في ظلال دلالات "خاتم النبيين"

في ظلال دلالات “خاتم النبيين”

رد على استنتاجات أحد الإخوة المسيحيين العرب

إعداد: قسم المتابعة بالمجلة

زار مؤخرا مركز الجماع الإسلامية الأحمدية بلندن أحد الإخوة المسيحيين  العرب حيث التقى بإمام المسجد الذي وضح له نقاطًا عدة حول معتقدات الجماعة. وقبل المغادرة ترك الضيف الكريم رسالة ضمنها استنتاجات عدة له من النص القرآني. رأت التقوى أن تنشر ردًا عليها كي تكون المنفعة شاملة. وإليكم في ما يلي نص الرسالة:

ماذا يقول القرآن الكريم في مسألة “مُحمّد خَآتم النَبيين”

هذه هي صفة محمد الأخيرة في القرآن العربي

مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ (الأحزاب: 41).

وللفظ “خاتم” قراءتان: على الكسر (خاتِم) بمعنى خاتمة الأنبياء؛ وعلى الفتح (خاتَم) بمعنى آلة الختم (تفسير الجلالين). وليس في القرآن كله صفة لمحمد بمعنى خاتمة الأنبياء، إنما يرد هذا المعنى للمسيح وحده، بلفظ “قفينا بعيسى” (سورة البقرة: 88، سورة المآئدة: 46، سورة الحديد: 28)، وليس من نص قرآني يقول بأنه “قُفِّي” على المسيح بأحد البتة، إنما الوصف المتواتر في القرآن لمحمد بأنه “خاتَم” أي مصدق، كما يصدق الختم رسالةً أو كتابًا. فمحمد والقرآن هما “مصدق لما معهم” (سورة البقرة 90، 102)؛ “مصدق لما معكم” (سورة آل عمران: 102)؛ “مصدق الذي بين يدية” (سورة الأنعام: 93)؛  “مصدقًا لما معكم” (سورة البقرة: 42؛ سورة النساء: 48) “مصدقًا لما معهم” (سورة البقرة: 92) “مصدقًا لما بين يديه” أي قبله (سورة البقرة: 98؛ سورة آل عمران: 4؛ سورة المائدة: 49، 51، سورة فاطر: 32؛ سورة الأحقاف: 31).

فالقرآن “كتاب مصدق لسانًا عربيًا” (سورة الأحقاف: 13)، فهو ليس مفترى على الله، “ولكن تصديق الذي بين يديه -(قبله)- وتفصيل الكتاب” (سورة يونس: 38).

تلك هي صفة القرآن المتواتر، فهو “بلاغًا من الله ورسالاته” السابقة (سورة الجن: 24)، ومحمد هو “خاتَم النبيين” بصفة كونه مصدقًا لهم، وذلك بنص القرآن القاطع. فنبوءة محمد ورسالته تقتصر على “تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب” بالقرآن العربي الذي هو “كتاب مصدق، لسانًا عربيًا”. وهكذا فالنبوءة القرآنية هداية إلى الكتاب، بنص القرآن القاطع: “وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن” معهم (أهل الكتاب) (سورة النمل: 92-93)- قابل (سورة القصص: 53-54). والرسالة القرآنية هي دعوة إلى العرب بالدعوة الكتابية (النصرانية)، دين موسى وعيسى معًا الذي شرعه (الله) لهم (سورة الشورى: 14).

فهكذا محمد “نبي ورسول” باطلاعه على “الغيب” المنزّل في الكتاب الإمام والكتاب المنير، أي التوراة والانجيل، ونقله إلى العرب في “تفصيل الكتاب” بالقرآن العربي، وتعريب التنزيل يسمى تفصيلاً: “أنزل إليكم الكتاب مفصلاً” (سورة الأنعام: 115)

وهذا ما يظهر أيضًا في مرادفات النبي الرسول:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (الأحزاب: 46-47).

