 اقترح الشيخ محمد حسين البطالوي وعدد من علماء الدين بتأسيس جميعة باسم لجنة حماية الإسلام وقد اشترك في تلك اللجنة عديد من علماء الهند المعروفين وانضم حضرة نور الدين أيضا إلى أعضائها.
وفي عام 1881 سقط حضرته عن ظهر الحصان وأصيب مما اضطره للبقاء في المنزل حوالي شهر للعلاج. وخلال تلك الأيام انكب حضرته على حفظ اثني عشر جزءا من القرآن الكريم. بينما كان حضرته في جامو سمع من الشيخ ركن الدين عن حضرة مرزا غلام أحمد القاطن في قاديان. وعلى الأرجح أنه ذهب إلى قاديان في العام 1879بحثا عن الحقيقة، حقيقة الإسلام، حقيقة دعوة المهدي والمسيح الموعود . وبينما هو في قاديان، طلب منه سيدنا المهدي والمسيح الموعود أن يكتب كتابا يدحض فيه معتقدات المسيحيين. فكتب ونشر الكتاب في عام 1887 تحت عنوان “فصل الخطاب”.
في عام 1889 بدأ الإمام المهدي والمسيح الموعود مهمته الروحية بأمر من الله تعالى وشرع في قبول المبايعة التي كانت أول أسس الجماعة الإسلامية الأحمدية وكان حضرة نور الدين أول المبايعين.
كان لحضرة نور الدين مركز كبير في بلاط مهراجا كشمير ولكن لسبب ما بدأ المهراجا يظهر علامات الضيق منه حتى سأله أن يترك ولايته في 1893. فعاد حضرته من كشمير وشرع ببناء منزله في بهيره وخلال زيارته للاهور لشراء بعض مواد البناء قرر الذهاب إلى قاديان لزيارة حضرة ميرزا غلام أحمد لأن قاديان قريبة من لاهور. وأثناء الزيارة طلب منه حضرة أحمد أن يقيم معه وقتا أطول مادام لا يعمل عند المهراجا الآن. وعلى الفور أجاب حضرة نور الدين بالإيجاب دون أن يوضح له ظروفه ومشاريعه في بهيره. وبعد بضعة أسابيع اقترح عليه سيدنا المهدي والمسيح الموعود بأن يرسل في طلب إحدى زوجتيه للحضور والبقاء معه. وعلى الفور أجاب حضرته بالإيجاب أيضا وأرسل في طلب زوجته من بهيره، بعد بضعة أيام اقترح عليه سيدنا المهدي والمسيح الموعود بأن يرسل في طلب زوجته الثانية للحضور إلى قاديان أيضا. فأطاع الأمر، وبعد ذلك لم يفكر أبدًا في العودة إلى بهيرة أو حتى في إتمام المنزل الذي شرع في بنائه.
في 26/5/1908 انتقل سيدنا المهدي والمسيح الموعود إلى الرفيق الأعلى وفي اليوم التالي في 27/5/1908 انتخب حضرة نور الدين كأول خليفة له. لقد دُوِّنَ في قرار اجتماع انتخاب الخليفة بأن يطاع كل أمر للخليفة كما كانت تطاع وتنفذ أوامر سيدنا المهدي والمسيح الموعود .
لقد نشأت وتوطدت الخلافة في الجماعة الإسلامية الأحمدية بفضل الله تعالى ثم بقوة إيمان وعلم وحزم حضرة نور الدين. لقد شمله الله تعالى برأفته ورحمته. لقد أثبت عن نفسه بأنه من أشد أتباع المهدي والمسيح الموعود حبا وحماسا له وغيرة عليه. ونظرا لشدة إخلاصه لسيدنا المهدي والمسيح الموعود فقد شاء الله تعالى أن يجعله أول خليفة له. وخلال توليه مهام الخلافة أكد بالتدبير المنظم والحازم على أهمية الخلافة في الجماعة الأحمدية ولم يكن من أحد أكثر ملاءمة من حضرته لقيادة الجماعة في ذلك الوقت. والخدمات التي قدمها حضرته ستكتب على صفحات التاريخ بأحرف من نور.
