شرح الكلمات:
البيّنات – جمع بينة، وهي البراهين والآيات التي تكون بنفسها شاهدة على صدقها.
الهُدى– هو تلك التعاليم النازلة من الله وتوصل الإنسان إليه.
يلعنهم– اللعنة هي الإبعاد بالزجر والطرد.
التفسير:
اللاعنون قسمان: الأول – الذي اعتاد سب الآخرين ولعنهم، ولكن هذا المعنى لا ينطبق هنا، لأن الذي يسب ويلعن إخوانه لا شك أنه سيئ الأخلاق ومنافق ومخالف لتعليم القرآن.. فلا يمكن أن يكون هؤلاء سيئو الأخلاق ذوو النفوس المنافقة مع الله تعالى.. لأنهم ليسوا أظلالا له عز وجل. والثاني – هو ذلك الذي فوّض الله إليه هذا العمل. والذين يفوّض الله إليهم هذا العمل هم أنبياء الله ورسله، الذين يعلنون بوحي منه أن فلانا عرضة للعنة الله تعالى، وفلانا عرضة لسخطه. فاللاعنون هم تلك الشخصيات التي منحهم الله حق اللعن على الآخرين.
وقوله تعالى (بيّناه للناس في الكتاب).. ليس المراد من الناس هنا اليهود وإنما المسلمون، والكتاب هنا هو القرآن الكريم. ويقول الله هنا.. إنه بمجرد الإعلان عن هذه الحرب التي نلمح إليها ولم نعلن عنها بعد.. سوف يظهر نفاق المنافقين. إن هؤلاء الذين في قلوبهم النفاق هم أعداء الإيمان. كلما يُتلى عليهم أمر يتطلب التضحية ويثير الأعداء فإنهم يُخفون مثل هذه التعاليم عن الأعداء قائلين: صحيح أن ما نزل هو الحق، ولكن ما الحاجة إلى عرضه على الأعداء الآن؟ إنه سوف يثير سخطهم ويجعلهم يعارضوننا.
في الجماعات الإلهية- عندما تنـزل أحكام يثير العمل بها غضب الأعداء- توجد طبقة من الناس يولون اهتماما أكثر بسخط الأعداء ويُداهنون، ويُخفون مثل هذه الأحكام حتى لا يطلع عليها الناس بطريقة واضحة صحيحة فلا تثور حفيظتهم. ومثل هذه المداهنة والنفاق لا تحدث في زمن ضعف الجماعات الدينية وإنما في أيام قوتها وغلبتها. فلم ترفع أي فئة من المنافقين رأسها ما دام الرسول في مكة، ولكن في حياته المدنية عندما أخذ الإسلام يشتد عوده، وأعلن الله أن على المسلمين الاستمرار في الحرب ما لم يتم فتح مكة.. بدأ ضعفاء الإيمان هؤلاء يلقون إلى الكفار السَّلَم ليتجنبوا التعرض للأخطار والأضرار، وبدءوا يتوصلون إلى الكفار.. قائلين: إن محمدا رجل طيب مسالم، لا يريد حربكم، ولكن هناك بعض المتحمسين ذوي الطباع الثائرة يحضّونه على حربكم. كما كان هناك من يخفون كلام الله تعالى ويُطمئنون الأعداء قائلين: لن يصيبكم أي بأس ولا دمار. مع أن إخفاء الوعيد الإلهي ضد الكفار يُفقد قيمة الإنذار وعظمة الوعيد. أما لو قيل لهم إن هناك وعيدا بعذابكم.. والأفضل لكم أن تتوبوا.. عندئذ تقوم عليهم الحجة قبل حلول العذاب، وسوف يكون العذاب آية عظيمة عند ذوي العقل وأولي الألباب.. ولكن المنافقين يخفون مثل هذه الأمور حتى لا تفسد علاقتهم بالآخرين. يقول الله إن هؤلاء يُحرَمون من البركات الإلهية كلية، وعلاوة على تعرّضهم للعنة الله تعالى.. فسوف يلعنهم مَن خوّلهم الله سلطة اللعن.. كما فعل النبي وسيدنا المهدي وغيرهما من الأنبياء الآخرين – عليهم السلام –الذين لَعنوا أعداءهم (البخاري، التفسير؛ الترمذي، أبواب التفسير، آية: ليس لك من الأمر شيء؛ ونور الحق ص159؛ وتثنية 27؛ ومتى 32). بل لا يزال الناس يلعنونهم، وسوف تتوالى عليهم اللعنات إلى يوم القيامة.
يعترض بعض الناس على سيدنا المهدي والمسيح الموعود: لماذا لعن بعضَ أعدائه وسوَّد عدة صفحات من كتبه مرددا هذه الكلمة؟ ويظن هؤلاء أن سيدنا المهدي قد سبّ هؤلاء الناس، والعياذ بالله!