فالمرادفات الأربعة هي “شاهد وداع، “بشير ونذير” فهو نبي ورسول بمعنى “نذير وبشير” (سورة البقرة: 119؛ سورة الأعراف: 189؛ سورة هود: 3؛ سورة فاطر: 25؛ سورة سبأ: 29… أو “مبشر ونذير” (سورة الإسراء…) لاحظ كثرة الحصر والقصر في هذا النص القرآني لبيان معنى النبوة فيه…

فهذا الحصر والقصر المتواتر في نبوته يدل على معناها وهذا المعنى يظهر أيضا من قوله :”إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا” “وإن من أمة إلا خلا فيها نذير” (سورة فاطر: 25)؛ فهو نذير كما في كل أمة نذير؛ ومن مثل قوله ” إنما أنت منذر ولكل قوم ٍ هادٍ” (سورة الرعد: 8) فهو نبي ورسول أي منذر، كما لكل قوم هاد يهديهم، وفضل محمد على المنذرين أنه يهديهم إلى كتب الله، في التوراة والإنجيل إلى إسلام أولي العلم المقسطين” الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين” (سورة القصص: 54)، الذين يرون في المسيح وأمه” آية للعالمين”. (التقوى): ولقد أرسلنا هذه الرسالة إلى الكاتب الأردني الأستاذ تميم أبو دقة وقد رد عليها مشكورًا بما يلي:

ردًا على “ماذا يقول القرآن الكريم في مسألة محمد خاتم النبيين”

أورد الأخ الكريم في بداية مقاله الآية الكريمة التالية:

مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ… (الأحزاب: 41)

ثم ذكر ما ورد في تفسير الجلالين حول معنى كلمة خاتم من أنها إن كانت بكسر التاء فهي بمعنى خاتمة الأنبياء وإن كانت بفتحها فهي تعني آلة الختم ويتابع فيقول: “ليس في القرآن كله صفة لمحمد بمعنى خاتمة الأنبياء، إنما ورد هذا المعنى للمسيح وحده.

نقول للأخ الكريم أن القرآن الكريم قد وصف محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه خاتَم الأنبياء، ولم يصفه بأنه آخر الأنبياء، وكذلك لا يوجد في القرآن وصف أم معنى يشير إلى أن المسيح هو خاتمة الأنبياء، وإنما يقر القرآن بأنه آخر أنبياء بني إسرائيل، والظاهر أن الأخ الكريم لم يفرق بين الخاتم والآخر، ولا نلومه على ذلك فكثير من المسلمين لا يفرقون بين الكلمتين يظنون أنهما تحملان نفس المعنى، وفي حقيقة الأمر فإن الفرق شاسع بين الخاتَ والآخر وهذا ما سنوضحه إن شاء الله.

لا يجوز القول بأن القرآن قد أعطى صفة خاتَم النبيين للمسيح، لأن القرآن لم يعطه هذه الصفة لا تصريحًا ولا تلميحًا، وإنما يمكن القول أن القرآن قد بيّن بأن المسيح آخر (وليس خاتم) رسل بني إسرائيل وصرح بأنه قد قَفّى على أنبياء بني إسرائيل ولم يُقفى عليه بأحد، بمعنى أنه لم يبعث في بني إسرائيل نبي بعده.

ولإيضاح هذه النقطة علينا أن نعود إلى الآية السابقة لنستوعب مفهوم خاتَم النبيين الذي هو من أهم نقاط الخلاف بيننا نحن المسلمين الأحمديين وبين سائر المسلمين.

تنفي الآية السابقة الأبوة المادية لمحمد صلى الله عليه وسلم لأحد من رجال المسلمين، وإنما تقر بأنه أب للمؤمنين جميعًا وأب للأنبياء جميعًا، وهذا المقام أعظم بكثير مما لو كان أبًا فقط لأبناء من صلبه، لأنه لو عاش له عقب من صلبه فلا يمكن لهم مهما بلغوا من الدرجات أن يبلغوا مقام المؤمنين جميعًا ومقام النبيين جميعًا، وإمعان النظر في الآية يوضح أن هذا هو المقصود، لأن الآية تستخدم “لكن” التي تفيد الاستدراك والمستدرك منه من نفس النوع، (فنقول: إن سعيدًا ليس والد زيد ولكنه والد عمرو. ولا نقول: إن سعيدًا ليس والد زيد ولكنه رجل وسيم، فما علاقة كونه وسيمًا بكونه أبًا لزيد أو لعمرو؟! فالحديث متعلق بموضوع الأبوة وتوضيحها، كذلك الآية السابقة متعلقة بأبوة الرسول وكيف أن مقامه كرسولٍ لله وكخاتَم الرسل إنما هي أبوة أعظم كثيرًا من كونه أبًا لعقب من صلبه، ولا يوجد في سياق الكلام ما يدل على أن هذه الآية تتحدث عن انقطاع النبوة بعده أو عن كونه آخر الأنبياء، وإلا لكان سياق الآيات يتحدث عن الرسل السابقين وعن بعثهم وكيف أن رسالته جاءت آخر رسالة، وإذن لاستخدمت الآية كلمة آخر التي تتكرر في القرآن كثيرًا، وتعني معناها الحقيقي، فمثلاً يستخدم القرآن الكريم تعبير “اليوم الآخر” للدلالة على يوم القيامة ولم يستخدم تعبير “اليوم الخاتم” ولا مرة واحدة، فإن كان للكلمتين نفس المعنى فلماذا لم يستخدم التعبير الثاني؟!