عند انتخاب الخليفة بعد وفاة سيدنا المهدي والمسيح الموعود لم يقف أحد معارضا لحضرة نور الدين بل كلهم وافقوا على إطاعة الخليفة كما كان الخليفة يطيع المهدي والمسيح الموعود . ولكن، واحسراته فقد اتخذ بعض من هؤلاء الذين كتبوا قرارات اجتماع انتخاب الخليفة الذي وافقوا فيه على إطاعته طريقًا مغايرًا. فقال بعضهم بأنّ قرارات “صدر أنجمن أحمدية” (وهي المؤسسة الإدارية للجماعة) هي أهم وأعلى من قرار الخليفة، ولا يجوز له أن ينقضها أو أن يتخطّاها. عندما علم الخليفة بتلك الأفكار، تضايق أشدّ الضيق، ودعا في الحال إلى اجتماع طارئ لرئاسة “صدر أنجمن أحمدية”. فحضر معظم أعضاء الجماعة البارزين ذلك الاجتماع وأتوا من قريب وبعيد، ونظرًا لأهمية الاجتماع المنعقد في قاديان وحضره حوالي ٢٥٠ عضوًا، وبعد الدعاء أمام الله تعالى باشروا في مشاوراتهم ومباحثهم.
في صلاة فجر ذلك اليوم تلا حضرة الخليفة الأول سورة البروج من القرآن الكريم. وكان عدد كبير ممن حضروا للاشتراك في ذلك الاجتماع مصممين بكل إخلاص للوصول على قرارٍ معقول، ولكن البعض ممن اعتبروا أنفسهم ذوي أهميةٍ عظمى، أصّروا على وجهات نظرهم. ولكن حضرة الخليفة أمرهم أن يكفوا عن المداولة في الموضوع، ووقف على سطح المسجد وألقى فيهم خطابًا مؤثِّرًا، وضّح لهم فيه بأنّ قرار الخليفة هو النهائي والأهم من قرار “صدر أنجمن أحمدية” وهو السلطة العليا على كل الجماعة وكذلك على “صدر أنجمن أحمدية” وعليهما إطاعة أوامر الخليفة. كما بيَّن أنّ لجنة “صدر أنجمن أحمدية” ما هي إلا جسدٌ استشاري لا غير.
وكل من حضر الاجتماع وسمع الخطاب وافق على ذلك الإعلان، ولكن المولوي محمد علي، وخواجة كمال الدين والدكتور ميرزا يعقوب بك وغيرهم لم يستحسنوا ذلك القرار. فأمر الخليفة حضرة محمد علي والخواجة كمال الدين بأن يُعيدا قَسَمَ المبايعة للخليفة من جديد ففعلا.
خلال حياة حضرته، لم يرفع هؤلاء أصواتهم ضده مرةً ثانية ولم يجبرهم على ذلك. ولكن بما أنّهم لم يكونوا مخلصين في قلوبهم فقد فصلوا أنفسهم عن الأتباع الحقيقيين لسيدنا المهدي والمسيح الموعود ، ثم تركوا قاديان واستقروا في لاهور، وسمُّوا أنفسهم “القسم اللاهوري للجماعة الأحمدية”.
هذه الحادثة مهمة في تاريخ الأحمدية، لذا وجب سردها حتى يعلم من كان يجهل الحقيقة. ومع أنّ حضرة الخليفة الأول قد أبقى هؤلاء المنشقّين على صلةٍ مع الجماعة، ولكن بعد أن توفاه الله تعالى، رفضوا قبول الخليفة الثاني مرزا بشير الدين محمود أحمد . ونتيجةً لهذا الانحراف غيّروا من وجهات نظرهم، وبالتالي رفضوا الخلافة في الجماعة الإسلامية الأحمدية.
إنّ حضرة الخليفة الأول أكّد للجماعة بكل أمانةٍ وصدق بأنّهم ما داموا يؤمنون بالخلافة فإنهم سيرثون على الدوام فضلاً ورحمة من الله .