الحق أنه لم يسبهم، وإنما أعلن عن قضاء الله وقدره، وبين أن هؤلاء قد حُرموا من رحمة الله وأُبعدوا عنها بأعمالهم السيئة. ومثال ذلك أن يصدر قاضٍ قرارا في سَجنِ مجرمٍ زمنا ما. فقراره هذا يُعتبر صحيحا وجديرا بالقبول عند العقل. ولكن لو أن شخصا آخر لم يخوّل من قِبَل الحكومة لإصدار مثل هذا القرار قال عن أحد أنه يُسجن لمدة كذا.. فلا بد أن يعتبره الناس من المجانين. وكذلك فإن أنبياء الله هم قضاة روحانيون.. وإذا لم يعتبروا المجرمين مجرمين، ولم يُصدروا قضاءهم بشأنهم.. فإنهم أنفسهم يصبحون مجرمين، لأن هذا يدخل في صلب واجباتهم التي يتطلبها منهم منصبهم. ولكن غيرهم الذين يلعنون الآخرين بدون مبرر فإنما يفعلون ذلك لسوء أخلاقهم ودناءتهم، لأن الله تعالى لم يخولهم أي سلطة للعن الآخرين.
التفسير:
الناس في بلادنا عامة يظنون أن التوبة تعني أن يردِّد المرء كلمة التوبة بلسانه، فهذا يغفر له جميع ذنوبه. مع أن ترديد المرء كلمة التوبة بلسانه لا يجعله مستحقا لمغفرة الله ما لم يحدث تغيرا في أعماله. إن التوبة في الحقيقة تتكون من ثلاثة أمور: الأول – إقرار الإنسان باللسان بذنبه، الثاني- الندم في القلب على ذنبه، والثالث –تدارك وتلافي ما فعله عمليا. وهذا يعني أن يرجع الإنسان إلى نفس المقام الذي كان عليه قبل ارتكاب المعصية. ومثل هذه التوبة ليست أمرا هينا، وإنما هي بمثابة حدوث انقلاب عظيم في الروح الإنسانية.. لأنّ تولُّد كراهيةٍ شديدة في قلب الإنسان تجاه ذنوبه، ورغبة صادقة في نفسه للفوز بحب الله والحصول على الروحانية، وذوبان قلبه على عتبة الله تضرعا وبكاء، وفناء أهوائه السفلية الدنِية.. هذا كله بمثابة أن يصلب الإنسان نفسه لوجه الله تعالى، ويقضي على حياته السابقة.
ولكن لو أن شخصا آخر لم يخوّل من قِبَل الحكومة لإصدار مثل هذا القرار قال عن أحد أنه يُسجن لمدة كذا.. فلا بد أن يعتبره الناس من المجانين. وكذلك فإن أنبياء الله هم قضاة روحانيون.. وإذا لم يعتبروا المجرمين مجرمين، ولم يُصدروا قضاءهم بشأنهم.. فإنهم أنفسهم يصبحون مجرمين، لأن هذا يدخل في صلب واجباتهم التي يتطلبها منهم منصبهم.
إن المسيحيين الذين لا يقفون على حقيقة التوبة الإسلامية يعترضون عموما أن الإسلام قد فتح باب الإثم بفتح باب التوبة (ميزان الحق، للقسيس فاندر ص119-273). مع أن التوبة التي يقدمها الإسلام لا يمكن أن تكتمل ما لم يعترف الإنسان بذنبه بلسانه، وما لم يندم بقلب صادق على فعله، وما لم يتعهد بتجنب الذنب في المستقبل كلية، وما لم يتلافاه بعمل الخير والرجوع إلى الله. ومنذا الذي يقول بأن مثل هذه التوبة تشجع على الإثم؟ إنما تشجع على الإثم عقيدتهم القائلة إن المسيح تحمّل آثامهم، ولا حاجة لهم في يندموا أو يحزنوا على خطيئة. إن التوبة الإسلامية لا تشجع على الإثم، وإنما تستأصل الإثم برُمَّته، وتجعل من الإنسان إنسانا روحانيا جديدا. وعن مثل هؤلاء التائبين يقول الله هنا إنهم يرجعون إليه كلّية، ويندمون في قلوبهم بصدق، ويزيلون آثار الإثم، ولا يكتفون بذلك، بل يحاولون إصلاح عيوب الآخرين. وكأنهم لا يتغيرون وينفرون من سيئاتهم ويصلحون حالهم فقط، بل يحاولون إزالة عيوب الآخرين. ولا يكتفون بإصلاح ما حولهم، بل يعلنون على العالم أن دين الحق هو الإسلام وفيه نجاتهم. يقول الله تعالى (فأولئك أتوب عليهم).. أنا أيضا أتوب على مثل هؤلاء التائبين وأتفضل عليهم.
إن كلمة التوبة عندما تُستخدم في حق الله تعالى فإنما تعني رجوعه إلى العبد برحمته وفضله، وعندما تُستخدم في حق العبد فإنها تعني إظهار ندمه على ما فعل، واعترافه بخطئه، وخضوعه لله تعالى. يقول الله عز وجل: إن الذين يندمون على خطاياهم، ويعترفون بها، ويرجعون إليّ، ويهتمون بإصلاح الآخرين، ويتمسّكون بالإسلام بقوة.. أغفر لهم ذنوبهم، وآتي بهم مرة أخرى إلى نفس المقام الذي كانوا عليه من قبل، وأعيد عليهم أفضالي كما فعلت معهم سابقا لأنني أنا التواب الرحيم.. أشفق عليهم كثيرا وأرحمهم مرة بعد أخرى.