فبذلك يكون الرسول قد صدّق الأنبياء السابقين جميعًا، بل ألزم من يصدّق به أن يصدقهم دون استثناء، وصادق على نبوتهم وختمهم بختم النبوة وأزال كل الشبهات عن نبوتهم، وبذلك يكون قد طوى ملفًا من الافتراءات كان لا بد له أن يطويه بصفته سيد الأنبياء وأباهم الروحي، وهذه المهمة التي وكلت إليه لا تكون إلا لسيدهم ولأعظمهم بالضرورة

في حقيقة الأمر إن معنى الخاتَم في اللغة هو أفضل الشيء وأجمله وخير ما فيه وخلاصته، وهو كذلك ما يوضع في الإصبع للزينة، وهو أيضًا الأداة التي تستخدم للختم لإضفاء علامة مميزة على الوثائق والمستندات والرسائل، ووفقًا لهذه المعاني يجب أن نستوعب مفهوم خاتم النبيين.

لقد نشأ الالتباس في المعنى بين كلمتي “خاتَم” وآخر بسبب أن نتائج الأمور وخلاصتها وأفضل ما فيها غالبًا ما تكون في أواخرها، كذلك فإن الوثائق والرسائل تختم في أواخرها، مما جعل البعض يظنون أن الخاتم هو الآخر والخاتمة هي النهاية، مع أن الخاتمة في الكتب والمقالات والخطب قد لا تكون آخر ما يكتب أو يلقى وإنما قد يتبعها بعض الملاحق والفهرس والمراجع، ولكنها تكون تلخيصًا لما أراد المؤلف أو الخطيب أن يقوله، كما هو معلوم للجميع.

إن معنى خاتَم النبيين وفقًا لما تقدم هو أنه هو أفضل الأنبياء وأهمهم رسالة ورسالته هي خلاصة وخاتمة الرسائل السماوية، كما أنه أفضلهم خلقًا وأرفعهم منزلة وهو زينتهم وهو الذي لم يأت من يدانيه في النبوة قبله ولن يأتي بعده، ومما يؤكد هذا الفهم أن التراث العربي يزخر بأمثلة عديدة على استخدام الخاتم والخاتمة تفيد وتعني ما تقدم شرحه ومن هذه الأمثلة نختار ما يلي: قال أحدهم في رثاء أبي تمام:

فجع القريض بخاتم الشعراء      وغدير روضته حبيب الطائي  (وفيات الأعيان ج1)

قال محمد النشار الشربيني: ما أحسن قول من قال:

الشافعي إمام كل قبيلة

زادت مناقبه عن الآلاف

.

ختم النبوة والولاية ربنا

بمحمدين هما لعبد مناف

(التحفة السنية)

قال الرسول : “أنا خاتم الأنبياء وأنت يا علي خاتم الأولياء” (لتفسير الصافي لسورة الأحزاب).

قال النبي لعمه العباس بن عبد المطلب: اطمئن يا عم فإنك خاتم المهاجرين في الهجرة كما أنا خاتم النبيين في النبوة” (كنز العمال المجلد السادس ص 158)