* في 13، 3، 1914 توفي حضرة الخليفة الأول (إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون). ولقد كتبت معظم الصحف الهندية آنذاك عن أصليّة وحسنات وأعمال المرحوم واعتبرته كعلمٍ من أعلام المسلمين المخلصين جدا.
وهذه بعض الأسطر من كتاب “تاريخ الأحمدية”، المجلد الرابع ص 554:
لقد عَلَت وجوه الحشود الغفير أشدُّ معالم الحزن والأسى على رحيل محبوبهم وصديقهم الخليفة الأول حضرة نور الدين. كانت القلوب مجروحة والأعين دامعة، وهم يحملون نعشه إلى مثواه الأخير حيث رقد بجانب القبر المبارك لصديقه وسيده المحبوب حضرة مرزا غلام أحمد المهدي والمسيح الموعود “.
أيها الراحل، بارك الله لك لقيامك خير القيام بمهام الخليفة على المسلمين الأحمديين، فجمعتَ شملهم تحت رايتك. إنّك ترحل الآن إلى سباتٍ أبديّ في جانب سيدك وصديقك. بارك الله لك هذا المقام.
ويا أيُّها المبارك، يا من حلَّ محلَّ من رحل، وتصدرت عرش الخلافة، فلتنزل عليك البركات الإلهيّة نزول السيل، لأنك تمكنت على عرش الخلافة من بين السُحب الراعدة. فَلْيُمكِّنك الله من منح السلام والهدوء والسكينة لأصحابك وأتباعك. إنك خرجت من بيننا ولكنك علوتَ وستعلو مع من علا مصحوبًا ببركات الله العليا. (الفضل 18، 3، 1914 ص 1).
وهذه بعض أقوال الصحف الهندية عن وفاة حضرة الخليفة الأول :
كتب حضرة ظفر علي خان مرر جريدة “زمين دار” الصادرة من لاهور:
وهكذا كان يفعل الكثير من قادة المسلمين المشهورين الذين كانوا يُكنُّون لحضرته أشدَّ الاحترام ومنهم مولانا محمد علي، ونوَّاب وقار المـــُلك، حضرة ظفر علي خان، العالم شبلي النعماني، نواب محسن المـــُلك، وحضرة عبد الحق مؤلف التفسير الحقّاني، وخواجه حسن نظامي، وكثير من المعروفين غيرهم.
لا يمكن حصر التلاميذ الذين تردَّدوا عليه لتحصيل العلم والمعرفة. كان حقًّا قائدًا لا يهاب، رغم مواجهته المعارضة المريرة من علماء البلاد وخصوصًا أولئك الذين قطنوا في كشمير. ولكن كل من وقف في صف معارضيه، كان مصيره الفشل الذريع والهزيمة الساحقة.
لقد امتاز حضرته بصفة حبّ اختيار الأحسن، فلم يقبل إلا ما هو حقيقي وصادق. أما ثانية صفاته الحسنى، بل هي الأولى، هي اعتماده الدائم والكليّ على الله . إنّه حقًّا من المؤمنين الصادقين بالله الوهاب، وهو صفة كان يملكها قبل أن يصبح أحمديًا، ولكنها ازدادت كثيرا بعد ذلك.