ومن المعلوم أن عليًّا كرم الله وجهه ليس آخر الأولياء كذلك العباس لم يكن آخر المهاجرين. وهنالك كم هائل من الأمثلة لا يتسع المجال لحصرها وأي متتبع أو قارئ لكتب التراث سيجد منها الكثير. وكما أن من معاني الخاتم هو الأداة التي تستعمل للختم، فإن محمداً  هو بمثابة هذه الأداة التي تستخدم للتصديق ولإضفاء الشرعية على الوثائق، ونرى أن الأخ الكريم قد اهتدى إلى هذا المعنى في رسالته، وهذا الجانب يحمل معان رائعة، ومنها أن مضمون رسالة محمد التصديق على نبوة الأنبياء السابقين وإعادة الاعتبار إلى من كُذب منهم وإبراز صدقهم للعالم أجمع، ومن أبرز من صدّقهم الرسول هو المسيح بن مريم الذي لم يصدقه قومه من اليهود ولم يصدقوا بأن أمه ولدته بغير أب بل اتهموها بالزنى، ثم في نهاية المطاف اتفق اليهود والنصارى على أنه مات ملعونًا على الصليب وإن كان النصارى يعتقدون بأن في هذا الموت افتداء البشرية من خطيئة آدم وفي ذلك كفارة للبشرية جمعاء إلا أنهم يقرون بأنه مات ملعونًا، مع أن اللعنة هي شيء قلبي ولا يمكن أن يتصف بها رجل صالح ناهيك عمن هو إله أو ابن إله، فأصبح المسيح مشكوك المولد ملعون الممات عند قومه الذين كذبوه، وبقي هذا الأمر على ما هو عليه، ولم يأت ما يجلوه حتى جاء الإسلام ومحمد وبرأ السيدة مريم من الزنى وأكد ولادة المسيح بغير أب، وبيّن أنه قد نجا من الموت على الصليب، ودرأ عنه اللعنة التي أحاقها به أعداؤه واعترف بها من ظنوا أنهم أتباعه، والآن تجد أن كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم متفقون على أن المسيح ولد بغير أب وعلى أنه قد نجا من الموت الصليبي، وإن كان بينهم اختلاف في فهم كيفية النجاة والتي نرى فيها نحن الأحمديين ما لا يرى غيرنا من المسلمين، وقد نذكر هذه القصة في موضع آخر إن شاء الله، وبذلك فإن الرسول والقرآن قد قدما خدمة ًجليلةً للمسيح والمسيحية الحقة لمن كان من المتدبرين.

كذلك فإن الإسلام قد دافع عن كل الأنبياء السابقين وأزال الشبهة عنهم، ودفع ما وصموا به من أخطاء فادحة وفجور وكذب نسب إليهم، وتجد في الكتاب المقدس الكثير من هذه الأقاصيص التي تصم الأنبياء بصفات وآثام شنيعة، فدافع رسول الإسلام والقرآن عنهم بأن طهرهم جميعًا من هذه الافتراءات، ونجد أن القرآن الكريم قد تحدث عن كل الأنبياء بكل الاحترام ولم يصم أحدًا منهم بوصمة عار بل أنه أيضًا جعل ضرورة الإيمان بهم جميعًا ركنًا من أركان الإيمان التي لا يقوم صرح الإيمان إذا لم يتوفر أحداها، فبذلك يكون الرسول قد صدّق الأنبياء السابقين جميعًا، بل ألزم من يصدّق به أن يصدقهم دون استثناء، وصادق على نبوتهم وختمهم بختم النبوة وأزال كل الشبهات عن نبوتهم، وبذلك يكون قد طوى ملفًا من الافتراءات كان لا بد له أن يطويه بصفته سيد الأنبياء وأباهم الروحي، وهذه المهمة التي وكلت إليه لا تكون إلا لسيدهم ولأعظمهم بالضرورة، ومجيئه في آخر الزمان تستلزمه هذه المهمة إذ لو جاء في أول السلسة لوجب عليهم جميعًا أن يتبعوا دينه وشريعته، ولما كان هنالك أي مكان للأديان السابقة التي اقتضتها الحكمة الإلهية للتمهيد لهذا الحدث العظيم.

ونحن إذ نبين أنه صلى الله عليه وسلم ليس بآخر النبيين وإنما خاتمهم فمن الطبيعي أن يبرز سؤال يطرح نفسه وهو هل سيُبعث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أنبياء جدد؟

والجواب هو نعم، فهذا ما يؤكده القرآن وما تبينه الأحاديث وما يتفق عليه المسلمون، حيث يعتقد جميع المسلمين بمقدم إمام مهدي بعد الرسول لإصلاح الأمة الإسلامية، وهم إن كانوا مختلفين على شخصه إلا أنهم يعتقدون بأن هذا الإمام هو مهدي من الله أي أنه يتلقى الوحي من الله ليقوم بهذه المهمة، والقرآن الكريم يؤكد أن الأنبياء ما هم إلا أئمة مهديون يهدون بأمر الله حيث يقول

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (الأنبياء: 73-74)، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (السجدة: 23-25).

وهذا النبي في أمة محمد هو من أتباع الرسول ويحصل على النبوة كونه تابعًا لسيده خاتَم النبيين، كذلك فإن القرآن يبين أن الطريق مفتوحة أمام كل من يطع الله ورسوله خاتم النبيين ليصل إلى مراتب روحية من ضمنها النبوة حيث تقول الآية الكريمة:

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (النساء: 70).

وهذه هي الدرجات الأربع (الصالحية، الشهادة، الصديقية والنبوة) والتي ينالها من يطع الله والرسول وعلى رأسها النبوة، أي أن كونه خاتم النبيين فسيأتي من بعده أنبياء بشرط أن يطبعوا بطابعه ويختموا بختمه ويكونون من أتباعه ومن أمته ولا يأتون بما ينقض رسالته لأنه هو الخاتم الذي يمنحهم هذه السمة فإن حاول أحدهم أن ينقض رسالته فهو بذلك يفقد شرعيته لأنه منح هذه الشرعية من خلال هذه الرسالة ومن خلال هذا النبي، وهنالك شواهد كثيرة على ذلك في القرآن والسنة ومن أهمها ما ورد في الفاتحة

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (الفاتحة: 6-7)

وكذلك دعاء الصلاة الإبراهيمية في الصلاة الذي يدعوا فيه المسلمون أن يصلي الله ويبارك على محمد وعلى آل محمد كما صلى وبارك على إبراهيم وعلى آله، ومن المعلوم أن هذه الصلاة وهذه البركة لم تكن إلا النبوة التي كانت في ذرية إبراهيم وكل المسلمين يدعون الله أن ينال آل محمد ما نال آل إبراهيم، وهذه الميزة التي يحملها خاتم النبيين لم تكن لأحد من قبله ولن تكون لأحد من بعده وهي أن أتباعه ينالون النبوة باتباعه، وهذا الفهم ليس بجديد بل كان يدركه الصحابة وأوائل المسلمين ففي سياق كلامنا قال الإمام علي كرم الله وجهه حول خاتم النبيين:

” الخاتم لما سبق والفاتح لما انغلق”

وما انغلق هو باب النبوة الذي أغلق بعيسى وفتح بمحمد .

وضمن هذا الإطار نؤمن نحن أفراد الجماعة الإسلامية الأحمدية بالإمام المهدي والمسيح الموعود الذي نحن من أتباعه والذي نال النبوة باتباعه لسيده محمد الذي بشر بمقدمه من قبل ودعا المسلمين إلى اتباعه ومبايعته ولو حبوًا على الثلج، وسماه بالمسيح على سبيل المجاز لتشابهه الكبير مع عيسى بن مريم في كثير من النقاط، وبث البشارات ووضع الأسباب والوسائل لجعل المسلمين يصدقونه، وهذا يندرج في جانب التصديق لمن بعده من الأنبياء التابعين لشريعته.

أما كون الإسلام هو آخر الشرائع وهو الدين عند الله فالقرآن يصرح بذلك في مواضع كثيرة منها ما يلي:

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (آل عمران: 20) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (آل عمران: 86).

والآن نعود إلى ما فهمه الأخ الكريم من الآيات القرآنية التي ساقها ليثبت أن المسيح عيسى بن مريم هو آخر الأنبياء ولم يقفى عليه بأحد فنقول لأنه بالفعل هو آخر أنبياء الأمة الإسرائيلية وقد أقر القرآن الكريم ذلك وبينه، ولكن هل في كونه آخر أنبياء بني إسرائيل فضل أم في ذلك نقمة على بني إسرائيل؟!!!

حيث أنه يشكل بذلك إيذانًا بانقطاع نعمة النبوة عن الأمة الإسرائيلية وانتقالها إلى أمة تعمل أثمارها وهذا ما يقوله المسيح بلسانه كما ورد في الإنجيل حيث قال:

“لذلك أقول لكم إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره، والذي يسقط على هذا الحجر يترضرض والذي يسقط هو عليه يسحقه” (متى 21: 43-44)

ومن المؤكد أنه مع كونه آخر أنبياء بني إسرائيل فهو لم يكن خاتمهم أي أعظمهم وأفضلهم بل كان موسى هو أعظم أنبيائهم، وهذا ما يؤكده المسيح بلسانه عندما بيّن بأنه لم يأت لنقض ناموس موسى أي شريعته: “ما جئت لأنقض الناموس بل جئت لأتممه”. في ترجمة أخرى: “لا تظنوا أني جئت لأُبطل الشريعة أو الأنبياء، ما جئت لأبطل بل لأكمل” (متى 5: 17-18)

ومما يؤكد ما ذهبنا إليه أن نفس الآيات التي اجتزأ الأخ الكريم أجزاء وأخرجها من سياقها تبين بكل وضوح ما قلنا سابقًا فلننظر إلى هذه الآيات:

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (البقرة: 88) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (المائدة: 45-47).