إلى جانب تدريسه في المدرسة المتوسطة، كان يتلقى الدروس العربية من أخيه الكبير وأتمَّ بعض الكتب مثل كتاب “الألفيّة” والكتب الابتدائيّة في المنطق وكذلك فلسفة اللغات. كما درس الكتاب المعروف “بالعقائد النسفيّة”. ورغم حبّه للعلوم وانغماسه في الدراسات المختلفة كان دائم الاعتماد على الله . وهاكم حادثة كما ذكرها حضرته بنفسه فيقول:
عندما كنت المدير المسؤول لمدرسة بلدة “بند دادن خان” حضر المفتش إلى المدرسة وأنا أتناول طعامي. فدعوته لمشاركة طعامي، ولكنه رفض قائلاً: يبدو أنك لا تعرف بأنني مفتش المدارس؟! فقلت له، إنك ولا شك رجلٌ تقي، ولذلك لا تحبُّ مشاركة المدرِّسين في طعامهم، حتى لا يكون طعامهم رشوةً لك. وتابعتُ تناول طعامي، والمفتش ما زال واقفًا بجانب حصانه. فقال لي: يمكنك متابعة طعامك، ولكن ادْعُ لي أحدًا ليعتني بالحصان. قلتُ له: يا سيدي، إنّك لا تأكل الطعام مع المدرِّسين مخافة اعتباره من باب الرشوة، فكيف يمكن لي أن أُنادي أحد التلاميذ ليعتني بحصانك؟ إذا كان تقديمي الطعام لك نوعًا من الرشوة، أليس تقديم العشب للحصان نوعًا من الرشوة أيضا؟ وأثناء ذلك حضر خادمه وقدَّم العشب للحصان، ثم بدأ بتحضير طعام سيّده.
وحينما كان يمتحن طلاب المدرسة، قال لي: سمعتُ أنّك أستاذ مقتدر ونلتَ الكثير من الشهادات، وربما هذا ما يجعلك فخورًا بنفسك. فقلت له: إنني لا أُعير أي اهتمام لهذه الشهادات. ثم أحضرتُ الشهادات ومزقّتُها تمامًا أمامه حتى يتيقّن أن إيماني بالله أكبر بكثير من الإيمان بتلك الأوراق المسمّاة بالشهادات. وما أن رآني المفتش أفعل ذلك، حتى بدت على وجهه علامات الدهشة والأسف معًا، لأنّه ظنَّ بأنه كان السبب في خسارتي لتلك الشهادات، ولكن في الحقيقة أنه منذ ذلك اليوم الذي مزَّقتُ فيه الشهادات فإنَّ دَخلي زاد أضعافًا مضاعفة وكسبتُ مئات الآلاف.
وبعد أن استقلتُ من منصبي كمدير لتلك المدرسة، أمرني والدي أن أُتابع دراسة اللغة العربية. فبدأتُ أخذ الدروس من حضرة أحمد الدين. ولكن هذا الأستاذ كان منهمكًا في إتمام بناء المسجد، مما اضطُره للتنقل الدائم، وكان عليَّ ان ألحق به وأسافر معه حتى أُتمم الكتب. وذلك السفر المستمر كان متعبًا لي. فطلبتُ من أخي سلطان أحمد أن يجد لي أستاذًا آخر. وهكذا بدأت دروسي مع المولوي حكيم بخش وأساتذة آخرين.
بعد ذلك مرض حضرته، وحالما شُفيَ واستردَّ عافيته، قرَّر حضرته الذهاب إلى “لكنهو” والمكوث هناك مع أحد أصدقاء أخيه واسمه عبد الرحمان وهو صاحب “مطبعة نظامي” وذكر له أخوه أحد الأطباء المعروفين هناك واسمه علي حسين.