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (الحديد: 27-28).

ومن ذلك نرى أن الحديث في البداية عن الأمم السابقة وعن التوراة وما جاء فيها من أحكام وفي النهاية عن أن المسيح كان في آخر السلسلة الإسرائيلية وأن ما جاء به هو لهم أي لبني إسرائيل لأنه يقول “على آثارهم” أي آثار بني إسرائيل.

ولقد وصف القرآن الكريم المسيح بأنه آخر أنبياء بني إسرائيل وآخر أنبياء الأمم السابقة ليؤكد أن صفحة تلك الأمم قد طويت والآن قد فتح الله صفحة جديدة. أما الحصر والقصر الذي اتهم به الأخ الكريم رسول الإسلام والإسلام فهو ليس من الإسلام وإنما في حقيقة الأمر هو في رسالة المسيح وغاية مقدمه حيث يؤكد هو بنفسه أنه رسول إلى بني إسرائيل فقط:

“فأجاب: لم أرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل، ولكنها جاءت فسجدت له وقالت: أغثني يا رب، فأجابها: لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين فيلقى إلى صغار الكلاب” (متى 15: 24-27)

فهو فقط لخراف بيت إسرائيل الضالة أي أنه لفئة محددة من الناس علاوة على أنه لم يغير شيئًا من شريعة موسى ولم يكن ليغير، فعمله مقتصر على قوم بعينهم ولغاية محدودة، وهذا ما يؤكده القرآن حول رسالة المسيح حيث يقول تعالى:

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (الصف: 7).

فهدفه تصديق التوراة والتبشير بمقدم أحمد، ولا شأن له بالأمم الآخرين بعكس محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسل للناس كافة بنص القرآن:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سبأ: 29)

وفي الواقع تقتصر مهمة النبي في التبشير والإنذار ولا يطلب منه أن يجبر الناس على الإيمان وهذا هو معنى القصر الذي ظن الأخ الكريم أنه يعني المحدودية في الرسالة.

إن ما حدث للمسيحية من بعد المسيح وما جعلها دينًا للناس من غير بني إسرائيل هو مما يخالف نص الأناجيل وكلام عيسى ، وهذا كله من نسج بولس الذي جعل الدين المسيحي وأتباعه جميعًا في خدمة قومه من اليهود إلى الأبد، وذلك بمكيدة جاء الإسلام كي يكشفها. وعلى العالم المسيحي وبالأخص نصارى العرب أن يهبوا للخروج من هذه المكيدة وأن يتبعوا نبيهم ابن قومهم الذي أكرمهم ولم ينظر لهم نظرة دونية مقارنة مع قوم آخرين بعكس ما رُوي على لسان المسيح زورًا وبهتانًا في وصف من هم ليسوا من بني إسرائيل في المثال السابق، بل ساوى بين أجناس البشر جميعًا، وأزال الفوارق في الجنس واللون واللسان والعرق بين الناس، فماذا تختارون يا إخواننا النصارى أن تكونوا سادة على مائدة محمد أم ما وصفكم به الإنجيل من المخلوقات التي يقذف لها الفتات؟!

ولكي تكتشفوا الخديعة التي أوقعكم فيها بولس فما عليكم إلا أن تقارنوا ما ورد على لسان المسيح في الأناجيل وما ورد على لسان بولس في رسائله والأمثلة كثيرة نستطيع أن ندلكم عليها إن أحببتم، فأعيدوا النظر في إيمانكم وفي دينكم ولا تضيعوا جهدكم في محاولة النيل من الإسلام ومن كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، لأن ما قد ترونه ضعفًا أو تعرضًا أو تضادًا أو اختلافًا إنما هو ما تسمعونه من آراء من فئات ومذاهب من المسلمين لا تحمل الحقيقة الأكيدة النابعة من معين الإسلام ألا وهو القرآن وما لم يعارضه مما نقل من السنة، وهذا جميعه ستجدون له الأجوبة الشافية عندنا نحن جماعة الإمام المهدي عليه الصلاة والسلام.

أما كون القرآن مصدقًا للكتب السابقة فهذا صحيح لا شك، ولكن ماذا يعني هذا التصديق؟!

إن القرآن الكريم بصفته الكتاب الذي أنزل على خاتم النبيين فهو الوسيلة التي يستعملها الرسول صلى الله عليه وسلم في تصديق الأنبياء ففيه ومنه الآيات التي تثبت صدقهم وتعطيهم حقهم.

أما كون القرآن تصديق الذي بين يديه فمن معانيها أنه يقر بصدق نزول هذه الكتب من الله ولكنه لا يقر بأنها ما زالت صحيحة كما أنزلت، بل على العكس تمامًا فنزوله إنما يؤكد بأن هذه الكتب قد اعتراها التغيير والتحريف أو القصور كونها كانت محدودة بقوم وزمن معينين فلم تعد صالحة الآن، فالآن قد جاء دوره فلا حاجة لها، فهو يعترف بها كما يعترف بالأنبياء الذين أتوا بها، ولكنه هو الكتاب المهيمن على كل الكتب السابقة كما في الآية التالية:

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (المائدة: 49)

ومن معاني التصديق أيضًا كذلك أنه جاء مصدقًا للأنباء المذكورة في الكتب السابقة عنه وعن المصطفى الذي أنزل عليه، فنزوله جاء مصدقًا لهذه الكتب ودليلاً على صدقها في هذه الأنباء، فمن آمن بتلك الكتب عليه أن يؤمن به.

ومن لطائف معاني التصديق هو أن ما ورد في الكتب السابقة وصدقه القرآن وأيده وأقره فهو صدق، أي أنه المعيار لصدق ما هو موجود حاليًا في الكتب السابقة فما صدقه فهو صحيح وما لم يصدقه فهو غير صحيح.

وفي هذه المعاني كلها رفعة لمكانة القرآن عن الكتب السابقة وهذا ما يحتمله معنى التصديق فيجب أن لا ننسى أن المنطق يفرض أن ما يثبت صدق شيء أو شخص ما لا بد أن يكون ما هو أصدق منه. أما قول الأخ في رسالته أن الرسالة القرآنية هي دعوة للعرب إلى الكتابية (النصرانية)، دين موسى وعيسى معًا؟! فنسأل الأخ الكريم من أين استنتج هذا الاستنتاج؟ وهل النصرانية هي دين موسى ودين عيسى معًا؟ وكيف وحّد بين الفريقين؟ وهل هذه الدعوة هي لدين نوح وإبراهيم أيضًا إذ أنه قد استند في هذا الفهم على الآية الكريمة:

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (الشورى: 14)

ومن الواضح أن هذه الآية تتضمن أن الأساس واحد في الأديان السماوية وأن ثمة اتفاق في الأمور الأساسية كوحدانية الله ومبادئ الحق والعدل وما إلى ذلك وهذا ما تقوله الآية وليس ما ذهب إليه. ويستند الأخ الكريم على الآيات التالية ليؤكد صحة ما ادعاه من أن القرآن هو دعوة إلى الكتابية والآيات هي قوله تعالى:

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (القصص: 53-54) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (النمل: 92-93)

ولكنني بعد أن حاولت أن أجد ما يعتقد أنه “نص القرآن القاطع” على صدق دعواه، وهذا النص يفترض أنه في الآيات السابقة، لم أجد أي جانب يمكن أن يستند عليه إلا ما لعله يعني بذلك أن نقابل كلمة “مسلمين” في الآيتين، وبما أن أهل الكتاب في الآية الأولى قالوا عن أنفسهم أنهم كانوا من قبله مسلمين وأن الله يأمر الرسول أن يكون من المسلمين إذن فهو منهم وهم منه، فإن كان الأمر كذلك فهل يدرك الأخ الكريم أن الإسلام كمصطلح والذي يعني الدين الذي أنزل على محمد يختلف كثيرًا عن الإسلام لغة والذي ورد في مواضع عديدة من القرآن كسمة للعابدين لله المخلصين المسلّمين وجوههم له؟ وأن الإسلام كدين لم يكن موجودًا بالطبع قبل محمد صلى الله عليه وسلم، أما ما سماهم القرآن بالمسلمين قبل ذلك فهذا على سبيل أنهم كانوا متبعين لأديانهم السابقة بإخلاص مؤمنين بالله مسلمين وجوههم له، فهل يوجد ما يؤكد دعواه في القرآن حول أن دين السابقين من أهل الكتاب كان الإسلام أو سمي بالإسلام؟ وإن كان الأمر كذلك فعلى أهل الكتاب أن يتبعوا من جاء بالدين الذي سمي الإسلام لأنه دينهم أيضًا وإذن لانتهت قصة الخلاف الطويلة هذه.