استقل حضرة نور الدين القطار، ولكن طريقة وصوله إلى “لكنهو” وكيفية تدبير إقامته وعثوره على الطبيب المعروف علي حسين كان حدثًا غريبًا، وقد كتب حضرته بهذا الخصوص واصفًا تلك الحادثة فقال:
كان الجو حارًّا جدًّا، والشمس محرقة، والطريق رمليّة، فما وصلت إلى “لكنهو” إلا مُغبرًّا من أعلى رأسي إلى أخمص قدمي. وفجأةً توقفت العربة أمام أحد المنازل لسببٍ ما. فانتهزتُ الفرصة لأسأل عن عنوان الطبيب المشهور علي حسن، ولشدة غرابتي، وقفت العربة تمامًا أمام باب منزل الطبيب الذي أسأل عنه. فدخلت المنزل بنفس الحالة التي أنا عليها مغطَّى بغبار الطريق، ولكن الله تعالى كثيرًا ما يتغاضى عن أخطاء مخلوقاته الضعفاء. فحالما دخلتُ الغرفة، لاحظتُ رجلاً وسيمًا جالسًا على بساطٍ فارسي وعليه غطاءٌ أبيض ناصع، وكان متكئًا على وسادةٍ كبيرة. كان كل شيء في الغرفة قد أُحسنَ ترتيبُه وتنظيمه بطريقةٍ سارة للنظر. وفور دخول الغرفة، قلتُ “السلام عليكم”. وهذا النوع من السلام كان يُعتبر في عادات وتقاليد تلك المنطقة من البلاد شيئًا شاذًا جدًا، وخصوصًا عند تأديته لشخصٍ مرموق ومحترم. فردَّ الحكيم المرموق تحيتي بصوتٍ خافتٍ جدا. ولا أذكر إذا ما صافحني أم لا، ولكنني أذكر بأني جلستُ على نفس الغطاء الأبيض المفروش على الأرض في مكانٍ قريب من الحكيم نفسه. فسألني أحد الجالسين بجانبي وقال: من أيّ ركنٍ من أركان البلاد المتمدِّنة حضرت؟ قلتُ: إنَّ طريقة تحيتي مشابهةٌ لتحية الرسول ، وأنا أُطيعه، وهذا ما جعلني أُقدِّم تلك التحية!! كان وقعُ جوابي على سمع ذلك الحكيم المعروف كوقع الصدمة الكهربائيّة على البدن. فاستدار عني بوجهه نحو أصحابه وقال: لقد حضرتم مجالس الكثير من الملوك والأمراء، ولكن هل سمعتم مثل هذا الجواب الملائم من قبل؟ وهل عانيتم من هزيمةٍ مخزية مثل هذه من قبل؟ ثم توجّه إليَّ وسألني عن سبب مجيئي إليه. فقلت: حضرتُ لأتعلَّمَ فنَّ الطب والعلاج. فقال لي بأنه أصبح الآن كبيرًا ولم يعد يدرِّب الطلاب على ذلك الفن من العلاج.
هناك حادثة طريفة أخرى حصلت لحضرته. مرةً ذهب سيدنا المهدي والمسيح الموعود إلى دلهي، وأرسل إلى حضرته برقية يطلب منه الحضور إلى دلهي، وفور استلام البرقية نهض حضرته في الحال، ووضع حذاءه في رجليه وهرول إلى سكة الحديد، وهو يلفُّ ويربط عمامته على رأسه ولم يفكر بأنه لم يحمل نقودًا معه، وإنّما كل تفكيره في تلك اللحظات كان موجَّهًا إلى ملاقاة محبوبه في دلهي. ولكن أخبروه عند وصوله محطة “بطالا” بأنّ القطار سوف يتأخر. ولحسن الصدف، كان في المحطة رجلٌ ميسور الحال ممن تعرَّفوا على حضرته، وسأله الذهاب معه إلى منزله لفحص مريض هناك. فذهب معه وفحص المريض، وعند رجوعهما إلى المحطة اشترى له الرجل الميسور تذكرة القطار إلى دلهي، وأعطاه بعض النقود أيضا.
تلك كانت نبذة مختصرة من حياة حضرة نور الدين الخليفة الأول لسيدنا المهدي والمسيح الموعود . وهذه بعض الكتب التي كتبها حضرته .
- فصل الخطاب، نُشر عام 1887م،
- إجابات عن أسئلة الشيعة (81.. 1880)،
- إجابات على ثلاثة أسئلة لمسيحي (1887)،
- تصديق كتاب البراهين الأحمدية،
- بُطلان تناسخ الأراوح (1891)،
- نور الدين (1903)،
- بُهتان ألوهية المسيح (1893)،
- الرسالة الأولى في الإسلاميّات (1906)،
- حقيقة دعوة المسيح الموعود،
- مبادئ الصرف والنحو (1906)،
- ترجمة القرآن، الجزء الأول (1907)،
- مرآة اليقين في حياة نور الدين (1912)،
- خطبات نور (1912).