ويتابع الأخ الكريم فيقول: (فهكذا محمد “نبي ورسول” باطلاعه على “الغيب” المنزل في الكتاب الإمام والكتاب المنير، أي التوراة والإنجيل، ونقله إلى العرب في “تفصيل الكتاب” بالقرآن العربي، وتعريب التنزيل يسمى تفصيلاً، وساق في نهاية حديثه الآية الكريمة التالية كدليل:

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (الأَنعام: 115)

ونعود فنقول من أين قد استنتج هذا الكلام كله، وعلى ماذا استند في قوله أن (تعريب التنزيل يسمى تفصيلاً) هل في الآية السابقة أو في قواميس اللغة العربية أو أمهات كتبها ما يؤكد هذا القانون؟ ثم ما هو الغيب الموجود في التوراة والإنجيل الذي اطلع عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم ونقله إلى العرب هل يوجد مثال واحد على ما قال؟!

كذلك فإن القول بأن القرآن الكريم هو تفصيل للتوراة والإنجيل فهذا الأمر لا يستحق الدحض إذ أنه بمجرد النظر إلى الكتابين فسنجد أن القرآن الكريم لا يتجاوز حجمه خمس الكتاب المقدس فهل يكون التفصيل أقل من الموجز؟ كما أن الفارق شاسع في المواضيع بين الاثنين فهل يكون تفصيل الموضوع حديث في موضوع آخر.

وخاتمة القول إن كل ما حاول الأخ الكريم إثباته من خلال بعض الآيات القرآنية وكل ما فهمه في واقع الأمر يختلف عن سياق ومفهوم القرآن والإسلام وما ورد عن رسول الله من السنة الشريفة، فهل فهم الأخ الكريم القرآن أكثر ممن أنزل عليه القرآن وجاء به؟ وهل زل الرسول وانحرف عن مضمون رسالته وأخذ يبشر بغير ما أنزل إليه؟!

إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد شدد على أن القرآن الكريم هو الحكم على أحاديثه، إذ قد يطال حديثه التغيير والتزوير، فأمر بأخذ ما روي عن أنه حديثه وعرضه على القرآن فما وافق القرآن فعلى المسلمين الأخذ به وما خالف القرآن فعليهم تركه، لذلك فمنبع الإسلام الصحيح يبقى دائمًا نقيًا لمن اتبع هذا القانون، وما ضل عامة المسلمين إلا بعد انحرافهم عن هذا المنبع وابتعادهم عن هذا القانون، وما ضل النصارى إلا بعد أن انحرفوا عن منبعهم ألا وهو الإنجيل واتبعوا ما قال بولس من كلام ورسائل تخالف ما جاء على لسان عيسى في الأناجيل نصًا وروحًا.

كما أن القرآن الكريم إن كان يدعو الناس إلى النصرانية أو الكتابية التي هي دين عيسى وموسى، الدين الذي وحده الأخ الكريم في مقاله، فالحكم على ذلك هو القرآن نفسه. فهل نجد فيه ما يؤيد عقيدة التثليث أم ما ينقضها ويخالفها؟ وهل يوجد في القرآن الكريم ما يؤيد كلام بولس من أن المسيح هو ابن الله أو أنه هو الله أم يوجد فيه ما ينفي ذلك ويعارضه؟ وهل محمد صلى الله عليه وسلم كان قد أمر الناس أن يدينوا بدين أهل الكتاب أم أمر بمخالفتهم في اعتقاداتهم وعاداتهم وتقاليدهم مع عدم الإساءة إليهم؟ إن سياق القرآن وواقع الحال ومنحى الدين الإسلامي تؤكد أن لا صحة لهذا الإدعاء. وأخيرًا نقول، إن ما ذهبتَ إليه يا أخانا الكريم لا يتفق مع النصوص التي سقتها إثباتًا لحجتك ولكننا مع هذا نحترم محاولتك الوصول إلى الحقائق بالبحث والتفكر والتدبر، وهذا هو الطريق السليم للوصول إلى الحقائق ولكن علينا أن نحاول التفكر والتدبر بتجرد ومنطق وعلم، وجعلنا الله وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونحن نرحب بالإجابة على كل ما يجول في خاطرك حول الإسلام ورسول الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، ونتمنى أن تستمر في التدبر والتفكر بما لديك وما لدينا، وأن تطلب من الله أن يهديك وإيانا إلى الحق حيثما كان وهذا منبرنا مفتوح للحوار العقلاني بالحجة والحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن فأهلاً بك، وأختم كلامي بقول الله تعالى:

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران: 65).
Share via
تابعونا على الفايس بوك